القاهرة 2 ، ألف رواية ورواية…

الأخبار 26 سبتمبر 2005 0

بقيت لأيام أسأل عن الكلمة المعبرّة بالمصرية عن توضيب الهدايا الانيق أو حتى المشتريات من المحلات المشهورة في بيروت. أخيراً وجدت الكلمة “الفيونكا”.
تدخل في نقاش مستفيض مع مجموعة أصدقاء، سواء العاملون في المجال الاعلامي أو غيره. تقول لهم نحن في لبنان متخصصون في الخدمات ومنها أناقة الفيونكا طباعة أو إعلاناً تلفزيونياً. أنتم في مصر بحر المضمون والتصنيع والإنتاج أدباً.
فكراً. فناً. لماذا لا نعقد اتفاقاً بين الشعبين المصري للانتاج والمضمون واللبناني “للفيونكا”. يعترفون لك بمهارة اللبنانيين في مجال الخدمات. ثم يدخل الفرعون المصري إلى الجلسة. من يستطيع مشاركة فرعون عمره خمسة آلاف عام. ينتهي الحوار بانتصار الفرعون على الكفاءة اللبنانية المعترف بها.
هذا حال المصريين في كل مجال، يعترفون للبناني بكفاءته، شرط أن لا يستخدمها.
أعجب جمال مبارك كبير السياسة في الحزب الوطني الحاكم بكليب تلفزيوني ظهر على تلفزيون. L.B.C يظهر مجموعة أولاد كبيرة منتظمة كما الاستعراض العسكري يحمل كل منهم كومبيوتر، يدخلون إلى مجلس النواب، يجلسون إلى مقاعدهم، يخطب فيهم أقدرهم. العنوان ” نحن جيل L.B.C”. في كليب تعبئة تتجاوز الذكرى السنوية لتلفزيون عربي. أراد مبارك إنتاج فيلم تعبوي مماثل للجمعية التي يرأسها والمتخصصة في تشجيع الشباب على مكتشف القارات الحديث “علم الإنترنت”.
حدّث عماد الدين أديب عن الموضوع. حدثني عماد. أمسكت بطوني قهوجي المخرج المبدع وفريقه. ذهبنا جميعاً إلى القاهرة. دخلنا في اليوم التالي الى الاجتماع بجمال مبارك بحضور عماد ومساعدته جيلان جبر في إحدى مقرات استضافة رئاسة الجمهورية المصرية.
دخل مبارك علينا. حديث في شكله، رياضي في بنيته. لا يوحي بسلطة القرار بقدر ما يعطيك الانطباع بأنه قادر على الاستماع للحاضرين جميعاً دون ملل. لكل أسلوبه.
إلى جانب مبارك اثنان من مساعديه في جمعية “المستقبل”، أحدهما رجل أعمال كبير.
توسع الحديث أسلوباً وتصويراً وتنفيذاً. بدأ طوني يبتكر تباعاً نظرته إلى الفيلم المنوي تنفيذه.
دخل الفرعون المصري إلى الجلسة ممثلاً برجل الاعمال الكبير. انتهت الجلسة. عدنا طوني ومجموعته وأنا الى لبنان. نفذت الجمعية فيلماً مصرياً عرض في حفل كبير أقامته الجمعية لجمع التبرعات. تبرع لبنانيون. لا أحد من الحاضرين تذكر الفيلم بعد خروجهم من حفل العشاء. كيف ينفذ لبنانيون فيلماً تعبوياً لجمعية مصرية يرأسها نجل رئيس الجمهورية؟ سؤال طرحه الفرعون المصري على نفسه. أنهى الاجتماع.
نعود الى نشاط عماد الدين أديب.
نجد الجواب عند السيدة إنجي مديرة مكتبه، التي تريد أن تثبت يومياً أن المصريين أقدر من اللبنانيين على الإدارة. بعض الاحيان تنجح، ليس دائماً. تؤكد لك أن الخطأ من الادارة وليس من عندها. تصدّقها من كثرة حماستها لعملها. ذاكرتها حاضرة دائماً، قادرة على استعمالها أيضا.
تعرف عماد مزاجاً، حركة، رغبة، رفضاً. تختار الوقت المناسب لتقول الكلام المناسب، تقتنص توقيعاً تحتاجه لسير العمل.
الحاج الشاب يحيى شنب المطبعة المتنقلة لمطبوعات عماد. للطبع في بيروت هو دائماً جاهز. يشتري لدى وصوله هدية زوجته إنجي السالفة الذكر. يعتبر أنه قام بواجبه، ثم ينتقل إلى السهرة.
