كلمة وزير الداخلية الأستاذ نهاد المشنوق في مؤتمر وزراء الداخلية العرب

كلمات 05 أبريل 2017 0

أصحاب السموّ الملكي،
معالي رئيس الدورة،
معالي الصديق وزير الداخلية البحريني الشيخ راشد بن عبد الله آل خليفة،
معالي الأمين العام لمجلس وزراء الداخلية العرب،
طبعا قبل ذلك صاب السموّ الملكي الأمير محمد بن نايف، الرئيس الفخري لمجلس وزراء الداخلية العرب،
للمرة الثانية نلتقي هنا، في هذه البلاد الجميلة، بأهلها وناسها، والواعدة باعتدال قواها السياسية، والرائدة في تجربة استيعاب الاحزاب السياسية العقائدية، ضمن منظومة الدولة والمؤسسات وحكم القانون، رغم التعقيدات والصعوبات والإخفاقات.
هي المرة الرابعة أيضاً التي أتشرّف باللقاء مع الأخوة الزملاء وزراء الداخلية العرب، مستذكراً في كلّ مرة العبارات نفسها تقريباً، الراحل الكبير ولي العھد السعودي الراحل الكبیر، الأمير نايف بن عبد العزيز، أمیر الحكمة والعزیمة والبصیرة، الذي كانت جھوده في أصل اجتماع وزراء الداخلیة العرب، كمؤسسة للتعاون العربي في المسائل الأمنیة والتنظیمیة وقضایا صون الاستقرار ومكافحة الجریمة.
هي تجربة رائدة، يتابع مسؤوليتها بأمانة ومثابرة صاحب السموّ، الأمیر محمد بن نایف، حارساً وولياً لعهد العروبة المسؤولة، الرحبة، المتطلّعة ‘لى مستقبل آمن لهذه الهوية التي لا هويّة لنا غيرها.
مثلكم، وأنا أتحضّر لهذا الإجتماع عدتُ إلى ملاحظاتي التي دونتها خلال لقاءاتنا السابقة، وإلى الكلمات التي قلتها هنا في تونس كما في مراكش والجزائر. الملاحظة المتعبة التي خرجتُ بها، أنّ ما يمكن إضافته اليوم في كلمتي هو الإشارة إلى المزيد من التحديات التي تواجهنا، والمزيد من الأخطار التي تتهدّدنا.
فهل نجحنا في معالجة ما تداولنا بمعالجته خلال المرات الثلاث الماضية؟ وهل نجحنا في نقل الحلول وآليات العمل من مستوى التصوّر العام إلى مستوي السياسات العملية؟
من الظلم أن نقول إنّنا فشلنا بالطبع. تبرِّئنا من تهمة الفشل إنجازاتٌ جدية، يعرفها كلّ وزير منكم في دولته وأعرفها أنا في لبنان، حيث نجحنا في توجيه ضربات استباقية للارهاب أنقذت لبنان من حمامات دم حقيقية. لكنّ الاستنتاج الغريب أنّه بموازاة هذه النجاحات كبرت التحديات وكبرت التهديدات. كأنّ هذا الارهاب وحش أسطوري، تقطع له رأساً فينبت مكانَ الرأسِ رؤوسٌ عدّة.
الجديد هذا العام هو أنّنا أمام التحديات التي أشرنا إليها في المؤتمرات السابقة مضافاً إليها تحديات إضافية، تكبر وتنمو لا بفعل تقصير أمني، بل بفعل ديناميات ثلاث مستمرّة ونشطة ومتحفزة ومترابطة.
أولاً: إنهيار فكرة الدولة الوطنية الجامعة في المساحة الأكبر من العالم العربي. ولا داعي هنا لتعداد الأمثلة من سوريا إلى ليبيا واليمن، وجزئياً ولو بشكل محدود العراق، الذي لا يزال يصارع لاستعادة نصابه الوطني، متمنّنين له التوفيق في المساعي التي يرعاها العرب ان شاء الله بأن تجري المصالحات الوطنية المطلوبة ليستردّ العراق عافيته ومكانته التي يستحقّها.
ثانياً: دينامية ندور حولها ونقول إنّها تدخّل إقليمي لكنها بصراحة سياسة إيرانية معتمدة في المنطقة منذ سنوات طويلة، ضمن تمدّد يأخذ بعض الـحيان الشكل المذهبي المعسكر، تشهد له الرعاية العقائدية والسياسية والأمنية والمالية لمئات الجهات في الدول المنهارة وفي الدول المرشّحة للانهيار وحتّى في الدول القوية الثابتة.
