الفتنة المحسوبة…

مقالات 30 أبريل 2007 0

لا بد من التسليم بحجم موهبة الابتكار التي يتمتع بها القاتل المتخصص في الجرائم اللبنانية السياسية.
لكل جريمة رواية. لكل رواية خريطة سياسية تستبق الجغرافيا. في كل شهيد حي رسالة يراها من بقي على قيد الحياة ليعتبر. لكل مغتال صورة يحفظ الناس مغزاها في ذاكرتهم، حتى تمتلئ الذاكرة، ولا من يستسلم.
أولى الجرائم مروان حمادة الوزير المنفتح بمصراعيه على كل الجهات، وآخرها وليس أخيرها مقتل الزيادين قبلان وغندور.
بينهما من لم يأخذ العبرة من حمادة، كل منهم لسبب. إنما الأهم أنهم أقروا سياسة المواجهة بالشهداء. الشهيد يستولد الشهيد وهكذا دواليك منذ سنتين وشهرين. لا المجرم اعترف بالعناد الذي يواجهه. ولا الشهداء قبلوا بالاستسلام حتى بعد مقتلهم. يجتمع الناس حول الشهيد. يحدثونه عن فخرهم به، وزمالتهم الجاهزة له. فينفرط عقد التشييع مع مرشح جديد تتكرر معه حكايا الشهادة والفرح والعناد والتشييع والخطابات فيتداولون في ما بينهم حكاية الوطن .
يتنافس الخطباء في ما بينهم، من صوته أعلى. من قدرته أشد. من شعاره الأوقع على السامعين. يحرص كل منهم على أن يُطرب آذان السامعين بتسمية الجهاز القاتل السوري مباشرة.
هذه المرة اختلفت المقاييس لدى القتلة وأعمار الشهيدين والمبررات الثأرية الوهمية من جهة وبين الخطيب الواحد من جهة أخرى.
الزيادان خطفا بعد الظهر. واحد في الخامسة والعشرين من عمره يسعى في رزقه والثاني في الثانية عشرة يحلم بأن يكبر ويقود السيارة ويعمل ويقف الى جانب أهله. فيرافق الأول في سيارة العمل. بعد ثلاث ساعات من اختفائهما سرى النبأ في الصحف أنهما قتلا وأن البحث جار عن جثتيهما وعن القتلة الذين تحددت هوياتهم مبدئياً.
المصدر؟ جهتان جديتان وموثوقتان في مسائل الأمن والجريمة المنظمة.
السبب؟ بسرعة فائقة تبيّن أنه ثأري لمقتل شاب من آل شمص في أحداث جامعة بيروت العربية منذ أسابيع عدة.
صفة الشهيدين أن لهما صلة ارتباط وقربى بالحزب التقدمي الاشتراكي.
***
لو افترضنا وهذا غير صحيح أن للكبير صلة فما ذنب الصغير اللابس لثياب مدرسته الى جانب من يقود السيارة. لماذا قتله برصاصات ثلاث وهو ما أعلن حتى اليوم، بينما لا خبرة له ولا مسؤولية ولا شهادة في الوجوه ولا في الجغرافيا ولا في اللهجات. اختيار الزيادين دقيق. فهما ليسا من تيار المستقبل حتى تكون الفتنة سنية شيعية. ولا دروز من الجبل حتى تصبح الطريق الساحلية مرتعاً للثأر. بل إن في الشهيدين شيئا من كل هذه الخصومات، فيكون لمقتلهما وقع الفتنة المحسوبة .
هذه الفتنة المحسوبة تؤدي الأغراض المطلوبة منها. توصل الرسالة. تزيد التوتر إنما دون الانفجار. تحذر من لم يفهم حتى الآن أن سيف السلطنة طويل كما في مسرحيات الرحابنة، وأن هذا السيف يستطيع نقل الاشتباك من مرحلة المحسوبة الى مرحلة الثأر للجميع .
اعتقدت أنني بدأت أتأثر بحكايات المؤامرات التقليدية السائدة بين المعارضة والموالاة. حتى سألت مصدراً قضائياً رفيع المستوى، ثابت العلم، خالي الغرض. فإذا به يؤكد لي أن كل التحقيقات التي أجريت في أحداث الجامعة العربية، بما فيها العرائض التي تقدم بها آل شمص عن اشتباههم بمن قتل ولدهم، لم ترد على ذكر عائلتي الشهيدين قبلان وغندور لا من قريب ولا من بعيد. لذلك فهو محتار في هذه الجريمة، لكنها بالنسبة له تتعدى المنطق الثأري الشائع في وسائل الإعلام ولدى السياسيين.
