“العشوائيات” اللبنانية..

مقالات 04 فبراير 2008 0

لم يكلّف سياسي لبناني حديث، يجمع بين احتراف انساني الطبابة وبين صفة عامة هي تمثيل الأمة في مجلس النوّاب، ولو أن فوزه جاء نتيجة نيله مئات قليلة من الأصوات على منافسه. لم يكلّف نفسه قراءة جديّة لرسالتي الى الصديق القديم دولة الرئيس ميشال عون التي نشرت منذ اسبوعين في السفير ، ليجد ان فيها نقاطا تستحقّ النقاش، وهي متوفّرة كما هي الحال في اي مطالعة سياسية. بل اكتفى باتهامي بأنني شاركت الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في ادارة الحرب في وجه المسيحيين كمستشار له، ولم يجد في الحديث عن سياسة الرئيس الشهيد رفيق الحريري تهمة غير الانحياز الى قلّة من المسيحيين في وجه غالبية منهم، مع أن خمس عشرة سنة من العمل العام الرسمي للحريري لا بد من أن ترد فيها أخطاء، تظهر بين الحين والآخر، مثله، كمثل اي مسؤول آخر، تجوز مناقشة قراراته من دون أحقاد.
أما القارئ الناشط الكسندر نعمة الذي وجد دائما شيئا من الموضوعية في قلمي فردّ علي بما لم آت على ذكره، فاتهمني برفض الثورة على الاحتلال، ورفض التفاوض السياسي بين العماد عون حين كان في قصر بعبدا وبين جهات يرى من المناسب مراسلتها باعتبار ان في هذه المراسلات اهانة شخصية لي.
سلّم نعمة جدلاً بشروط عودة العماد عون من فرنسا، لكنه أوضح أن الأحداث التي تلت العودة أثبتت أن العماد عون لا ينحني لشروط وضغوط. ومن عمل على إدانة سوريا في الامم المتجدة لا يدخل في بازار سياسي معها للعودة الى وطنه. ومن رفض الرضوخ لشروطها في ذروة وجودها لا يتحاور معها في اضعف محطة من محطات وجودها في لبنان وتاريخها الحديث. اما اذا وجدت في ورقة التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحر احد هذه الشروط التي فرضت مسبقا ليوم العودة، فهل تستطيع أن تشرح لنا كيف فرض قانون 2000 في ربيع 2005؟ من عمل على الحلف الرباعي؟ وكيف شكّلت حكومة السنيورة؟ وكيف أُلغي المجلس الدستوري؟
وجد نعمة في الدعوة الى الانفتاح اللبناني والوفاق العربي صورة مصغّرة عن الأنظمة الديكتاتورية ذات الرأي الواحد.
***
كان لا بد لي وسط هذا التصوير السياسي لما كتبت الى، أو عن العماد عون، في أوساط التيار، كان لا بد من العودة الى هذا الموضوع الاستراتيجي في الحياة السياسية اللبنانية كتابة ومناقشة، توضيحا أو اضافة لما يمكن ان أكون قد انتقصته مما كتبت.
أولا: لم يكن الزعيم عرفات بحاجة لأن يستشير كاتبا شابا في العشرينات الأولى من عمره يتبنى عودة الفلسطينيين الى بلادهم بالحرب من لبنان باتجاه اسرائيل، بصرف النظر عما اذا كان هذا القرار سليما بالمعنى الوطني اللبناني، وسط جهل سياسي في ذلك الزمان، من البيئة المقاتلة التي وضعت الفلسطينيين والمسلمين في الجانب نفسه، كما فعل بالأمس السياسي الحديث في جوابه.
أما الرئيس الشهيد، فليس هناك من لبناني له ذاكرة إلا ويعلم ان السياسة تجاه المسيحيين، خلال تولّيه السلطة، كانت تقرّر في دمشق، وأن الرئيس الحريري مارس من الممانعة لهذه السياسة ما جعله موضع شكوى دائمة من القيادة السورية. وفي ذاكرتي شهادات حية حول هذا الموضوع ليس بشأن بقاء العماد عون في المنفى فقط، بل أيضا بشأن اعتقال الدكتور سمير جعجع التي علم مجلس الوزراء بالحملة التي جرّدت لاعتقاله من قبل الجيش اللبناني بقيادة العماد إميل لحّود على باب دارة جعجع في كسروان.
قصدت استعمال كلمة الممانعة للدقة في الوصف، الذي استمرّ مفعولها منذ العام 92 حتى العام 2003 حين انضمّ الرئيس الحريري الى المنطق اللبناني العام بعدم امكانية استمرار الهيمنة الأمنية السورية على المسار السياسي اللبناني، فوقع الاثنان، أي الأمن السوري والسياسة اللبنانية، في حفرة الفشل.
