القاهرة 1 ، مدينة الألف أمان …

الأخبار 19 سبتمبر 2005 0

اليوم الأول من رمضان 1999. فندق “البرنس دوغال” في باريس يعجّ بالناس. وحدي افكر في طقوس الشهر الفضيل. مباركة الناس لبعضهم بقدوم الأيام المباركة. هدوء وجوه الناس حولك. أصوات مآذن المساجد. جمعة الأهل على الإفطار. هو شهر في السنة يلتفت فيه من لا يلتزم الفرائض الدينية طيلة الأحد عشر شهراً. يلتفت إليه من قصّر معّوضاً قدر الامكان.
اقتربت من “الكونسييرج” في الفندق أطلب منه إيجاد مطعم مغربي يقدّم طعاماً وقت الإفطار. بعد اتصالات بمطاعم عدة أعلنت التزام المواقيت الفرنسية. واحد فقط وافق على إستقبالي.
حجزت فيه طاولة لشخصين. سجلت العنوان على ورقة. دعوت صديقة عندها الاهتمام نفسه بالرمضانيات. إيمان خليفة رحمها الله.
في الموعد المحدد صعدنا إلى التاكسي. أعطيته العنوان. قال لي ان المطعم يبعد دقيقتين سيراً على الأقدام. ضحكنا من أنفسنا. ذهبنا إليه. دخلنا. وجدناه فارغاً تماماً إلا من مديره. ضحكنا مرة أخرى. حجز واتصال وتاكسي وهو فارغ.
اهتم بنا المدير استثنائياً حتى أنهينا إفطارنا. تشجيعاً لنا على الصيام لم يقبل بأن يأخذ ثمن الإفطار. صار صديقاً وصرت انا زبوناً دائماً عنده. لم احتمل هذه الرمضانيات الباريسية. وضبت شنطتي. اليوم الثاني من رمضان في مطار القاهرة.
الله.
موفد رسمي على باب الطائرة يصطحبني إلى صالة كبار الزّوار. أجد سفيراً من الرئاسة المصرية في الصالة يرحب بي. بدا على وجهي الاستغراب. لم أخبر احداً بقدومي. وحتى لو فعلت ليست لي الصفة التي تبرّر هذا الاهتمام. يبدأ المندوب الرئاسي الكلام ليبدّد حيرتي. علمنا بقدومك من صديقك فيصل فتفت. أردنا من استقبالك رسمياً أن نقول لك إنك في بلدك. أي تسهيلات تريدها ستجدنا حاضرين لتنفيذها. نحن نعرف الظروف التي تمرّ بها. ونعرف اعتدالك وتوازنك السياسي. هذا تعبير عن تقديرنا لك ولعروبتك، واعترافاً منا بالدور الذي قمت به لسنوات في تعزيز العلاقات المصرية اللبنانية.
أثرت الكلمات فيّ كثيراً. صارت الآية القرانية “أدخلوها بسلام آمنين” التي تستقبلك في مطار القاهرة أكبر حجماً ومعنى لي. شكرت المندوب الرئاسي بكلمات قليلة “أنا مصري الهوى. لا آمن على نفسي في اي بلد كما افعل في القاهرة. لك ولرؤسائك التقدير والعرفان”.
خرجت من المطار لأجد سيارة فيصل فتفت بانتظاري. يقودها السائق سيّد خزّان العناوين الضرورية لبنانية كانت أم مصرية. درّبته السيدة هدى توفيق سلطان المستشارة السياحية السابقة في سفارة لبنان في القاهرة.
بدأت رحلة القاهرة مع الحاج فيصل كما يناديه اصدقاؤه الكثر من لبنانيين ومصريين. الرحلة الأولى دامت 40 يوماً. كل يوم عند الإفطار تقف على شرفتك العالية في شيراتون القاهرة. الهدوء يلف الشوارع وهذا أمر نادر الحدوث في أرض الكنانة.
ألف مئذنة ترفع الأذان في وقت واحد. منظر المآذن. صوت الأذان.. القاهرة من فوق. لو كنت كافراً لآمنت. الحمد لله أنا اكتفي بمئذنة واحدة وأذان واحد.
تشرف على الجزء الذي أعيش فيه من الفندق مجموعة سيدات يعرفنني جيدا. الفندق كان المفضل لإقامة الرئيس الشهيد رفيق الحريري خلال زياراته المتكررة إلى القاهرة وأنا دائماً معه. تجنّبت الحديث معهن عن سبب إقامتي الطويلة الهادئة. لم يكتفين بإجاباتي. استعملن وسائلهن الخاصة. وصلن إلى الحقيقة، وهات على عطف وحنان وتضامن.
السيدة ساميا ذهني، الحاجّة بعد ذلك، شخصية قوية. عرفت شخصياً كل المشاهير الذين نزلوا في الفندق منذ سنوات طويلة جدا. تعاملت مع طلباتهم بمرونة لبنانية. أطلب تلبَّ.