العماد ميشال عون قسّم كلامه الى جزأين. الأول أن تقنية جريمة الاغتيال هي تقنية مخابرات، مستبعداً العملية الثأرية. وحمّل في الجزء الثاني من كلامه الحكومة وأنصارها مسؤولية خلق مشاكل داخلية.
بالمقابل قيل إن لجنة أمنية من حزب الله وحركة أمل ذهبت إلى منازل المشتبهين من آل شمص، فإذا بالمنازل خالية من الرجال تماما وهم خمسة أخوة.
هذه الجريمة هي الأولى بعد كشف منفذي مجزرة عين علق أصحاب الجنسيات العربية الملتبسة المقيمين في لبنان والمنتمين شكلاً الى منظمة فتح الإسلام في الشمال الذين اعترفوا أن تعليماتهم قضت بالقيام بهذه العملية قبل الرابع عشر من شباط الماضي. لماذا؟ الجواب من الذي كلّفهم.. لأن هذا الموعد سياسي بامتياز.
السؤال الثاني لماذا بكفيا وليس برمانا. الجواب لأن بكفيا موقع سياسي، بينما برمانا موقع سياحي.
***
المهم وصلت الرسالة. وجلس المخطط لهذه الجريمة مثل التي سبقها ينتظر النتائج. فإذا بصاحب الخطاب الوحيد النافذ الى مسامع الناس يخيّب أمله. تصرف وليد جنبلاط بالقول وبالفعل. على عكس ما كان متوقعا منه تماماً.
افترض المخطط أن وليد بك سوف يطالب بالثأر من لحود ومن بشار وما بينهما كما فعل قبلاً في ساحة الشهداء. لكن البك لم يفعل. قرر أن يرد الصاع صاعين، إنما في اتجاه المسؤولية عن الجميع. دعا الى الهدوء والتروي. كرّس الدولة جهة وحيدة معنية بأمن الناس وحياتهم. اعتبر الحوار وسيلة فضلى للحياة السياسية. سبّب ذهولاً بكلامه السياسي أصاب أصدقاءه قبل خصومه ومحبيه قبل اعدائه. ذهب الى حدود الضاحية الجنوبية معقل حزب الله ، مستذكراً تاريخ بيروت في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في العام .1982 مستحضراً العدوان الإسرائيلي على الضاحية في العام الماضي. معتبراً أن المقاومة تجمع اللبنانيين سواء الذين يقف على أرضهم أو المتطلعين له، السامعين لصوته من الأرض الأخرى. التعابير هنا مجازية. إذ أن وليد بك جمع كل عناوين الاشتباك السياسي في لبنان وحوّلها الى عناوين حوار هادئ. عاقل. متزن. مسؤول.
***
ما الذي جعل وليد بك ينقلب على نصه السياسي الى هذه الدرجة غير رغبته برؤية الذهول على وجوه خصومه والانبهار في عيون محبيه؟
أولاً: لم تكن هذه هي الخطوة الأولى التي يقوم بها جنبلاط في اتجاه الإحاطة مبكراً بالتطورات المحيطة بلبنان. فهو يعلم أن لبنان صار رهينة أحداث إقليمية لا يد له فيها ولا قدرة على تحمّل نتائجها. فقرّر أن يطالب جميع القوى السياسية باعتماد سياسة الحد الأدنى من الارتباط الخارجي. علّ ذلك يؤثر في جمهور الاصطفافات السياسية الحادة لدى الطرفين. كان خطاب جنبلاط السياسي طوال السنتين الماضيتين مخصصا للتعبئة في جمهوره دون الأخذ في الحسبان جمهور المعارضة. يبدو حسبما ظهر حتى الآن أنه قرّر توسيع إطار خطابه السياسي ليطال الجميع. وقد نجح في ذلك حتى إن السفير السعودي صاحب المبادرات الحوارية الدائمة اتصل به ليصف ان ما قام به في الأسبوع الماضي، لا يفعله إلا الرجال الكبار.
