المحروسة

مقالات 04 يوليو 2005 0

لا أعرف أيهّما اسبق في اْستعمال الوصف لبيروت. عبد اللطيف فاخوري أم حسّان حلاّق.
” المحروسة” الباقية بأهلها وساكنيها على عهدها من الحرية.
تحرسها عيونهم. لياليهم. نهارهم. علمهم. شهداؤهم. وسهرهم الّذي لا ينتهي.
هل هناك أكثر اطمئناناً من ساعٍ في دنياه في مكتبه، ينظر الى الأسفل فيجد أركيلة قرب رجل أو سيدة تتباطأ في حركتها الى حدّ الفرح؟
يوم الجمعة الماضي وزّعت بيروت على خمسة من الكبار شهادة الدكتوراه الفخرية. ولا يلتصق اسم بيروت بشيء كما هو بجامعة بيروت الاميركية.
في عِبق مباني الجامعة وحيّها تاريخ تقدّم العلم في بيروت وبدايته في العالم العربي.
المهم السيدات أولاً حتى في الدكتوراه.
فيروز حلم اللبنانيين. مقيمين ومهاجرين. يحملون صوتها في ذاكرتهم أينما ذهبوا وفي جيوب حقائبهم.
كانت وتبقى صوتهم وصوت قضاياهم لبنانية كانت أم عربية.
غنت لكلّ العواصم العربية. اكتشفت أجمل ما فيها. وبقي لبنان وطن اغنيتها. لم تتعب من كثرة “الحلا” قيماً وجمالاً في ما غنته لبيروت.
تلف حول على عنقها طرحة الدكتوراه، فيبدو الفرح على وجهها، وكأنّها فرحة اللبنانيين الذين لم يملّوا سماعها. فوجئ اللبنانيون بضحكتها في صورة الدكتوراه، وكأنّها لم تضحك من قبل.
الدكتور أحمد زويل العالم العربي الأول الذي حصل على جائزة نوبل في الكيمياء، القادم من بحر الاسكندرية ومن مدارسها وجامعاتها الحكومية والمكرّم الآن في ظل مجامع العلم في العالم.
يفتّش عن العالم أفوغادروفي تفتيته لذرّات الكون, ويخبرك عن الطبعة الأخيرة من النكات المصرية.
لا تفارقه مصر لا لغة ولا احساساً او حباً أينما ذهب.
لا يترك لها أن تعتب عليه لنسيانه مفردة من مفردات اللهجة المصرية وموسيقاها.
كأنه لم يدخل المختبرات الأميركية لسنوات حيث أُتيح لعقله أن يستيقظ على أهم ما في الدنيا من علوم.
ابتسامته ضحكة دائمة كلمّا ازداد علماً اْزداد تواضعاً.
حثّنا – نحن اللبنانيين- على الاستفادة من رياح الديمقراطية والهجوم على التغيير والهرب من سجن الفكر المؤامراتي.
بمعنى آخر افتحوا عقولكم لما يجري في العالم, اذ ان الذكاء أصبح اسلوب تفكير وليس كميّة معلومات.
جامعة ام اسلوب تفكير؟
أستاذنا غسّان تويني، أكبر الصحافيين العرب. مثابر على الحرية منذ نصف قرن. اصدار النهار بالنسبة اليه فعل حريّة وليس عملاً يومياً.
فرح بدكتوراه “الحريّة” أكثر من فرحه بشهادته القديمة من جامعة هارفرد في شبابه المبكّر.
تميّز عن زملائه بثيابه. لا يقبل الاّ بأن يتميّز. هذا هو الأستاذ غسّان, واذا سألت تحصل على اجابة يؤكّد فيها جهلك لما قصده أو لما لبسه.

رئيس الجامعة الأميركية الدكتور واتربوري اعتبره تسجيداً مثالياًٍ للقيم التي تسعى الجامعة الى ارسائها في نفوس طلابها، ومالكاً لحكمة عميقة وقوّة ملاحظة.
استاذنا غسّان تذكّر الرقيق الشفّاف باسل فليحان تلميذاً واستاذاً في الجامعة.
وتذكّر 14 آذار وحضّ 1431 متخرّجاً على أن يقتدوا بباسل فليحان في سعيه الى خدمة وطنه. وعيّن بعض القدّيسين صحافيين في الحديث عن رسولية الصحافة.

