الكَمين ..

مقالات 01 أكتوبر 2007 0

لا يعترف الرئيس نبيه بري بأنه لم يخطر في باله حين أطلق مبادرته الرئاسية في بعلبك، أن الاشتباكات الإقليمية ستنتقل بثقلها الى مسرح المبادرة، مرة لمراقبتها عن كثب، ومرة أخرى للإيحاء بإفراغها من مضمونها. وبالطبع ولا مرة لتسهيل أمرها. كذلك في الداخل حيث تنتظر بعض القوى السياسية اللحظة المناسبة لتنقضّ عليها، بينما البعض الآخر يندفع في تجميل صورة المبادرة الى حد المفاجأة.
لم يخطر في بال الرئيس بري أن النائب الكتائبي أنطوان غانم سيدفع ثمن الخطوة الأولى من مبادرته. إذ ان الهدف من المبادرة هو العكس تماماً. أراد بري نقل الاشتباك السياسي من حدته الكلامية الى إطار الحوار، ووقف الاغتيالات النيابية التي لم يعد لها من مبرر وهي ليست مبررة أصلاً بعد أن استحصل من البطريرك صفير صاحب الرعاية المسيحية لقوى الأكثرية، على اعتراف متكرر بأن نصاب الانتخابات الرئاسية هو ثلثا أعضاء مجلس النواب.
بدا الرئيس بري بالغ التأثر في الأيام الأولى لاغتيال النائب غانم، وتأثر أكثر حين زاره الرئيس الأسبق أمين الجميل شاكرا له تعزيته ومؤكدا له أهمية الحوار السياسي السلمي لإجراء انتخابات رئاسية. لم تكن هذه الرغبة التي أبداها الرئيس الجميل سهلة عليه، فهو والد الشهيد بيار الجميل الوزير الشاب وهو الصديق القديم للنائب الكتائبي الشهيد أنطوان غانم. فإذا به يتعالى فوق جراحه الشخصية وفوق جراح حزبه داعما المبادرة راغبا بصدق في وقف بحر الدم من الشهداء. وجد بري في دعم الجميّل لمبادرته إنقاذا معنويا مما كان يشعر به من ثقل اغتيال غانم على مبادرته.
استعاد بري نشاطه في الأسبوع الماضي بعد أن وجد في ما حدث دافعا له إلى المزيد من الحركة السياسية الهادفة الى سلام سياسي يرعى الهدنة المرتبكة التي يعيشها اللبنانيون. واستعاد في ذاكرته الحسابات السياسية التي أجراها قبل إطلاق مبادرته.
الحساب السياسي الأول هو الدور السعودي الذي يحاول جاهدا أن يفصل بين سوء العلاقات السورية السعودية، وبين صيانة الهدنة اللبنانية. من هنا بادرت السعودية على لسان سفيرها في بيروت الى إعلان دعمها للمبادرة الرئاسية، في الوقت الذي يجري فيه السفير خوجة من جدة كل الاتصالات السياسية اللازمة مع الفرقاء اللبنانيين لدعم المبادرة.
صحيح أنها ليست المرة الأولى التي تظهر فيها السعودية مساندتها لمبادرة سياسية حوارية لبنانية، وهي فعلت ذلك دون نجاح مرات عدة. لكن الإصرار الذي تظهره القيادة السعودية هذه المرة يتجاوز ما هو معروف عن دبلوماسيتها. فالعاهل السعودي يتجنب في دبلوماسيته الضغط المباشر على الأطراف المعنية، والاكتفاء بإعلان دعمه لهذا الموقف السياسي أو ذاك، تاركا للطرف المعني مباشرة تقدير ما يناسبه من قرار سياسي. غير أنه بشأن المبادرة الأخيرة للرئيس بري لم يتردد السفير خوجة في استعمال تعابير مباشرة وشخصية باسمه وباسم مليكه لتسهيل حركة المبادرة عندما تتعثر ولتحييد من لا يتحمّل الجهر بتأييده.
يقيم السفير خوجة المهدد بأمنه في جدة هذه الأيام ويزور بيروت بشكل دائم لإتمام مهام سياسية يكلف بها. لكنه يعتمد في اتصالاته على هاتفه اللبناني باعتباره الوسيلة المعتمدة لدبلوماسيته عن بعد.
من هنا يُفهم موقف الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي في نيويورك الذي تعمد عدم التعرض للسياسة السورية، بل أكد على ضرورة مشاركة سوريا في المؤتمر الدولي بشأن الشرق الأوسط المقرر عقده مبدئيا في الولايات المتحدة في شهر تشرين الثاني المقبل. ورغم أن هناك الكثير من التساؤلات السعودية والمصرية حول جدوى عقد مثل هذا المؤتمر، لكن المؤكد هو الموقف السعودي المصري المشترك الداعي الى مشاركة سوريا فيه.