صباحاً إلى النقيب الديموقراطي جوزيف رعيدي الأكثر أناقة في الطباعة، لا يتركه يختار نوع قهوته من كثرة ديموقراطيته.
للطبع في عمان. شنطته دائماً حاضرة. لمهمّة في نيويورك يذهب إلى المطار فوراً دون تردد. لا يعود يعرف الفرق بين الليل والنهار، لكنه متأكد من الفرق بين رضى الحاجة إنجي أو عدمه.
ربّاه عماد على يديه. يقول عنه انه وزوجته “اللبنانيان” الوحيدان بين العاملين معه وهم بالمئات. اللبنانية هنا تعني القدرة على التنفيذ.
يحلم عماد كثيراً، يفكر لما بعد عشر سنوات وكأنه يسألك عن الساعة التي تلبسها، ينفذ أحلامه تخطيطاً وتقديراً وموقعاً ويندفع حتى يصل إلى ما حلم به.
ثم يبدأ الحلم الآخر كيف يخرج مما حققه في الوقت المناسب؟ بالسعر المناسب؟
التقاعد المبكر هو حلمه الأول والأخير، لن يحققه لأنه يذهب اندفاعاً كل سنة إلى مشروع جديد.
يتعود على من يعمل معه. تجد الأسماء نفسها تتكرر في مشاريعه المتشابهة على الأقل. لو ترك له الخيار لكرّر الاسماء نفسها حتى ولو كانوا لا يعرفون شيئاً عن المشروع الجديد. يغلّب الثقة على الاختصاص.
أرافقه الى مكتبه الجديد. وأرافقه الى تسجيل حلقات يقرر هو أنها مهمّة وعلي المشاركة مشاورة فيها. وأرافقه إلى الإفطار في منزل الحاجة هالة زوجته وحولهما الأولاد.
أصغرهم أسميه الخواجه. أشقر وعيونه ملونة. الأكبر أسمر مصري أخذ التهذيب الانكليزي عن والده.
أرافقه إلى الغداء، إلى العشاء، إلى الاجتماعات، لا أملّ من ذلك. لديه القدرة على إضافة قيمة جديدة في كل حوار وفي كل وقت.
أقام عماد مرة غداءً على شرف زملاء بينهم ناشر “السفير” طلال سلمان، جهاد الخازن المقيم في الصفحة الأخيرة من “الحياة”، وكبير الاساتذة محمد حسنين هيكل. كان غداء مثيراً للاهتمام حضوراً ومناقشات.
وصل الخبر الى بيروت. المطعم الذي تناولنا فيه الغداء مليء بالزبائن وبينهم لبنانيون بالطبع. اتصل كبير قادة الأجهزة الأمنية بطه ميقاتي كفيلي الأمني. قال له إذا كان صاحبك نهاد عاطلاً عن العمل ويلتقي هذه المجموعة من كبار الصحافيين، فكيف لو كان ما زال “على قيد العمل”. أبلغه بأن لا يكثر من زياراته الى بيروت هذه الأيام.
أبلغني طه ضاحكاً. نفذت أنا متوتراً.
في الاستديو يعمل مع عماد جمال عنايت معّد برنامج “على الهواء” سابقاً ومقدّمه حالياً. يعمل بسرعة فائقة، يتابع التفاصيل بإلحاح وتوتر، يعمل في الجريدة والمجلة والتلفزيون وشركة المعلوماتية ويجد وقتاً ليعمل في مشروع جديد لو عرض عليه، دمث في كلماته، حاد في طبعه، رفيق قديم لعماد لا يناديه أو يتحدث عنه في غيابه إلا بلقب الاستاذ.
معه محمود نافع مبتكر في النكتة المصرية. يستبدل اعتراضه على تأخير رواتبه من التلفزيون بإطلاق النكات على الادارة. يستسلم فيلكس سرحان المدير الاداري ويدفع له ما تيسّر.
معهما، قبلهما، بعدهما. لا يهم هي بحد ذاتها قبل ومع وبعد. “حماتي” المصرية جيلان جبر، هي أول من تعرفت إليها من هذه المجموعة أثناء عملي الى جانب الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
إذا ما حددت هدفاً في عملها أعتبره صريعاً.
تحاول باللغة العربية، المحلّي منها. الفرنسية، الراقي فيها. الانكليزية عند الضرورة. تستعمل دموعها، اتصالاتها العائلية. “هي من عائلة مرموقة”، لا تترك إلحاحاً يعتب عليها، يقع الهدف صريع قدرتها. هذا ما حدث مع زوجها اللبناني أحمد فتح الله. درس في القاهرة، وقع في غرامها، تزوجها. منذ ذلك الحين يدعو له الناس بالصبر. دمث الاخلاق والتعبير والروح يشفع لجيلان حماستها المنقطعة النظير لأصدقائها، والعداوة الشرسة لخصومها.