الآغا خان الزعيم الروحي للاسماعيلين الشيعة في العالم.
هم بضعة ملايين، لكنّه استطاع أن يجعل سيرتهم على كلّ لسان.
تربّينا على الروايات والأساطير عنه. فاذا به عصري، صاحب رغبة في دراسة الدكتوراه في الهندسة الاسلامية. لم يحقّّقها لأنه ورث عن جدّه الامامة مبكراّ.
يجمع بين الذوق الرفيع الأريستوقراطي والعمل على تخفيف أوجاع الفقراء في الوقت عينه.
مولع بالهندسة الاسلامية وبأحياء القمامة في القاهرة ويسعى الى تحويلها حدائق.
عصري الى درجة التعاون مع جامعة هارفرد في موقع هندسي على الانترنت،
وامامي لقرية متخلفةفي سوريا هي “السَالميّة”, الوحيدة المشهورة باسماعيليتها وبأدبائها وشعرائها في العالم العربي.
الدكتور ريتشارد دبس، حكاية أخرى من حكايات الاغتراب اللبناني الناجح عالمياّ.
هو عالم من علماء المال في كبرى المؤسسات الدولية التي لا نستطيع عد أرقام اموالها.
عمل بجهد كبير على رعاية عودة الجامعة الأميركية الى دورها الرائد بعد نهاية الحرب اللبنانية. وعد فصدق وجمع لها مئة مليون دولار والباقي على الطريق خلال ترؤسه مجلس امناء الجامعة في نيويورك لمدّة 13 سنة.
تقاعد الآن، لكنك حين تراه تعرف ما للجامعة من ودّ في قلبه وحماسة في عقله ، وهوما يطمئن.
هل هي جامعة أم اسلوب تفكير؟
الجواب عند الخمسة المكرمين.
الرئيس نجيب ميقاتي أقام حفل تكريم للخمسة الكبار أصحاب الدكتوراه الفخرية في السرايا .
المبنى عثماني. والمتكلّم عصريّ حتى النجاح الباهر في عالم تقنيّة الاتصالات الحديثة. “الجامعة الأميركية في بيروت شجّعت الحوار المفتوح ودعمت حرّية التفكير والتعبير والكتابة، وآمنت دائماً بقيم الاعتراف بالآخر، ولم تساوم يوماً على تحقيق الأفضل.”
اختصار حاد في الدقة لرئيس وزراء تخرّج في كلّّية ادارة الأعمال في الجامعة نفسها.
بلغت به الادارة حد اجراء انتخابات نيابية ناجحة دولياً أداءً وموعداً. ووضع على الورق كل الخرائط اللآزمة لاستجلاب مليارات من الدولارات كمساعدات دولية.
سمّاها “ميثاق بيروت”. ونسخة الرئيس المكلّف فؤاد السنيورة جاهزة. يسلّمه ايّاها بكبر الذي لم يترشّح على الانتخابات النيابية في طرابلس ليكون صادقاً مع شعبه أولاً،
ومع نفسه ثانياً. هو لم يحضّر الخرائط الاقتصاديّة لحكومته بل للبنان.
على بعد مئات الأمتار وقبل 24 ساعة كان هناك احتفال آخر.
تشييع الشهيد جورج حاوي المقتول وفق التقليد الدارج اخيرا. عبوة على قياس الشهيد.
جنبلاط وحاوي وبري
قُتل الزعيم الشيوعي الكبير. صاحب الحماسة الكبيرة، والضحكة الأكبر.
حين اكتشف في نفسه مرونةً لا يملكها عادةً شيوعي، ووطنية لبنانية عقلانية تقبل الآخر وتحاوره وقبل ذلك كلّه تساعده. كل هذا مع تماسك في التحليل والعمق.
حين اكتشف كلّ هذا، قُتل.
أقرب مكان سياسي للانفجار هو المختارة. تلقّى وليد بك الرسالة وأرسل من المختارة الى بيروت ودمشق وباريس وواشنطن رسالة تلفزيونيّة لا تحتمل الاجتهاد.
نبيه برّي رئيساً لمجلس النّواب.
اعتذر على التلفزيون من دمشق وقيادتها.