ثانيا: ما تجاهلته من وقائع وردت على لسان سياسيين أصدقاء للعماد عون، كان من باب تفضيل ما أعرفه عنه على ما أسمعه، حفاظا على صورته عندي وعلى علاقتي السياسية به، ولو عن بعد. فهل هذا ادانة لما كتبت أو اعتراف ممن ردوا بالوقائع التي وردت في رسالتي؟
أترك الجواب لناشطي التيار العوني. لست من دعاة مقاطعة النظام السوري ولا من حاملي سيف محاربته. كل ما في الأمر انني أجد ان من حقي الاختلاف مع رؤيته السياسية في لبنان. وهو أمر يندرج على كل القوى السياسية العاملة في لبنان على قلّتها، أو على عدم فاعليتها عند الضرورة. اذ ان العشوائية السياسية في مناصرة السياسة السورية، والوحشية في مواجهتها، تجعلانه أي النظام السوري يصنّف اللبنانيين بين متآمر أو متعامل، فلا يعود للاختلاف مكان ولا للنقاش قضية. فهل يرى ناشطو التيار غير ما أراه؟
في ظل هذا الخلاف الحاد في الاجتهاد السياسي بين النظام في دمشق والفوضى في لبنان، كان من الطبيعي ولادة الاتهام السياسي للقيادة السورية بالاغتيالات السياسية في لبنان من دون الحاجة الى أدلّة تثبت جنائيا من هو المجرم ومن هو البريء.
لقد توقّعت وأخطأت أن يكون للعماد عون هذا الدور الجامع للبنانيين الذين يصرّون على حقّهم بالاختلاف السياسي عن الرؤية السورية للشأن السياسي في لبنان. فإذا به يفعل عكس ذلك.
ثالثا: لم أر في ورقة التفاهم بين حزب الله والتيار العوني غير عامل استقرار وطمأنينة مرحلية وغير مغلقة. فعلت ذلك كتابة وشفاهة حين كان كل من في بيئتي يرى فيها تآمرا، على عادة القول هذه الايام. لم أؤمن في لحظة من اللحظات بأن عزلا سياسيا وطائفيا للحزب يمكن ان يؤدي الا الى المزيد من الاضطراب والانفجار في لبنان. لذلك، كانت ورقة التفاهم ضرورية جدا في مرحلة من المراحل، شرط ان لا تضع شروط النوادي المغلقة للانضمام اليها واظهار الاستعداد الدائم لتعديل ما لا يُجمع اللبنانيون على مضمونها.
حققت ورقة التفاهم هدفها كما فعل التحالف الرباعي في الانتخابات النيابية. ولا بد من التعامل مع نتائج الاثنين الورقة والتحالف على انهما حققا الغرض المنشود منهما والانطلاق الى ما هو أوسع وأشمل، بدلا من اتهام من يترك التحالف بالخيانة ومن يعترض على ورقة التفاهم بالرغبة في الدمار. فهل هذا كان المسار السياسي للعماد عون؟
لا بد من الاشارة هنا الى أن ورقة التفاهم أتت على ذكر اعتماد التحقيق الرسمي كهدف لحركة محاكمة من اغتال الرئيس الحريري. وهو ما لا يُرضي الحقيقة ولا جمهور رفيق الحريري المنتشر على اطار أوسع بكثير من طائفته في لبنان وفي العالم العربي ايضا.
رابعاً: الدور المسيحي في لبنان لا يمكن ان يأخذ شكل التحدّي، ففي هذا دمار للدور وتعريض بأهله للخطر الأكيد. القيادة المسؤولة عن حفظهم وتأمين مستقبل وجودهم الطليعي والحامي لديموقراطية واستقلال لبنان، لا تكون الا بالاعتدال والحكمة والحؤول دون تفاقم خصومات الطوائف اللبنانية. وإلا فإن هذه القيادة تضع مجموعة من المواطنين على استثنائية حضورهم في وضع التحدي لمحيط يمتد من اندونيسيا في آسيا الى موريتانيا في افريقيا. وإذا كان لغيرهم ان يجعل من الموقف السوري الخلافي بين العرب حدودا لسياسته، فليس للمسيحيين أن يتبعوا السياسة نفسها، من دون خصومة ومن دون مواجهة. فللعمل السياسي أوجه متعددة أهمها مسؤولية القيادة المسيحية تجاه أهلها ومحيطها وحفظا للحريات السياسية التي هي العمود الرئيسي للبنيان اللبناني.
