الطوائف..الرهائن

مقالات 12 مارس 2007 0

يحمل السفير السعودي في لبنان الدكتور عبد العزيز خوجة إبرة في جيبه، امتلكها منذ أكثر من سنة. تعرّف الى تفاصيلها. تدرّب عليها. اكتشف أن لا قدرة له في الحياة السياسية اللبنانية من دونها. إذ أن الجبل السياسي اللبناني لا يمكن حفره إلا بإبرة على طريقة الحكماء القدامى. بينما استعمال الآلات الحديثة في الحفر يوقع الجبل بمن فيه وهم اللبنانيون جميعاً على من يريد لهم السلامة والاستقرار في مسعاه.
هو لا تنقصه الحكمة. تعلمها فتى في مكة المكرمة مدينة المسلمين جميعاً. شبّ عليها في لندن حيث تعلم المعادلات الفيزيائية. مارسها في المغرب سفيراً لبلاده حيث الملكية الهادئة. احتفظ بها في موسكو حيث شهد تغيّر العهود والحكام وصولاً الى القيصرية الجديدة. عاش معها في تركيا بلاد العثمانيين، حيث الحداثة تعبق بالتاريخ الحكيم.
لكنه وجد أن كل ما عرفه لا يوازي مكر السياسة اللبنانية ولا غدر أهلها. لذلك صار التأني سيد حركته والتكتم عنوان حديثه. وابتسامة خيبة الأمل من هذا الشخص أو ذاك، من هذا الموقف أو من المواجه له، هي التعبير الدائم على وجه السفير السعودي في بيروت، فكيف في الرياض حيث اللجان المتخصصة تتلقى التقارير وتطلب المعلومات وتعطي التعليمات؟
أمسكت بيروت بمفتاح عشق السفير خوجة. يميل معها كيفما مالت. لينطوي مع حبه للمدينة بحيث لا ينكسر. أنقذ نفسه حتى الآن من سحر سياستها ومكر سياسييها.
للمسعى السعودي حكاية طويلة بدأت مع المبادرة العربية قبل أكثر من سنة والتي وقف في وجهها التحالف الأميركي الفرنسي ليمحو ما جاء فيها بدعم من قادة قوى الرابع عشر من آذار. كانت القيادة السياسية لجمهور رفيق الحريري تعتبر أن ميزان القوى يسمح بالاستمرار في رفض ما هو دون الحق المطلق من دون الأخذ في الاعتبار أنه ليس هناك من حق مطلق في العمل السياسي. انتهى الأمر باعتذارهم من الراعي السعودي الذي استمر في رعايتهم حتى حان أوان المسعى الجديد منذ شهرين والذي يفضّل السفير خوجة أن يطلق عليه صفة الرعاية للحوار بين اللبنانيين.
***
هناك الكثير من الروايات التفصيلية حول اللحظة الأولى لإطلاق المسعى السعودي الجديد ما بين الرئيس نبيه بري والنائب سعد الحريري. لكن الأكيد أن السعودية اعتمدت سياسة دعم الحوار بينهما بدلاً من طرح مشروع محدد عليهما للمناقشة والقرار.
ليست هذه هي الحركة الأهم في المسعى السعودي. إذ روي أن اللجنة السعودية المكلفة برعاية الملف اللبناني والتي يرعاها وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل وضعت الخريطة السياسية اللبنانية على طاولة البحث فتبيّن أن المجموعات اللبنانية الثلاث الرئيسية، كل منها رهينة هدف محدد أعلن قبل سنتين ولم يعد باستطاعة أحد إزاحته من واجهة المجموعة التي تتبناه.
قيل لأهل السُنة إن المحكمة ذات الطابع الدولي هي كرامتهم ووجودهم وعزتهم حتى أصبحت تكاد تكون الرمز لوجودهم والهوية لانتسابهم. بالطبع لم يكن اغتيال الرئيس رفيق الحريري حدثاً عادياً في حياة محازبيه ومحبيه، بل بلغت بهم الخسارة حد الإحساس بأن وجودهم السياسي يتعرض لخطر أكيد. وأن النظام السوري المتهم بحسب تقارير الرئيس السابق للجنة التحقيق الدولية ديتليف ميليس باغتياله، مستمر في سياسته في مواجهتهم لإضعاف موقعهم في السلطة الرسمية. وذلك بعد ازدهار لهذا الموقع منذ تكليف الرئيس الحريري بتشكيل حكومته الأولى عام 92 وحتى اغتياله عام .2005
لذلك اندفعوا دون تنظيم ودون تدبير في دعم عارم لا سابق له في تاريخهم، لموقع الرئيس فؤاد السنيورة الجالس على كرسي ممثلهم في السلطة.
