الصلوات متعددة والقِبلة واحدة .. ( 2\1 )

مقالات 23 فبراير 2009 0

أعاد تلفزيون “العربية” الذي يديره الصناعي التلفزيوني السعودي وليد الابراهيم، أعاد في الأسبوع الماضي بث فيلم للملك عبد الله بن عبد العزيز وهو يزور بيوت الفقراء المعدمين في جدة رافعاً دشداشته البيضاء بيده اليسرى كي يستطيع الدخول الى الشقة ذات السقف الذي يكاد يلمس رأسه بسبب طوله الفارع، والعتبة التي كان عليه أن ينزل منها إلى أرض الغرفة.
السكان زوج وزوجة من المعدمين تقريباً وحولهما عدد من “البزور” أي “الأولاد”، بالتعبير السعودي لا يظهر عليهم الانشراح من الزيارة الملكية بقدر ما بدا في عيونهم القلق والترقّب. لم يظهر أيضاً على وجوه مرافقي العاهل السعودي الذين انتظروه خارجاً وبينهم أمراء التشجيع على مثل هذه الزيارات.
المرة الأولى التي بث فيها هذا الفيلم كان منذ أربع سنوات حين تولى عبدالله بن عبد العزيز مقاليد المُلك باعتبار أن ما ورد فيه من صور هي العنوان الاجتماعي الذي سيعمل الحاكم السعودي الجديد ـ القديم عليه لتطوير أوضاع حياة السعوديين الظاهرة فيه. ليس وحدهم بالطبع، فهم يعتبرون من طبقة اجتماعية سعودية موضوعة على رف الاهتمامات الملكية السعودية ما قبل العاهل الجديد ـ القديم. تزامن البث الثاني على حدة ما به من صور مع صدور قرارات ملكية في الأسبوع الماضي اعتبرها السعوديون مفاجأة سعيدة وحميمة كونها صدرت في الرابع عشر من شباط، موعد “عيد الحب” الذي لا يعترف به جزء كبير من المجتمع السعودي.
كذلك فعل الإعلام الأجنبي. “النيويورك تايمز” الأميركية اعتبرت التغيير من المفاجآت التي يحتاج الإنسان إلى وقت لتصديقها. وأكملت أن القرارات ليست كعاصفة الثورة الفرنسية، لكنها تغيير سياسي حقيقي في اتجاه سياسة ليبرالية جدية في دولة خليجية.
مؤسسة واشنطن للدراسات الاستراتيجية نقلت عن سيمون هندرسون مدير برنامج الطاقة في الخليج الذي سيصدر دراسة في الربيع المقبل عن خلافة الملك عبدالله بن عبد العزيز بعد أن أصدر دراسة مماثلة عن الراحل الملك فهد في العام 1994. نقلت عنه أن “تمرين التغيير” بدأ إنما ببطء ونشرت تصريحاً لوزير العمل غازي القصيبي قال فيه إن التغيير الذي حدث في مجالي القضاء والتعليم هو لتسريع تغييرات في هذين المجالين الحيويين.
الباحثة نينا شيا من مؤسسة هدسون اعتبرت التغييرات أملاً جديداً في السياسة السعودية مستعملة تعبير “المجزرة غير الدموية” التي جلبت الأمل في كثير من التغييرات الضرورية في السياسة السعودية الداخلية. مضيفة: إذا كان هناك من حقيقة في القول إن “السياسة هي الشخص” فهذه هي الإشارة الأولى إلى أن الملك الذي تولى العرش في العام 2005، يريد أن يعيش حتى تنفيذ سياسته على الأمد البعيد.
****
هل تستأهل هذه القرارات ما كتب عنها حتى اليوم، خاصة من مراكز الدراسات الأميركية فضلاً عن الصحف الرئيسة؟
من يعرف طبيعة النظام السعودي يجد أن فيما حدث تغييراً أساسياً يؤثر على الحياة اليومية للمواطنين. فالتغييرات طالت هيئات رئيسية في جسم الدولة السعودية. الهيئة الأولى هي الدينية ـ القضائية. فقد جرى إعفاء رؤساء جهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر “المطاوعة”، ورئيس المحكمة العليا، وأعيد تكوين هيئة كبار العلماء، وأعيد تكوين مجلس الشورى بإضافة 50 عضواً جديداً إليه.