وفي اليوم التالي نزل الى الكنيسة ووقف في الصّف الأول مع سعد الحريري وبهيّة الحريري وستريدا جعجع وآخرين. نفس الذين وقفوا في الصّف الأول في تشييع سمير قصير. تغيّر وجه أو اثنان والباقي على حاله. وظهرت أكثر فأكثر القدرة الحديديّة “للبيك” على ادارة الأزمات حين ترك وصيّته لأهل الجبل بالهدوء لو حان قدره. دمعت عيون كثيرة الا عينيه. انه القدر لمن يسكن التاريخ مثل وليد بك.
بين التكريم الجامعي والتشييع الوطني، جرى كلام كثير. وملّت الكاميرات من كثرة استعمالها.
اجتمعوا في البريستول. الوجوه نفسها. اختلفوا على رئاسة برّي وانتهوا الى المطالبة باقالة الرئيس اميل لحّود. ضحك وليد بك وقال يجب تغيير جدول الأعمال. نعود الى لحّود في الوقت المناسب. الآن ننتخب الرئيس برّي ونؤلّف الحكومة. ثم نبدأ الحديث حيث انتهى. وهو قد انتهى أصلاً.
بعد الفوز قرّر أنصار الرئيس برّي انزال العقوبة بسكّان بيروت. اطلاق نار ومتفجّرات وألعاب ناريّة وحلويات. اختر ما تريد. ثلاثة اختاروا أن يُقتلوا برصاص الاحتفالات ، وسبعة أن يُجرحوا. ولم يجر احصاء الذين اختاروا الحلويات.
ألقت وزارة الداخليّة القبض على القتلى، واحتجزت الجرحى في المستشفيات بتهمة الاختيار السيئ لهم. وتركت الباقين أحراراً .
هل نسي مناصرو الرئيس برّي أن لا منافس له على الرئاسة. وأن نائبه زاده بتسعة أصوات فنال 99 صوتاً؟؟؟
العماد ميشال عون يشارك في الحكومة بعدما حافظ سعد الحريري على عهده باليد الممدودة وقام بزيارة جريئة ومقدامة لمنزل العماد في الرابية.
يبقى البحث عن الزعامة الضائعة هوالأساس عند الجنرال، وهذا ليس على جدول الأعمال.
البطريرك صفير تعب من السياسة وقرر العودة الى الوطنيّات المجردة.
“مصلحة الوطن”
سعد الحريري وقع في “الفخ” بغير رضاه. تصدّر طاولة الكتلة النيابية الجديدة والى يمينه السيدة بهيّة بخمارها الأبيض. عادت من مكّة المكرّمة حيث كانت تتعبّد وتدعو لأهلها الأحياء منهم والأموات والشهداء. وتدعو لنفسها بالصبر.
الكبرى في تاريخ لبنان هي كتلة النائب سعد الحريري.
هل الكبرى وصف لها أم استحقاق دائم عليها؟
عند المفاصل ستختار ما لا تريده. عددها، صفتها التمثيلية تلزمها فلا تستطيع الحياد. ولا تستطيع الرفض منعاً للاشتباك.
اذا قرّرت فالسُنة هم من قرّر, واذا امتنعت فامتناعٌ للسنّة. وعندها يختلّ توازن الوطن وأوّل من لا يريد هذا الاختلال هو زعيم السنّة ورئيس كتلتهم النيابية الوحيدة. ما العمل؟
الدعاء متوفر. لكنّ سحرة السياسة اللبنانية لن يُخيّروا السنّة بل سيُلزمونهم تحت شعار مصلحة الوطن. أوّل الالزام وليس آخره انتخاب نبيه برّي رئيساً لمجلس النوّاب لولاية رابعة تمتدّ أربع سنوات.
رحم الله مصلحة الوطن..القابعة الآن في حضن رئيس الوزراء المكلّف رجل الدولة المسؤول بامتياز فؤاد السنيورة.
كمن يشتري سيفاً بماله ويقف على حدّه. ويله اذا مال يميناً وويله أكثر اذا مال يساراّ.
يحتاج الواقف على حدّ السيف الى دعاءٍ كثير الى الله بأن يعطيه الحكمة والصبر والاقدام في الوقت المناسب.