قبل بيروت التي نثرت عليه ورفاقه في الجنازة الرز ودعاء الأمهات من الشرفات وهو ما لم يحدث لزعيم من المختارة من قبل في العاصمة. قبلها جال في قرى الجبل حيث شعر بإمكانية الاختراق أو ربما بالتململ الطبيعي بعد كساد الأحوال. مخاطباً أهالي القرى بالحسنى في ما بين بعضهم البعض، وفي ما بينهم وبين جيرانهم من اللبنانيين. مطمئناً من اهتزت قناعته أو من يريد الاشتباك أن الدنيا مقبلة على خير عميم. وأن السياسة لا تقوم على الاشتباك بل على الحوار.
رغم اعترافه بالمخاطر الأمنية التي يعرّض إليها نفسه، لم يتورع على طريقته في الشجاعة أن يكرر جولاته في الجبل ثلاث مرات. ولم يطمئن حتى الآن من معرفتي بردود فعله. بل سيفعل أكثر من ذلك في هجومه السلمي الجديد.
***
فعل ذلك قبلاً في العام 1984 حين كانت بيروت تشتعل بحرب العلم بين محازبيه وحركة أمل . في السابعة صباحاً أيقظ عامل الهاتف الرئيس نبيه بري في منزله في بربور ليبلغه أن وليد جنبلاط وصل الى الحاجز الأخير أمام منزله يريد الدخول. استيقظ بري على عجل لاستقباله وانتهت حرب العلم. من هنا لا يتخلى الرئيس بري عن رغبته بالتفاهم مع جنبلاط حتى ولو في أصعب الظروف.
فعل مثل ذلك أيضاً من حيث الاقدام حين اخترق الجدار الإسمنتي العريض حول رفض انتخاب العماد إميل لحود رئيساً للجمهورية ومن ثم رفض التمديد له. وما بين التاريخين من تجرؤ، كان هو الأول في الإقدام على تناول الطابع الأمني للحكم وللجهاز الأمني السوري اللبناني المشترك.
بالطبع لا يمكن الحديث عن صوابية شجاعة جنبلاط في كل الظروف ولكن بدا عليه منذ العام 2000 وحتى الآن أنه لن يترك لغيره أن يقرر تاريخه.
ثانياً: يعلم وليد بك طبيعة الجهات المخططة للجرائم اللبنانية السياسية فلماذا يمنحها فرصة الاستفادة من اشتباكات ثأرية لا يربح منها طرفا الاشتباك بينما المخطط يتفرج. فضلاً عن أن لا القاتل هنا مسؤول سياسياً ولا الشهيد معني سياسياً. فلم الاشتباك؟
ثالثاً: وضع وليد بك في سياسته الجديدة المحكمة الدولية خارج إطار الاشتباك المحلي. ما دامت الأمانة العامة للأمم المتحدة والدول الكبرى تتابع عملها نحو إقرار المحكمة فلم الإصرار على أن الخصومة السياسية تؤدي الى ما تستطيع الوصول إليه عن طريق نيويورك. ولو بدا أن مسار إقرار المحكمة بطيء على السرعة اللبنانية أو أنه يتضمن أخذا وردا خارج رغبة وليد بك بالسرعة القصوى.
رابعاً: يعرف وليد بك أكثر من المعارضة أن لا آلية تنفيذية لكلامه جاهزة أو يمكن أن تجهز. لذلك فهو لا يستغرب الارتباك في النص السياسي لقيادة حزب الله ولا ينتظر أن يلاقيه صديقه الرئيس بري في منتصف الطريق.
***
في المستجد من سياسته يكون وليد بك قد حقق هدفين في الوقت نفسه الأول أنه استبق ما يمكن أن تفرضه الظروف السعودية من حوار قبل نهاية شهر أيار وهو موعد انتهاء الدورة العادية لمجلس النواب والثاني أنه طمأن جمهور رفيق الحريري أن معركتهم ليست ذاهبة في الطريق المسدود. وما عليهم إلا القليل من الصبر والكثير من الهدوء.
المهم الآن أن وليد بك لا يزال على خطى الأزمات. المخطط للجريمة فشل ولو مؤقتاً. المعارضة مرتبكة في تفسير مواقفه. نثر الرز ودعاء الأمهات يزداد.
بعد حمايته لجمهور الرابع عشر من آذار وحمله للعلم السياسي الجديد. حقق وليد بك في الأسبوع الماضي لجمهوره ولجمهور خصومه أفضل نتائج الاطمئنان، في الوقت الذي انتظر منه الجميع غير ذلك. أليست هذه حرفة صناعة الرجال؟