كيف يمكن للبناني أن يرى رئاسة الجمهورية شاغرة بسبب الخلاف السياسي الحاد في الداخل وفي الخارج العربي والدولي، والبطريركية المارونية مهانة من ابناء رعيّتها، والجيش محاصر بالشروط حول قائده، ولا يدعو الى إقدام استثنائي من قيادة الطائفة المعنية تاريخيا بهذه المواقع ولو رأى في هذا الإقدام المحازبون للعماد عون، ظلما لطموحه وتنازلا.
ليس في هذا ظلم ولا تنازل بل شعور عال بالمسؤولية المعتدلة. وهو ما درج عليه بناة الصيغة اللبنانية منذ ان كانت.
هل في هذا الكلام إدانة أم دعوة الى النقاش؟
خامساً: هناك من أهل المعرفة والعلم من يقول ان العماد عون على قناعة بأن تحالف الأقليات في الشرق هو الحامي للمسيحيين بسبب فشل سياسة الغالبية العظمى من العرب. وبصرف النظر عن مدى دقة وصف الفشل، وهو ما قد أؤيّده فيه، فإن طرح الأمور بشكل واضح للمناقشة واستنتاج الخلاصات جديدها وقديمها والتعرّف الى مدى نجاح التجارب السابقة من هذه التحالفات، طرحها بهذا الشكل يفتح الباب أمام مناقشة هادئة وموضوعية تحفظ لصاحب هذا الرأي حقّه في الدفاع عنه، وللمختلفين معه مجالا طبيعيا في المناقشة، بدلا من افتعال وقائع والدفاع عنها باعتبارها حقيقة لا عودة عنها.
فهل هذا ممكن؟ أم ان الدعوة يوميا الى انتخابات نيابية مبكرة تهدف فقط الى القضاء على الآخرين سياسيا، هي الأفضل والأسلم للبنان؟ لا يمكن أن يكون تعبير العقوبات الجماعية الشائع في النخبة العونية لوصف أداء الآخرين من اللبنانيين تجاههم، وهو التعبير الذي يستعمل عادة للسياسة الاسرائيلية تجاه الفلسطينيين، لا يمكن لهذا التعبير أن يكون الا تعبيرا عشوائيا في التفكير يوصل الى جريمة في التعبير. يتجاهل أصحاب هذا التعبير أن نخبهم تحقق في كل المجالات الاقتصادية والعلمية نجاحات محلية وعربية ودولية غير آبهة بهذه التعابير ولا بالعقول الحافظة لها.
***
ليس للنخبة العونية حق حصري في هذه العشوائية، بل هي تعمل على الخط ذهابا وإيابا بين التيّار وحليفه حزب الله . فقد كشفت الأحداث الأخيرة في مار مخايل أن الحزب على استعداد لاستعمال العنف السياسي دفاعا عن قضية رابحة لا تحتاج الى هذا القدر من الإمعان السياسي في تشويه الآخرين والرد عليه، بما يزيد من التشويه في صورته اللبنانية ولو عند غير جمهوره. فالتحقيق في سقوط سبعة شهداء لبنانيين في محيط الضاحية الجنوبية لبيروت، حق طبيعي لكل اللبنانيين وليس للشهداء أو حزبهم أو حتى طائفتهم. وهو ما حدث وتوصل التحقيق الى النتائج المرجوة منه. فماذا بقي من كل الكلام الذي قيل؟
لم يبق من ايام الاسبوع يوم واحد تضاف اليه صفة جديدة غير السواد بعد ما حدث يوم الأحد ما قبل الماضي. فقد أوحت ردود فعل النخبة الحزبية على أحداث مار مخايل، أن هناك تعميما سياسيا يستنفر للتعبير عن تعرّض الطائفة للإهمال، والضاحية للخطر، والحزب للحصار. فهل هذا صحيح؟
لا جدال بأن هناك مشروعا سياسيا أميركيا يقول بغلبة مجموعة على أخرى، بسبب تبني الأخرى بقاء سلاح المقاومة في يدها. لكن هذا المشروع سقط مع صمود المقاتلين في جنوب لبنان في وجه العدوان الاسرائيلي في حرب تموز .2006 ما لم يستطع الجيش الاسرائيلي ان يحققه باعتراف تقرير فينوغراد الذي نشر في الاسبوع الماضي، لن ينفّذه لبنانيون مهما كانت رغباتهم ومهما بلغ الكلام من عشوائية عن قدراتهم. فلمَ الغلوّ في مواجهة أوهام أميركية فشلت في العراق وفي فلسطين، وعلى طريق الفشل في افغانستان؟
أليس هذا استدراجا طبيعيا للحديث، على ألسنة قادة الأكثرية، عن المشروع الإيراني السوري القائد للمعارضة.