أحب فيها هذا الطبع الرئيس الحريري رحمه الله وكذلك زوجته السيدة نازك والعائلة كباراً وصغاراً، لم تترك جيلان أحداً منهم يعتب عليها.
شفيق جبر رجل أعمال منضبط وصارم، تراه على موعد، يحدثك عن متاعبه، يملك شبكة علاقات سياسية أميركية منذ أن تولى رئاسة الغرفة التجارية الأميركية المصرية. طموحه السياسي يجعله كثير التوتر حتى يصل إلى بيروت تنفرج أساريره مؤقتاً.
الباشا منصور الطرزي. أناقة وترفعّ باشوات. معه تتعرف إلى جميع رجال الأعمال المصريين، تستطيع أن تحصل منه على أدق التفاصيل عن أي واحد منهم. نجم اجتماعي محب ودود لأصدقائه، مستقيم في أجوبته العملية، دقيق. هذه صفات نادرة في مجتمع رجال الأعمال المصري.
عمر الحكيم. يتصل بك بعد الظهر ليقول لك ان الغداء عنده، وهو سيطبخ كذا وكذا وكذا. يطبخ؟
عمر شاب مصري، من عائلة مرموقة شكله إيطالي، يعمل شهراً في السنة ويقضي الاشهر الباقية في الطبخ، هوايته الأولى. له هوايات أخرى ليس هنا مجال ذكرها. زوجته نهى صاحبة أجمل ابتسامة في مصر تتركه يطبخ وتذهب إلى عملها في الصحافة الانكليزية، تمسك بأعلى نسبة من العلاقات الاجتماعية المصرية معظمها أتت بها من عائلتها والباقي تضيفه هي وتجدده كل يوم. قديرة بهدوء متماسكة بتهذيب. من يقدر على طبخ عمر يواجه الدنيا بسهولة أكبر، هذا ما تفعله نهى.
الرفيقة الدائمة لنهى غادة سلطان، زوجة عثمان سلطان المدير العام ل”الموبينيل”.
شاب لبناني من طرابلس، خبير دولي في تقنيات الاتصال المتطورة، متخّرج من باريس، عندما تلقاه تشعر بأنه ترك طرابلس منذ أيام لهجة ولهفة وضيافة. أهدته غادة كتاب عماد الدين أديب المتضمن مقالاته الوجدانية في زيارة عمل له، فإذا به يقع طريح الزواج منها. الصعوبة لم تكن في رغبته بل في قبول سيدة الاعمال الصارمة أن تستسلم طوعاً وتتحول إلى زوجة مطيعة. كسب عثمان المعركة!!
ثالثهما غادة الفقي تزوّجت حسام فرحات من لبنان، سكنت في بيروت، ترافقها ارستقراطيتها أينما ذهبت.
المحور الثاني تترأسه دنيا. لبنانية في لبنان، فرنسية في باريس، انكليزية في لندن، مصرية حتى العظم في مصر. والدها انكليزي، والدتها فرنسية، تزوجت من مصري.، ولدت وعاشت في لبنان، لها اسمان وعائلتان، واحد على جواز السفر الانكليزي والثاني على جواز السفر المصري.
سيدات بيروت ما قبل الحرب كن يتفاخرن إذا ما تولّت والدتها تزيين عروستهن: مارغريت روز.
ابنتها دينا ذهبت إلى مصر مع من ذهبوا هرباً من الحرب. جمال يتجاوز المتداول والمعروف، يقع في غرامها أجمل شاب مصري في السبعينيات عمر خورشيد، يتزوجان. افتتحت في فندق في القاهرة مؤسسة تجميل على غرار ما تعلمته من والدتها. ما زالت على رفعة جمالها، تفرح بالحياة كل يوم لو استطاعت.
تهتم بضيوفها كما لو أنهم جالسون على طاولة من أحلى المطاعم الفرنسية. صديقها الذي قدمني إليها مروان اسكندر يحدثك عن ماضي جمالها بانبهار إلى حد أن ملكاً عربياً كان يبدي <<اهتماماً>> دائماً بجمالها.
هل تفي الكتابة أهل مصر حقهّم؟
تستطيع أن تكتب عن مصر لأيام، تملأ صفحات الجريد، لكنك أيضاً تستطيع اختصارها أن في كل مصري رواية يكتبها هو، أو يكتبها غيره.
لو خرجت إلى الشارع يومياً، ونظرت في وجوه الناس، حركتهم، لوجدت ألف رواية تضيفها إلى رواية شخصيات الفندق الذي تنزل فيه فيصبح عندك ألف رواية ورواية…
نهاد…