بالطبع تدعم بقية دول الرباعي العربي الذي أصبح سداسيا بعد انضمام الكويت والبحرين له، الدور السعودي في مساندة المبادرة.
الحساب الثاني هو الدور الفرنسي. ينقل المسؤولون اللبنانيون عن السفير كوسران مبعوث وزير الخارجية الفرنسية الى الشرق الأوسط أن الرئيس ساركوزي متمسك بدور بلاده السياسي في لبنان، ولا يريد تحت أي ظرف من الظروف التخلي عن هذا الدور. لذلك استطاع الرئيس الفرنسي الجديد أن يحصل من الرئيس بوش على موافقة للاتصال بدمشق وطهران شرط حصر الحوار بانتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية لا أكثر.
حتى الآن تأخذ الدبلوماسية الفرنسية طابع الفوضى والإقدام في الوقت نفسه. فلا هي تتراجع، ولا حققت هي نتيجة، هذا مع العلم أن المجموعة الأوروبية تدعم الدور الفرنسي، خاصة إيطاليا التي حافظ رئيس حكومتها رومانو برودي على علاقات بلاده مع دمشق وألمانيا التي تستمر في مد سوريا بالمساعدات التي بلغت ملياري دولار في السنوات الخمس الأخيرة على الرغم من الموقف الأميركي من النظام السوري.
الحساب الثالث هو الدور الإيراني. تعتمد القيادة الإيرانية أولوية لحركتها في لبنان هي الحفاظ على الهيكلية السياسية والعسكرية ل حزب الله . وهذا ما جعلها تنفتح على السعودية لمنع الفتنة المذهبية في لبنان. إذ ان العصب الرئيسي للأكثرية هو أهل السنة بينما الشيعة هم عصب المعارضة. وقد حقق الانفتاح الإيراني السعودي هدفه في لبنان. لذلك فإن القيادة الإيرانية ترى في الوفاق حول رئيس الجمهورية جزءاً رئيسياً من الهدوء الذي يرعى الهيكلية العسكرية والسياسية للحزب.
هذا ما يسمعه زوار السفير الايراني أو من يزورهم من السياسيين. وهي ليست المرة الأولى التي تظهر فيها القيادة الايرانية دعمها لمبادرة سياسية، دون ان يعني هذا الدعم نجاح المبادرة.
الحساب الرابع أتى من الفاتيكان، حيث أجرى البابا بنديكتوس السادس عشر لقاءات مع نائب الرئيس السوري فاروق الشرع ووزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل ومساعد وزيرة الخارجية الأميركية ديفيد ولش والمبعوث الفرنسي جان كلود كوسران. ثم اجتمع الى البطريرك صفير في لبنان.
كانت نتيجة هذه المشاورات التأكيد على الأهمية الاستثنائية لإجراء انتخابات رئاسية طبيعية ودستورية في لبنان، حيث الرئيس هو المسيحي الوحيد بين الحكام العرب والرمز السياسي الأول لمسيحيي الشرق. في الوقت الذي يقترب فيه الوجود المسيحي في العراق من النهاية وتزداد هجرة المسيحيين من مصر ولبنان. وتبين من المشاورات نفسها أن دوائر الفاتيكان تعتبر الرئاسة المسيحية للبنان عنصراً مشجعاً على استمرار الوجود المسيحي العربي في المشرق.
***
هل تستطيع هذه القوى إنجاح مبادرة الرئيس بري؟
لا شك في أن حسابات الرئيس بري السياسية دقيقة في المبدأ. إذ ان الزخم الذي أظهرته هذه القوى للمبادرة مكثف وجدي، حتى بدا ان اغتيال سياسي للنائب انطوان غانم لم يستطع أن يمنع استمرارها. بل بالعكس فإن القوى المعنية اظهرت مزيداً من الدعم للحوار السياسي، البديل الأكيد لفوضى لا تريدها هذه القوى في لبنان.
في الداخل أظهر سعد الحريري زعيم تيار المستقبل شجاعة سياسية تجاه المبادرة مختلفة عن أسلوب تعامله السابق مع المبادرات السياسية. فهو يتصرف على قاعدة أن الثأر للشهداء هو في إجراء انتخابات وفاقية. إذ ان من اغتال النائب الكتائبي أراد تعطيل الانتخابات. وبالتالي فإن الرد عليه يكون بإجرائها.
في ظروف مختلفة تصرف الرئيس الشهيد رفيق الحريري بالطريقة نفسها. حين اغتيل الرئيس رينيه معوض في العام ,1989 انهالت الاتصالات على الشيخ رفيق آنذاك تستهول ما حدث وتسأله الرأي في المستقبل.