تغلب على قدرتها حدة تجعل العاملين معها يتجنبون الحديث معها إذا لم تبادر.
نجلاء “غنوجة” التاور. تترك لشعرها أن يتقدمها ويقدمها. تؤدي عملها دون اي اهتمام شخصي بالضيف القادم إلى الفندق، أو النزيل المقيم. تتابع اهتمامات أخرى لا علاقة لها بالعمل. تلفزيون. قراءة. أخبار مشاهير. تطورات فن التجميل. آخر نكتة. تخدمك بترفع. تستكثر الودّ على نزيل أو متصل يحاول التعرّف.
ريم، ملكة التفاصيل، اطرح سؤالاً واحداً تجد مئة جواب. إهتم بجانب تجد لك الاجوبة الأخرى حاضرة لاهتماماتك. إسأل عن اسم تسلسل لك أسماء العائلة والأولاد والاحفاد. حسابهم في المصرف أيضا. تخدمك بانفعال محبّ. تطمئن عليك صبحاً وظهراً ومساءً.
لا تراهنّ خارج الفندق. لكنهن صرن صديقات. تركن العمل لاسباب مختلفة. بقين على صداقتهن.
كل العاملين والعاملات في الفندق ينتظرون وصول الحاج فيصل في زيارته اليومية لي.
نكته من هنا. خبرية فنية من هناك. زواج أو طلاق. يتجمعون حوله وكأنه راوية.
يعيش فيصل فتفت في القاهرة منذ 50 سنة. جاء به والده من سير الضنية تلميذاً صغيراً وبقي هناك منذ ذلك الحين. أكمل دراسته الجامعية إلى جانب عادل إمام. التحق بالمستشارية السياحية اللبنانية موظفاً. يأتي مستشارون ويذهب سفراء وقناصل إلى السفارة اللبنانية. يبقى هو الوحيد الذي يسأل عنه كل من يزور مصر من السياسيين والفنانين والاصدقاء والمحبين. أصبح مستشاراً.
يبقى إلى جانبك اسابيع وأشهراً. كل يوم. يعطيك سيارته. سائقه. يرجوك الاقامة في منزله بديلاً للفندق. يعيش وحده ويقرر يومياً الزواج منذ أربعين سنة على الأقل. لا يشعرك أنه يترك التزاماته من اجلك. أنت بالنسبه له نزهة يومية. لا يقول لك كلمة تضامن فهو لا يعترف بالمشكلة. لا يقبل منك أو من غيرك هدية غير السيجار. هو واجب وليس هدية.
مستعجل دائماً. يريد العودة إلى المنزل للنوم. يمارس الرياضة يومياً فيزداد وزنه بدلاً من ان ينقص. يجمع حوله محبّة لبنانية مصرية تكفي فرقة عسكر. يصلّي معي ليلة القدر في سيّدنا الحسين. يدعو لي على مسمع مني. أنا أدعو لعائلتي، بالأمن والأمان في بيروت. تأتي عائلتي ايام العيد إلى القاهرة. يكون العيد الاجمل منذ سنوات.. يأتي عيدي الآخر. هي الأحلى منذ دهور. صغيرتي. أحلى ضحكاتي. جعلت القاهرة أكبر من نيويورك. وجعلتني أرى العاصمة المصرية أجمل من باريس.
عماد الدين أديب الحاضر بحجمه أينما ذهب، بثقله المعنوي حيثما يحلّ، بتهذيبه الإنكليزي كلما تكلّم، بصبره السعودي على نفسه وعلى غيره، بالإيمان بقضائه وقدره في كل عمل يقوم به. تحدثه لسنوات. لا تسمع منه كلمة نابية. كل الناس تعتقد أن اختصاصه الأول هو برنامجه على التلفزيون. للمحطة اسم تجاري طبعاً. لكنها ترتبط في كلام الناس وليس في أذهانهم فقط بعماد. هو النجم الأول للتلفزيون العربي في السنوات العشر الاخيرة. في السنة الحادية عشرة انسحب من على شاشة التلفزيون إلى امتلاك تلفزيون. هذا ما يعمل عليه الآن.
مع ذلك الاهتمام الفعلي والاول لعماد هو عائلته الصغيرة زوجته وأولادهما، ووالدته وأخواه: عمر متخصص في تسويق الماء والهواء والنار والهرم وما يتفرع منها، عادل المخرج السينمائي. قليل الكلام. يتأنى في تحمل المسؤولية حتى يتأكد من قدرته على القيام بها.
عماد يصدر جريدة يومية اقتصادية اسمها عالم اليوم. مجلة اجتماعية اسبوعية اسمها كلام الناس. يهتمّ بإنشاء مؤسسة معلوماتية. يدخل عالم الانتاج السينمائي والغنائي. يدير دور سينما. كان يسجل برنامجاً يومياً وأكثر من حلقة في اليوم نفسه. ثم يجد وقتاً طويلاً يقضيه معي بشكل شبه يومي.
كيف؟ للحديث صلة.
نهاد…