صاروا رهينة المحكمة، ورفضوا رفع دم شهيدهم عن الأرض ما لم يتم تشكيل هذه المحكمة ذات الطابع الدولي التي أقرها مجلس الأمن الدولي منذ سنة.
وصار سعد الحريري وريث والده السياسي أسير هذا الشعار. فلم يعد واضحاً ما إذا كان هو الذي أخذ جمهوره الى هذا الشعار أو العكس. المهم أن المحكمة صارت الشعار السياسي الأول للحريري لأسباب شخصية إنسانية ثانياً وقبل ذلك لقوله مراراً وتكراراً أن لا حياة سياسية مستقرة في لبنان ما لم يتم إقرار المحكمة ونزع العنف السياسي من يوميات الحياة اللبنانية.
لم يعد بقدرة أحد تجاوز هذا العنوان السياسي سواء من محبيه أو من معارضيه. إذ أن حجم التراكم في التعبئة قضى على أي احتمال بتأجيل إقرارها ولو بافتراض القدرة على إدراجها تحت الفصل السابع من نظام الأمم المتحدة الذي ينص على إنشاء المحكمة الدولية من دون العودة الى البلد المعني، وإدانة كل من يظهره التحقيق مشاركاً في الجريمة دون الاستماع الى شهادته غير المتوفرة أصلاً.
الرهينة الثانية هي الطائفة الشيعية. وإذا كان أهل السُنة مرهونين للقضاء، ولو الدولي منه، فإن الشيعة مرتهنون للقدر، أي السلاح. فمنذ اغتيال الرئيس الحريري والقيادة السياسية ل حزب الله تتصرف على أن مواقع طائفتها في السلطة تتعرض لخطر الهجوم عليها. وأن خيارهم الوحيد هو المزيد من الالتزام بالتحالف مع النظام السوري واعتبار سلاح الحزب منطقة محرّم الدخول في حوار حولها بانتظار تحرير مزارع شبعا وكفرشوبا.
استمرت التعبئة على هذا المنوال حتى اعتقد الشيعة اللبنانيون أن وجودهم السياسي والوظيفي والوطني محمي بهذا السلاح. وأن الخسارة حتما واقعة من دون وجوده. تجاوب جمهور الحزب مع هذه الشعارات مبدياً استعداده لكل خطأ ممكن في سبيل الوقوف في وجه من يعادي هذا السلاح.
مرّت أشهر طويلة على القرار السياسي الشيعي وهو يتهرّب من رفض المحكمة ذات الطابع الدولي مواجهة. وفضل الدوران حول هذا الرفض الى أن أصبحت مسودة المحكمة على طاولة مجلس الوزراء فكانت استقالة وزراء حركة أمل و حزب الله ، بعد سنة من اعتكاف الوزراء أنفسهم احتجاجاً على طلب الحكومة اللبنانية من الأمم المتحدة إنشاء هذه المحكمة في 11/11/ 2005. لم تكترث القيادة السياسية الشيعية الى مدى الخطر المذهبي من جراء الدوران حول موضوع المحكمة، ومدى تراجع القدرة السورية على حماية خياراتهم السياسية. بل بالعكس اعتبرت هذه القيادة أن الهجوم السياسي عليها يزداد يوماً بعد يوم والنظام السوري الحليف لم يسلم بعد بإخلاء الساحة اللبنانية سياسياً وأمنياً فكيف لو جاءت الظروف لتخلي الدور السوري إلزاماً أو تفاهماً. ماذا سيحدث آنذاك للمواقع والقدرة والسلاح؟
استمرت الأمور على هذا المنوال الى أن كانت حرب تموز. قيل الكثير عن هذه الحرب ومبرراتها وأهدافها من جانب الحزب. لكن الحقيقة الأكيدة أن القوى العسكرية ل حزب الله حققت انتصاراً عسكرياً على الجيش الإسرائيلي الذي قام بتنفيذ خطة معدة مسبقاً للرد على أي عملية عسكرية يقوم بها الحزب من جنوب لبنان. وأن النظام الإسرائيلي لا يزال على ارتباكه السياسي منذ انتهاء الحرب في الشهر الثامن من السنة الماضية.