في تقرير فينوغراد نص يتحدّث عن أهمية التماسك الحقيقي والمستمر في المجتمع الاسرائيلي لدعم إعادة الدور الى العدوانية القادرة للجيش الاسرائيلي. فهل في سياسة الحزب منذ حرب تموز حتى الآن ما يشجّع على استمرارية التضامن اللبناني، ولو في حدّه الأدنى الإنساني الذي توفّر في العام 2006؟
ما الذي تحقّقه زيارة المرشّح الرئاسي العماد ميشال سليمان الى الأمين العام للحزب والى رئيس حركة أمل، ومن اتصاله للتعزية بالسيد محمد حسين فضل الله والشيخ عبد الامير قبلان. ما الذي تحقّقه الزيارتان والتعزيتان غير اعتبار الشهداء إما حزبيين وإما انهم استشهدوا بصفتهم المذهبية بدلا من جعلهم شهداء لبنان على امتداد ارضه وانتشار شعبه؟ من التبسيط القول ان الحزب والحركة يمارسان ضبط أهالي الشهداء والجماهير، باعتبار انهم أي الأهالي والجماهير معزولون عن التعبئة الدائمة الهادفة الى تعبئة الطائفة في وجه دولة لا تتوفّر لها عناصر الهجوم في حدّها الأدنى. وإلاّ فما تفسير الوصول في الرد على كلام الرئيس الجميّل وسمير جعجع عن رسالة السيد حسن نصر الله الى الاسرائيليين عن أشلاء الجنود التي يحتفظ بها الحزب… ما تفسير الوصول بالرد الى حد اعتبار كلام جعجع والجميّل على انه تحريض على تصفية السيّد .
يعرف من يتابع السياسة الاسرائيلية أن رسالة السيد نصر الله موجّهة الى المجتمع الاسرائيلي قبل أي جهة أخرى، لما لهذه الأشلاء من أهمية في التقليد اليهودي. ومهما كانت الأوصاف بعيدة عن الإنسانية المطلقة ، فالرد جاء من اثنين ليسا من مدرسة القدوة الحسنة في مجال نتائج الحروب، ولا هما من خبراء حسن الادارة السياسية. لكن هذا لا يبرّر اعتبار كلامهما تمهيدا لتصفية السيّد .
أسئلة لبنانية للنقاش وليس للصدام…
***
لم تُظهر أحداث مار مخايل عشوائية الادارة السياسية ل حزب الله ، بل أكّدت أن هناك قيادات من قوى الرابع عشر من آذار قطعت بأشواط الآخرين في قدرتها على إضاعة حقوقها التاريخية الشاملة لكل لبنان.
فالبيان الذي صدر بعد وقف اطلاق النار في العام 2006 على عيوبه المؤسسة لما نراه هذه الأيام، لا يقلّ اذى عن البيان الذي صدر عن القوى نفسها تعليقا على أحداث مار مخايل. والجزم والحسم والتأكيد والإصرار التي ظهرت في تصريحات الوزير أحمد فتفت ساعة الحادث لا تدلّ في حال من الأحوال على حكمة ولا على معرفة، على عكس البيان الموزون الهادئ الذي أصدره الرئيس فؤاد السنيورة.
لا تحقق هذه العشوائية اجماعا ولا حتى محاولة إجماع. فريق 14 آذار يكتفي باقتداء الآخرين بمخاطبة جمهوره، لتذكيره بأنه في خطر وعليه الاستعداد الدائم للمواجهة تحت عناوين مختلفة.
هذه ليست مسؤولية من اجتمع في لجنة المتابعة ولا وزير يعبّر عن غير رأي الحكومة ورئيسها، بل هي مسؤولية القيادة الفعلية التي لا يحقّ لها التخلّي عن حقها في مخاطبة كل اللبنانيين في أيامهم العادية، فكيف حين يكون هناك دم الشهداء على الأرض، برصاص جهاز رسمي لبناني؟
من فعل غير ذلك ومستمر في خطابه، يكُن قد حاز عضوية شرف في نادي العشوائية اللبنانية . يستحق هذه المرتبة كونه تخلّى عن دور أهل الأمة الجامعة، الحاضنة، الرؤوفة، الصابرة. فماذا يبقى من صفاته؟
***
في مصر، تُطلق صفة العشوائية على العشش التي تبنى في أرض الغير اعتداء على ملكيتها. أما القيادات السياسية اللبنانية فتبني عشوائيتها على أرضها وأهلها وتكتفي بالملكية الجزئية لطائفتها، بعد أن تفتّش عن فرصة وطنية جامعة لإضاعتها. فتستحق القيادات عندها ما تطلقه على بعضها البعض من أوصاف. ولا تستحق لبنانيتها.