مضى على وجود الشخصيات المعفاة من وظائفها سنوات طويلة تجذّر فيه نفوذها الديني والدنيوي، بحيث لم يعد يخطر ببال أحد أنه من الممكن تغييرها. فإذا كان التشدد في المجال الديني ـ القضائي هو سمة السابقين من هؤلاء المسؤولين، فإن المعينين الجدد هم من الذين عرف عنهم المرونة والاجتهاد في مصلحة تسهيل حياة المواطنين وصلتهم بالعصر بدلاً من التشبث بنصوص قديمة لها ظروفها وطبيعتها المختلفة عن السائد في هذه الأيام. ليس في الداخل السعودي فقط بل في الصورة العامة للمجتمع السعودي وأدوات انتظامه الديني ـ القضائي في الخارج، خاصة بعد أحداث أيلول في العام 2001 في الولايات المتحدة الأميركية التي جعلت صورة الجهاز الديني وكأنه منبع للنصوص التي يعمل الإرهاب على تنفيذ ما ورد فيها.
للمرة الأولى في التاريخ السعودي يصدر عن رئيس “المطاوعة” الجديد الشيخ عبد العزيز الحمين نص قانوني عصري يقول ببراءة المتهم حتى تثبت إدانته، وليس العكس كما كان سابقاً، حين كان رجال هذه الهيئة يصدرون أحكاماً فورية وفي الأماكن العامة بحق من ارتأوا أن حريتهم في التصرف الاجتماعي الطبيعي مباحة طالما أنهم لن يتسببوا بالأذية او الإزعاج لأحد.
الأوصاف نفسها تسري على رئيس المحكمة العليا السابق الذي بلغ في تشدّده حداً جعله خارج إطار المناقشة، فكيف بالمحاسبة. الجديد الثالث أن هيئة كبار العلماء التي درجت العادة منذ تأسيسها على التزام أعضائها بالمذهب الحنبلي السنّي، تنوعت بموجب القرار وأدخل إليها أعضاء يلتزمون المذاهب السنية الشافعية والمالكية والحنفية؟ مما يخفف بطبيعة الحال من وحدانية الاجتهاد في المناقشات داخل الهيئة على مذهب معيّن معروف في العالم الإسلامي بأنه الأقل اجتهاداً والأكثر تشدداً في النص، وما ينتج عنه من أفعال. خاصة في التعامل مع الفرق الإسلامية الأخرى من غير السنّة. بالطبع هذا لا يعني أن السعوديين الشيعة نالوا ما كانوا يطالبون به من مشاركة في الهيئات الدينية وهو “ما يستحقونه”، بإجماع المصادر الدولية التي علّقت على القرارات الإصلاحية للعاهل السعودي.
مثقف سعودي أجاب على هذه النقطة بالقول “إذا احتاج مشاركة المالكية والشافعيين من السنّة للحنابلة كل هذه السنوات، فكيف بغيرهم من المذاهب. المهم أنه صار داخل هيئة كبار العلماء من يستطيع بفقهه وعلمه في المناقشة الفقهية والعصرية أن يجتهد في الانفتاح على الفرق الإسلامية الأخرى. هذه هي الخطوة الأولى التي يجب التعامل معها بإيجابية تشجيعاً على خطوات أكثر انفتاحاً”.
ويضيف المثقف السعودي المعني بالشأن العام، “أهم ما في هذه القرارات هو التغيير في الهيئات الدينية التي تعتبر شريكاً أساسياً في تأسيس المملكة والمسؤولة عن “الأيديولوجية”، إن صح التعبير، التي ترى أنها حفظت المجتمع السعودي من التفكك لسنوات طويلة بسبب الثروات الهائلة التي انهمرت على جزء من المجتمع بسبب الطفرة النفطية”.