ليس من المبالغة القول إن نتائج هذه الحرب ضاعت بين أقدام الفتنة المذهبية سواء عن تخطيط أو عن وقائع متوفرة للاشتعال بين الخصمين السياسيين.
لم يعد من الممكن حصر الخلاف في الجانب السياسي بل بدا امتداده المذهبي أكثر من طبيعي في ظل التعبئة المتبادلة. ظهر ذلك جلياً حين حاولت قوى الاعتصام في ساحة رياض الصلح اقتحام السرايا فإذا بالاستنفار يعلن على أكثر من جبهة سياسية عربية ودولية وأولها الجبهة السعودية، ولولا كثير من التماسك وأكثر منه من الوعي عند الرئيس نبيه بري لكان الانهيار حصل بأسرع مما يريده أي عدو.
بدا واضحاً في تلك اللحظة أن الجبهة الشيعية السنية فتحت على مصراعيها من لبنان في اتجاه العالم العربي ومنه لاحقاً الى العالم الإسلامي. وبدا أكثر وضوحاً مدى الضرر الذي يمكن أن توقعه الفتنة المذهبية في لبنان على الشيعة أينما كانوا في العالم العربي.
تحول لبنان من دولة مستوردة للأزمات على مر تاريخه الى بلد مصدر للحرائق. فكان القرار بحصر الحريق فيه حتى لو أتى على كل أهله.
مسؤول عربي كبير قال لي في جلسة خاصة: هل تعتقدون أننا سنسمح للحريق عندكم أن يخرج من حدودكم. لن نسمح بذلك ولو كلفنا كل إمكانياتنا. لا أفهم كيف منكم من يعتقد أن باستطاعته أخذ نفسه وأخذنا الى الحريق. لن تكون المرة الأولى التي يشارك فيها العرب في حريق لبنان لكن هذه المرة لن يفعلوا ذلك برضاهم بل غصباً عنهم.
الرهينة الثالثة هي المسيحيون. المسجل في تاريخ لبنان أن المسيحيين هم ذاكرة الصيغة اللبنانية المعنية بالحفاظ على الاستقلال من جهة وعلى إبقاء صلة الوصل قائمة بين الطوائف اللبنانية. إذ أن صلة الوصل هذه هي أسلوب حياة وليست نصاً دستورياً. جرى الخلط عند القيادة المسيحية بين الصيغة والدولة. فصار الصراع على رئاسة الجمهورية هو المؤشر الى قوة هذه الفئة أو تلك. لم يعد لدى حكمائهم القدرة على حماية الصيغة، فانغمست العامة ما بين تأييد قوة سياسية تسير بعكس التيار العربي والدولي، وبين قوة وأخرى تمسك بالوهم الأميركي وتشد عليه بيدها.
لم يعد بالإمكان الاستفادة من أهل الصيغة بعد أن تحولوا الى محرومين من الدولة ساعين الى تسمية الرئيس كتعويض غير مؤكد.
فقدت القاعدة المسيحية القدرة على التوازن وفقدت معها الفضل في صلة الوصل بين المجموعات السياسية المتخاصمة من الطائفتين الكبريين. فأصبحوا حاضرين لأي تحالف على قاعدة رئاسة الجمهورية، ليس كدور بل كحصة لطرف يدّعي القدرة على تخفيف الحرمان في المناصب.
***
في ظل هذه الرهائن الثلاث على الخريطة السياسية اللبنانية وجدت القيادة السعودية نفسها مضطرة لفكفكة العقد واحدة تلو الأخرى. كان واضحاً بعد الجنون المذهبي الذي شهدته منطقة الجامعة العربية والذي نقلته شاشات التلفزيون الى كل أنحاء العالم، كان واضحاً أنه لا بد من تواصل بين سعد الحريري والرئيس نبيه بري. الأول لأنه حان الوقت لاسترداد دوره كرمز للمرحلة السياسية بعد اغتيال والده، والثاني لأنه حاضر في كل ساعة للتفاوض حول ورقة عمل ترده من الرياض أو يعدها هو أو حتى يقرأها في صحيفة الصباح.