ثالثاً: دينامية الغلوّ والتطرّف، تارة بادّعاء الظلم من قبل الدولة وتارة بادّعاء مواجهة التطرّف المذهبي المقابل، من دون أن تتوافر حتّى الآن أطر جادة وفاعلة وعملية لما سميته في كلمات سابقة “استراتيجية الشجاعة الفقهية”. وهنا لا بدّ أن أخصّ بالشكر مؤتمر وزراء الإعلام العرب الذي عقد في الشهر الخامس من السنة الماضية متبنّياً اقتراحاً تحدثنا عنه سابقاً في جلسة مماثلة بأن يكون هناك إطار فكري برعاية الأزهر الشريف يتابع كلّ مسألة مواجهة الفكر المتطرّف، في الاعلام والتلفزيونات وفي كل الوسائل المتاحة، وخصوصاً في وسائل التواصل الاجتماعي التي طبعاً لها دور رئيسي وأساسي. حتّى لو أخذ هذا الكلام طابع المبادرة المصرية فأنا موافق سلفا.
هنا لا بدّ أيضاً من التنويه بالتجرية التي ترعاها دولة الإمارات العربية، لجهة تحويل فكرة التسامح والاعتدال إلى مؤسسات وديناميات في قلب المجتمع والدولة والمؤسسات. ولا بدّ من الاستفادة من هذه التجربة، بالتعاون طبعاً مع مؤسسة الأزهر الشريف ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومبادرات رائدة اخرى يحضرني منها الآن مركز المغفور له الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، ومبادرته للحوار بين المذاهب الإسلامية.
إنّ هذه الديناميات الثلاث، إنهيار الدول الوطنية، والتدخلات الإيرانية، وإزدهار الغلوّ والتطرّف، تتحالف معاً على أمن واستقرار مجتمعاتنا وتهدّد مستقبلنا ومستقبل أبنائنا وبناتنا ومقدّراتنا وهويّاتنا الوطنية على نحو غير مسبوق في تاريخ هذه المنطقة منذ الحرب العالمية الأولى وتنهيار السلطنة العثمانية.
ما تغيّر أيضاً منذ التقينا هنا قبل عام، هو ولادة مشهد دولي جديد، أساسه وصول إدارة أميركية جديدة، وهي إدارة يفترض أنّها تختلف عن سلفها، لا سيما في ما يتعلّق بأولوياتها وتوجّهاتها حيال منطقتنا وملفاتها.
والجديد أيضاً أنّ الدخول الروسي العسكري إلى سوريا أفرز معطيات ميدانية وسياسية جديدة في المشرق. سبق ذلك عاصفة الحزم، وبعد مرور سنتين على انطلاقتها في اليمن العزيز قد أرست توازناً استراتيجياً، من دون حسم الصراع لصالح الشرعية في هذا البلد، حتّى الآن.
نحن نتحرّك أمنياً ضمن هذا الفضاء السياسي والإقليمي والدولي الذي يمكن إيجاز تحدّياته بأنّه يرشّح منطقتنا إلى مرحلة انتقالية قد تطول ولو لسنوات. إنّ خطورة المراحل الإنتقالية أنّها تعطي متنفّساً للديناميات الثلاث التي ذكرت.
المشكلة الآن هي التي تحدّث عنها بعض الإخوان هي انتهاء معركتي الموصل والرقة، وبدء الهجرة المعاكسة. وفي الحالتين فإنّ المخاطر الإرهابية ستكبر بعد الموصل والرقّة ولن تصغر. إزاء هذه الواقع، تتجدّد الحاجة وتزداد إلحاحاً لإطار عربي صحيّ لمواجهة هذه التحديات.
لقد جاء في كلام سمو الامير محمد بن نايف على أنّه يتعذّر إلى حدّ كبير على أيّ دولة بمفردها ودون تعاون بقية الدول العربية معها أن تدفع المخاطر عنها وأن تصون وحدتها وأن تحافظ على سيادتها وسلامها واستقرار شعبها. إنّ هذه الأهداف الأساسية لأمن وأمان المواطنين واستقرار الدول هو ما يجب ان يحكم تعاوننا جميعا.
لن أكرّر الكلام عن التجارب السابقة عن مسألة التعاون الثنائي أو التعاون الثلاثي. أودّ أن أقترح بمناسبة هذا الاجتماع أن يقود صاحب السموّ الملكي الامير محمد بن نايف مبادرة إنشاء نواة صلبة بين الأجهزة الأمنية من مختلف الدول الحاضرة.
لن أسمّي أي دولة بل سأترك لصاحب المبادرة، إن وافق عليها، أن يختار الدول التي يمكن أن تبدأ معها عملية تبادل معلومات جديّة. بمعنى تشكيل آلية دائمة للتواصل والتنسيق والتعامل مع الوقائع الجديدة. يمكن مناقشة طبيعتها وطبيعة عملها والمناطق التي ستمثّلها، لأنّه لا يمكن بطبيعة الحال أن يكون لكلّ الأطراف الوقت والجهد للعمل معاً. وأتمنّى أن يسجّل الاقتراح في المحضر لمناقشته لاحقاً.
سأختم كلامي بهذه الجملة:
إنّ واحداً من دروس الحريق الكبير في الشرق الأوسط أنّ لا نجاة لدولة دون أخرى ولا نجاة فردية في مواجهة انهيار الدول. ولا نجاة فردية في مواجهة التغوّل الايراني. ولا نجاة فردية في مواجهة فكر متطرّف عابر للحدود وللهويات.
شكرا سيدي الرئيس.