ألم يذهب الرئيس رفيق الحريري مشواره البعيد الذي لا عودة منه تحت الشعار نفسه “مصلحة الوطن”؟؟
في الطريق نحوحفل الدكتوراه الفخريّة للخمسة الكبار، وبين تشييع جورج حاوي. أو في طريقك الى البريستول, أو الى اجتماع كتلة “تيّار المستقبل” ، أو الى ساحة النجمة لانتخاب رئيس جديد للمجلس ونائب للرئيس شيخ الشباب والأناقة والوفاء فريد مكاري – أينما كنت ذاهباً يُفاجئك عيد الموسيقى في وسط بيروت. موسيقى من كلّ الأنواع والألوان. شباب وصبايا من كلّ الأعمار. وفرحة لا تتوقّف الا عند الفجر.
خرزة زرقاء
في بداية المساء احتفلت الجامعة الأميركية بتخريج 1431 من تلاميذها. خرج عشرات الآلاف من التلاميذ وأهاليهم وأصدقائهم أكثر ايماناً بالحرّية. أكثر استعداداً للقتال السلمي من أجلها. الفضل لرئيس الجامعة ولكبير الحضور تاثيراً وفعلاً أستاذنا غسّان تويني.
حتى تيمور وليد جنبلاط الغائب نال من التصفيق الكثير عند ذكر اسمه كواحد من المتخرّجين.
الأهم من ذلك ان مستحقي الجوائز اثنا عشر . عشرة منهم من الفتيات واثنان فقط من الفتيان. انه عصر البنات. أخذوا التفوّق في العلم. مبروك.
ما هذه المدينة التي لا ترتاح، ولا تترك أحداً يرتاح، من أهلها وساكنيها وزوّارها؟
تفرح كآلهة اليونان. تغضب كالعظماء. تحزن كالفقهاء بهدوء ورزانة.
أي جامعة عربية تستطيع أن تمنح درجة الدكتوراه الفخريّة لمن تشاء، ولكن هل تستطيع ان تفرح بهم كما فرحت بيروت؟ وهل تستطيع أن تُفرحهم كما أفرحتهم بيروت؟
أي مدينة عربية تستطيع أن تُشيّع جورج حاوي دون أن تُعلن حالة الطوارئ وتُلزم الناس مساكنهم؟
أي عاصمة عربية فقيرة تستطيع أن تُعطي للغنى معناه المُطمئن مثل بيروت؟
شارع دبي؟ عفواً. مدينة دبيّ تضجّ بالمناسبات لكنّ لا أحد يعلم بها الا المحتفين أنفسهم. تعجّ بالأرقام الفلكيّة لكنّها لا تُعطي المال معناه.
أي مدينة تستطيع أن تفرح يومياً بحريتها؟
أي عروبة تستطيع أن تحضن كل هذه المناسبات. سياسيّة. شهادة. رئيس مجلس نوّاب جديد قديم. تكريم كبار. موسيقى من التاريخ وكذلك من المستقبل. كل ذلك خلال 72 ساعة.
لو كنت مسؤولاّ لطلبت من كلّ زائر عربي أن يُحضر معه خرزة زرقاء. وأن يترك “فضائل” بلاده السياسيّة حيث هي. عُذراً . لكن فيروز تقول في احدى مسرحياتها ” بحبّك يا اسوارتي بس قدّ زندي لأ”.
لا يخاف أحد. مناعتنا أكبر من أمراضنا وأقوى.
أبوبهاء
دولة الرئيس
لا زلت في بال رئيس الجامعة الاميركية الدكتور واتربوري. هوأحسن من تحدّث عنك حتّى الآن.
تذكرك في حفل تخريج الطلاّب هذه السنة. قال لهم ولأهلهم ولأصدقائهم ولسامعي الصوت “رفيق الحريري أعطاكم حياته”. واخترق التصفيق السماء.
تذكرتك خطيباً لحفل التخرّج في العام 1992 تُوزّع الفرح يميناً وشمالاّ وتتوجّع على الجرائم التي ترتكب بحقّ اتفاق الطائف.
الفرح لا يزال هنا. والجرائم على الطائف أيضاً. لكنّك أنت غبت.
ما بالك لا تسأل. هل الصغار يسألون عن الكبار أم العكس؟ هل الأحياء يسألون عن الشهداء أم العكس؟
لا يهم. أنت دائماّ في البال. بيروت بكت لكنّ خاطرها لم ينكسر.
لا تخف ولا ينشغل لك بال. أهلها جبروا بخاطرها و”كثّروا”.
أليست هي “المحروسة”.