كان جوابه الوحيد رحمه الله . لا يكون الرد إلا بإجراء انتخابات رئاسية في أسرع وقت ممكن . وهذا ما حدث حين انتخب الرئيس الراحل الياس الهراوي في فندق شتورة بارك.
حقق سعد الحريري في مشاوراته التي تجاوز للقيام بها أخطاراً أمنية مؤكدة. النتائج التالية:
أولاً: طرح مع الرئيس بري في الجلسات المتعددة التي عقدها معه تصوراً سياسياً واقتصادياً للمرحلة المقبلة. فأكد على تبني لبنان الرسمي للقرارات الدولية وأهمها القرار 1701 الذي يرعى وجود قوات الطوارئ الدولية في جنوب لبنان وانتشار الجيش اللبناني معها.
سبقه الرئيس بري داخلياً في الجواب على تساؤلات عن مطلب المعارضة بالثلث المعطل في الحكومة. فأفتى بحصة مسبقة لرئيس الجمهورية المقبل في الحكومة مما يلغي الحديث عن الأثلات سواءً أكانت لمصلحة المعارضة أم في يد الأكثرية.
اقتصادياً حصل الحريري على تفهم واضح يخضع للنقاش الإيجابي لقرارات مؤتمر باريس 3 الاقتصادية، والتي تحقق للبنان مساعدات ضخمة وقروضاً ميسّرة تساعده على استعادة التوازن في وضعه الاقتصادي ولو تدريجياً. وهذا يحتاج إلى قرارات في مجلس الوزراء، وكذلك في مجلس النواب حيث لرئيس المجلس سلطة الإدراج على جدول أعمال الجلسات.
في الموضوع الرئيسي أو بالأحرى في الهاجس الأعمّ أي سلاح المقاومة، أعطى الحريري ضمانته بأن يستمر مجلس الوزراء في تبنيه حق المقاومة في العمل، طالما أن هناك احتلالاً لأراض لبنانية وبالطبع الإفراج عن الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية واستلام خرائط الألغام من الجانب الإسرائيلي. على أن يكون في أولويات عمل الحكومة وضع استراتيجية دفاعية تأخذ في الاعتبار أوضاع المقاومين.
تسبق ذلك موافقة مجلس الوزراء على مقررات هيئة الحوار وأهمها ترسيم الحدود مع سوريا وإقامة علاقات دبلوماسية بين بيروت ودمشق، وتنظيم السلاح الفلسطيني داخل المخيمات بعد نزعه خارجها.
في بكركي روى الحريري للبطريرك صفير طرفة كان قد سمعها منه الرئيس بري. تقول الطرفة إن أستاذاً سأل أحد تلامذته عن اسمه فقال له علي. فسأله عن طموحه في المستقبل فقال أريد أن أكون رئيساً لمجلس النواب. جاء دور التلميذ الثاني فكان جوابه أن اسمه علي ويريد أن يكون رئيساً لمجلس الوزراء عندما يكبر. التلميذ الثالث أيضاً اسمه علي إنما يريد أن يكون رئيساً للجمهورية. سأل الأستاذ تلميذاً رابعاً عن اسمه فقال له إن اسمه إيلي. أما عن مستقبله فأجاب أنه يريد أن يكون علي فقط لا غير.
خرج الحريري من بكركي ومعه البركة المسيحية لحركته السياسية. فلم يعد يدقق فيما جاء على لسان الدكتور سمير جعجع بعد زيارته في مقره في معراب، بل اكتفى باعتبار معارضته دعماً لموقفه في التفاوض.
أما المعترض الأول أي وليد جنبلاط، فقد اعترف له الحريري، ليل أول من أمس، أمام جمهور من ضيوفه، بالصمود حين ضرب اغتيال الشهيد الحريري قدرة الجميع على الحركة، وسجل له تحالفاً سياسياً وثيقاً لا ينفصل مهما حدث. وترك للمفاوضات ان تثبت مدى ضرورة الحوار السياسي.
اعتمد الحريري سياسة المواجهة مع النظام السوري المتهم بقتل النائب انطوان غانم، في مقابل انفتاح داخلي غير محدود نحو الحوار. فحقق لنفسه مشروعية التقدم في الحرب السياسية على سوريا داخل قوى الرابع عشر من آذار والافساح في المجال امام التواصل مع القوى السياسية المعارضة محققاً مشروعيته الوطنية.
