المشنوق في ذكرى تويني: “أستاذ” تفوّق على “المعالي” و”السعادة”

كلمات 17 يونيو 2017 0

كلمة وزير الداخلية والبلديات الأستاذ نهاد المشنوق

حفل تكريم الراحل الأستاذ غسان تويني

17 حزيران 2017

عزيزتي نايلة

السيدات والسادة،

كما ذكر الأستاذ مروان، فإنّ الأستاذ غسان هو من أتى به إلى جريدة النهار، لكن ما لم يذكره الأستاذ مروان أنّه من أتى بي إلى جريدة النهار أيضاً.

أُتيح لي أن أتعرّف إلى شخصيات عدّة في الراحل غسان التويني. فهو لم يكن شخصية واحدة، بل كان مجموعة شخصيات مختلفة صنعت الفرادة والتميّز الذي تمتّع بهما، وساعده على ممارسة العمل طوال ستين عاماً، من دون تقاعد.

الشخصية الأولى التي تعرفت إليها هي شخصية الصحافي. فأنا عملت معه عن بعد لسنوات. حتى أيام كان سفيرا، كان يتدخل في المقالات. إتصل بي يوماً وقال لي إن ما كتبته دقيق إلى درجة أنّه غير قابل للتصديق، وطلب أن أدخل بعض المغالطات، وحين سألت عن الداعي، أجاب: “كي يتقبّله القرّاء أكثر. المقال واضح جدّاً، وفيه من المعلومات ما يجعله أشبه بتقرير”.

الأهم أنّه كان صحافياً. وقد أتيح لي منذ الصغر عندما دخلت الصحافة في الثامنة عشرة من عمري، أن أعاصر عدداً من عمالقة الصحافة، وكنت أراه كيف يعم. يبدأ يومه بمتابعة الشباب العاملين في الجريدة عبر إجراء عشرة اتصالات للسؤال عن المواضيع. وكان يرشدهم كل في اتجاهه، من السياسة إلى الرياضة والاقتصاد والفن والثقافة. وفوجئت بطريقة عمله. إذ كان يحضر لإصدار الجريدة، وكان يعمل لمتابعة كل المواضيع.

وأقول لكم إنّه لم يكن “صيّاد رأي عام” كما شبّهه الصديق جهاد الزين، بل أعتقد أنّه كان أيضا “صيّاد كفاءات”. كان يقرأ كل الصحف، حتى الصغيرة منها، ويتابع كل المواضيع لكل صحافي لديه من الكفاءة والمتابعة والقدرة والصفات، كي ينتبه له، ويأتي به ‘لى النهار.

وسط كل هالة الأستاذ غسان التويني لم يتخلّ عن ممارسة دوره العملي كصحافي، ولم يتردّد يوماً في أن يتدخل كمخبر لمدّ الجريدة بالمعلومات، فضلاً عن قلقه الدائم على مقالته اليومية التي كانت تنشر ستة أيام في الأسبوع.

في أي مكان من العالم العربي لا اعتقد ان احدا عمره بين 45 و55 سنة اليوم، لا يعرف الراحلين الكبيرين محمد حسنين هيكل وغسان التويني. لا ثالث لهما. لقد كانت النهار في انتشارها، بعد اغتيال الأستاذ كامل مروه وتأثيرها العربي الكبير، جزءًا من صناعة الرأي العام في العالم العربي وفي مصر الناصرية وفي العراق الملكي ثم البعثي، وفي مسلسل الانقلابات الذي لم ينتهِ في سوريا، وكان على صلة بها بشكل أو بآخر لأسباب حزبية وليس لأسباب إعلامية.

لذلك، على الرغم من كل الظروف الصعبة التي تمرّ بها الصحافة، تستمرّ النهار بقوّة الدفع التي أسّس لها الأستاذ غسان. ولا ننسى بالطبع ولو للحظة فورة وثورة واندفاع الشهيد جبران التويني بعد اغتياله.