كان الرئيس بري يعلم أن لا وقف للنار المشتعلة تحت الرماد إلا باستمرار الحوار مهما كلفه ذلك من قسوة عليه من خصومه وأصدقائه.
كذلك تأكد الحريري الذي شعر مؤخراً بالحماية السعودية الكاملة لقراءته السياسية، بصرف النظر عن المطبات التي ترتفع هنا وهناك، من هنا جاءت سهولة الاتصال بين بري والحريري. والذي كان عقد قبله اجتماعان أو أكثر بين علي حسن الخليل عن حركة أمل ومحمد السماك وغطاس خوري عن تيار المستقبل.
لم يكن لهذه الاجتماعات أن تقرر بقدر ما أثارت رفاق وحلفاء الحريري لعدم معرفتهم بحصولها. لكن تم تجاوز هذه المطبات حتى وصول الحريري الى لبنان واجتماعه بالرئيس بري مرتين حتى الآن.
***
هناك الكثير مما يقال حول موازاة الحل بين توسيع الحكومة والمحكمة، لكن الأهم هو ما قاله سعد الحريري على مدخل بكركي بعد اجتماعه مع البطريرك صفير.
اعترف الحريري أو تعرّف الى الصيغة اللبنانية حين قال: لا نستطيع أن نحكم وحدنا. ولا المعارضة تستطيع أن تحكم وحدها. حقق الحريري لنفسه مشروعية الصيغة اللبنانية حين قال هذه الجملة البسيطة فاتحاً الباب أمام تسوية ما.
يعلم الحريري وهو يقول هذا الكلام أن المحكمة صارت قراراً من الماضي. فإذا لم تكن الأبواب الأوروبية المفتوحة على النظام السوري عبر زيارة خافييه سولانا ممثلاً للاتحاد الأوروبي ولا الحوار المحدد الأميركي السوري في بغداد، إذا لم يكن هذان البابان كافيين للتساهل السوري في موضوع المحكمة. فإن ثمة من قد يضغط دولياً لإقرارها بموجب الفصل السابع في مجلس الأمن الدولي وثمة من يروج ان ذلك التهديد سينفذ بإقرار المشروع قبل نهاية شهر نيسان المقبل.
الخطوة السعودية الثانية هي تطمين حزب الله عبر الانفتاح غير المشروط على إيران الذي تشهده العاصمة السعودية منذ شهرين.
آخر الزيارات كانت للرئيس أحمدي نجاد الى الرياض باعتباره الأكثر تطرفاً في سياسته العلنية. تجاوز الطرفان الحديث عن البادئ في الفتنة المذهبية وأكدا على رفضهما التام لكل فتنة في البلاد الإسلامية. من هنا جاء الاتفاق بالخطوط العريضة على ضرورة تسوية الوضع في لبنان. ومن هنا رأى الرئيس بري أن الوقت صار مناسبا للتحرك بصرف النظر عن علنية الموافقة السورية.
يستند رئيس المجلس النيابي ومعه سعد الحريري على ورقة سلمها علي لاريجاني أمين عام مجلس الأمن القومي الإيراني الى نظيره السعودي الأمير بندر بن سلطان. تقول الورقة بالموافقة على إنشاء المحكمة بالتزامن مع توسيع الحكومة. صحيح أن لاريجاني استمهل لتأكيد ما جاء في ورقته ولم يعد حتى الآن. لكن القيادة السعودية تصرفت على قاعدة أنها تقف على أرض صلبة للحوار.
أما الرهينة المسيحية فمؤجل فك أسرها الى حين الانتهاء من العقدتين الأساسيتين.
لن يمضي أكثر من أسابيع ليظهر ما إذا كان لبنان ذاهب نحو تسوية مؤقتة يجري البحث في تثبيتها لاحقاً بين السعودية وسوريا، أو أن النظام السوري ما زال على رأيه بأنه لن يعطي ورقة المحكمة الدولية للحليف الإيراني وأن السعودية لا تستطيع ضمان مصالحه السياسية في لبنان، فيلتهب الحريق في البلدين.