يواجه الزعيم الشاب في حواره حول الانتخابات الرئاسية التحدي الثاني بعد الاول في المحكمة الدولية التي دخلت إطار التنفيذ العملي في الامم المتحدة. ويتصرف على ان قدرته على هذا التحدي لا تقل عن الاصرار على المحكمة الدولية. فهل ينجح؟
***
لا تزال قوتان رئيسيتان خارج إطار الحوار او القبول بنتائجه: الولايات المتحدة التي لا تريد الاستحقاق الرئاسي ان يسمح لسوريا بحصة سياسية في لبنان، وسوريا التي لا تريد للاستحقاق الرئاسي ان يحصل من دون حوار اميركي معها، وهو ما لن يحدث بحسب كل التصريحات الاميركية.
في الزيارة الاخيرة للسفير الاميركي جيفري فيلتمان الى مقر الرئاسة الثانية، سأله الرئيس بري عن موقف بلاده من المبادرة بعد ان تعددت تصريحاته المتناقضة. مرة يرحب وفي اخرى يتجاهلها. فكان جواب السفير الاميركي ان موقفه هو بين القبول والحياد. ولمّا ناقشه رئيس المجلس في تصريحين لمسؤولين في الخارجية الاميركية مع تعديل الدستور لصالح انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية. ومن ثم في تصريحين آخرين يرفضان التعديل. قال السفير فيلتمان ان هناك ارتباكاً في الادارة الاميركية هذه الايام ولكن باستطاعته ان يؤكد باسم حكومة بلاده انهم لا يؤيدون تعديل الدستور.
بالطبع لا يتوقع ان يعطي السفير الاميركي سره الى الرئيس بري، لكنه بالتأكيد يحتاج الى رئيس المجلس لتعديل الدستور.
على الجانب السوري، الصورة اكثر وضوحاً. إذ ان شخصيات معنية مباشرة بالموقف السوري من لبنان، نقلت عن الرئيس الأسد حرصه على التزام حزب الله تحالفه مع العماد ميشال عون، وتأكيده ترشيح الحزب للعماد عون باعتباره كان صادقاً في تعامله منذ حرب تموز حتى الآن.
لم يتحدث الرئيس الأسد عن الانتخابات الرئاسية باعتبارها استحقاقاً مقبلاً على لبنان، بل تناولها عابراً بالحديث عن مدى عدوانية النظام القائم في لبنان تجاه سوريا.
هذا يعني من وجهة نظر المتابعين أنفسهم ان الفريق السوري الذي تولى التمديد للرئيس اميل لحود هو نفسه الذي يتولى القرار في الاستحقاق الرئاسي اللبناني. وهذا الفريق يعتقد ان باستطاعته الصمود حتى ما بعد الانتخابات الاميركية من دون رئيس في لبنان واجراء انتخابات نيابية لبنانية في صيف العام 2009 تغير من التركيبة السياسية الحالية لمجلس النواب. او في حال الاستثناء انتخاب رئيس موثوق سوريا بالتجربة وليس بالقول فقط.
من هو هذا الرئيس؟
لا يزال الفراغ هو المفضل عند القيادة السورية. مع ان هناك سيناريو متداولاً في الاوساط السياسية أعلن جزءاً منها الوزير السابق سليمان فرنجية بقوله أنه بانسداد آفاق الحوار خلال شهر من الآن تقوم الاكثرية بانتخاب مرشحها للرئاسة بأغلبية النصف زائدا واحدا، متجاهلة بذلك موقف البطريرك صفير، باعتبار ان التطرف لا يقابل إلا بمثله. فترد المعارضة بانتخاب العماد عون رئيسا من دون اكثرية. وتدخل البلاد في أتون الفوضى الدستورية والأمنية ويكون الحل في الجسم الوحيد المتماسك اي الجيش اللبناني، مما يأتي بقائده العماد سليمان رئيسا واقعياً للجمهورية. او في أحسن الاحوال ينفذ العماد عون مع حلفائه ما وعد به من فوضى عارمة في حال انتخاب الاكثرية الرئيس العتيد، فيكون الجيش ايضا هو الجواب على ما وعد به العماد عون.
دون تحقيق هذا الكمين اهوال يعرفها الرئيس بري، ويعلم بها سعد الحريري.
الاول يراهن على ان الظروف التي فرضت التمديد مختلفة وانه لا بد من واقعية سورية تفرضها تحالفاتها في ايران ولبنان.
والثاني يثق بقدرته على انتزاع موافقة اميركية خلال زيارته الى واشنطن هذا الاسبوع، على رئيس وفاقي يضمن استمرار الهدنة المرتبكة التي يعيشها اللبنانيون.
إذا ما تحقق لاحدهما ما يسعى إليه يصبح بإمكانه الامساك بثانيهما نحو الاستحقاق.
في هذا المجال تبدو واشنطن اقرب من دمشق…