الشخصية الثانية هي شخصية السياسي. وهي كانت شخصية ملتبسة دائماً. فهو لم يدخل السلطة، إلا طامحا ليكون في المعارضة الداخلية أو الجهة الناقدة لسياسة الحكومة المشارك فيها. ويحتار زملاؤه في قدرته على نقدهم وكأنّ بعيد عنهم. السلطة كانت مخالفة لطبيعته ولمهنته ولقدرته ورغبته في الانتقاد وسعيه وراء الخبر ومواجهته أيّ قضية مثارة داخل الحكومة وهو ليس مواقفاً عليها. كان يعبّر عن أيّ قضية مثارة داخل الحكومة، وهذا ليس سهلاً. وأحياناً أعاني من الأمر نفسه، حين لا أوافق على ما تقرّه الحكومة.

لقد كان شخصية عامة ملتبسة كل الوقت. لم يكن دائماً حضوره السياسي صافياً. حضوره السياسي في السلطة كان أقرب إلى محبّ للجريدة أو ساعٍ لتطوّر الجريدة أو راغب في الحصول على الخبر، وليس حضور الساعي إلى تطوّر في منصبه السياسي.

لذلك كان اسمه الأستاذ غسان. لم يكن يرغب في أن نناديه معالي الوزير أو سعادة النائب. هذا دليل التصاق اسمه بالجريدة والتصاقه بالكتابة. وهو عمل كديبلوماسي وكانت قدرته على النجاح في الديبلوماسية أكبر بكثير من أن يغوص في زورايب السياسة اللبنانية، إن حين ترشّح في دائرة عاليه أو حين دخل الوزارةز

لم نكن نعرف: هل هو مع الطلاب المضربين؟ أو مع الإدارة المقصّرة؟ وذلك حين كان وزيراً للتربية. حاور الطلاب المضربين وكاد أن يقف إلى جانبهم عن قناعة، واستقال في آخر المطاف. كما أنّه دخل السجن 3 مرات بسبب مقالات ومواقفه.

الشخصية الثالثة التي تعرفت إليها في السنوات الاخيرة هي شخصية الإنسان. لا يغيب عن بالي مقالته الشهيرة التي يقول فيها: “أشتاق إليك كلّ يوم يا حبيبي”. لم يحقد، ودعا إل ىدفن الأحقاد والثأر يوم دفن الشهيد جبران.

كان همّه النهار و السلام والبعد عن الحقد. كما كان مقلّاً كثيراً في كلام المديح أو الثناء. حتّى حين كان يمتدح أحدنا، كان يسارع فوراً إلى انتقاد جان ما. كان يكتب، كما يقال، بالسكّين، ويتحدّث بطبع حاد بكل تعابيره وانتقاداته.

الشخصية الرابعة هي شخصية الحزبي. الأستاذ غسان ترك الحزب القومي السوري وانتقده وكتب عنه وانتقد تجربته في معرض دفاعه عن الحريات. وقال إنّه لا يمكن أن يكون في حزب يميني متسلّط وشبه عسكري في ذلك الحين. لكنّه لم يتخلّ يوماً عن العقيدة، وكنت تراه دوماً حاداً. وكنت تراه لا يقدم شيئا إلا وفق “الحدّة المصيبة”، المفيدة لسامعها، إذ ينزعج منها في المرة الأولى ثم يتعوّد عليها مع الوقت.

ختاماً،

أشكر حزب الوطنيين الأحرار وشبابه على اختيار المناسبات الوطنية للاحتفال، والتي تذكرنا وتحثّنا وتدفعنا إلى أن نتشبّه بهؤلاء العمالقة على مستوانا.

كانوا يقولون في مصر إن الميت لا يموت اذا لم تنزل نعوته في الأهرام، واليوم أقول لنائلة إنّه في الظروف الصعبة وفي التطور غير المسبوق وفي الظروف السياسية التي تنتقل من أصعب إلى أصعب، أقول لها إنّ الخبر لا يكون جديدا إلا إذا نُشر في النهار.