التغيير الاستراتيجي الثاني في القرارات السعودية، هو في مجال التعليم وهو مجال مفتوح الحوار حوله منذ أحداث أيلول الشهيرة في الولايات المتحدة أيضاً باعتبار أن التعليم الديني الملزم في المدارس السعودية يأتي في نصوص متزمتة تشجّع على وحدانية الرأي والاجتهاد الفقهي، بحيث تغلق كل مسارب الحوار الضروري لمعرفة الاتجاهات السائدة في العالم سواء من المنتسبين الى الدين الاسلامي نفسه أو إلى الديانات الأخرى.
وزير التعليم الجديد هو الأمير فيصل بن عبدالله آل سعود وهو الثاني من العائلة السعودية الحاكمة في هذا المنصب منذ تأسيس المملكة. تقول مؤسسة هدسون الأميركية للدراسات أن الأمير الشاب كان يعمل على دراسة التغييرات الممكنة والمطلوبة في نظام التعليم دون إعلان وحتى خلف الستار. إذ أنه يشغل رسمياً منصب نائب رئيس المخابرات السعودية، مما يساعده بحسب الدراسة نفسها على معرفة كيف استطاع نظام التعليم السعودي تزويد التطرف بأيديولوجيته.
تنقل دراسة المركز الأميركي عن مصدر في لجنة حقوق الإنسان السعودية أن الأمير الوزير سيجري «دوشاً» لنظام التعليم السعودي، فهو من الأمراء النافذين الحائزين على ثقة الملك، وواحد من الذين يمكن الاعتماد عليهم للنجاح في الامتحان.
وزير التعليم الجديد متزوج من ابنة الملك عبدالله الأميرة عديلة المعروفة بأنها من المدافعين عن حقوق المرأة السعودية، بما فيها حقّها في قيادة السيارة.
المفاجأة في مجال التعليم هو تعيين سيدة هي نورا الفايز نائبة للوزير لشؤون تعليم البنات، وهي المرأة الأولى في تاريخ المملكة التي تستلم فيه مركزاً رسمياً على هذا المستوى.
كلاهما الوزير ونائبته درسا في الجامعات الأميركية وحصلا على شهادات عالية منها.
أضاعت الفرحة حول التغييرات في الهيئتين القضائية ـ الدينية والتعليم حقوق الوزراء الآخرين في التركيز على معرفتهم واتجاهاتهم. تقول دراسة مؤسسة واشنطن للدراسات الاستراتيجية أن وزير الإعلام الجديد سفير سابق في لبنان، يتمتع بانفتاح على العصر إذ أنه درس في بريطانيا وتسلم مسؤوليات عدة في الجامعة السعودية ووزارتي الإعلام والخارجية قبل تسميته وزيراً. كذلك الأمر مع وزير الصحة الجديد الدكتور عبدالله الربيعة الذي يتمتع بشعبية طبية كونه أجرى عمليات ناجحة لفصل توائم ملتصقين ببعضهم البعض. وهو عمل طويلاً في الحرس الوطني السعودي. هذا فضلاً عن الرئيس الجديد لصندوق النقد السعودي الذي كان يعمل سابقاً في البنك الدولي في واشنطن ثم تسلم نيابة رئاسة الصندوق السعودي. ويقول وزير المال السعودي إن الرئيس السابق هو الذي طلب إعفاءه من منصبه بعد 25 سنة من العمل في الصندوق.
***
لماذا التغيير الآن ؟
تقول “النيويورك تايمز” إنه مضى خمس سنوات تقريباً على تسلم الملك عبدالله الحكم. هذه المدة سمحت له بتمتين تحالفاته الداخلية من جهة، وأعطته الوقت أيضاً لتسجيل الأخطاء الصغرى والكبرى لكبار المسؤولين الدينيين. آخر مثل على هذا الجنوح لدى المسؤولين الدينيين الفتوى التي أصدرها الشيخ صالح بن حميد رئيس جهاز “المطاوعة” المعفى من منصبه. والتي تنص على السماح بقتل أصحاب المحطات التلفزيونية الفضائية. ولكن العاهل السعودي حرص منذ توليه الحكم على عدم تغيير التشكيلة الوزارية التي ورثها، كما هي العادة عند تسلم الملك الجديد زمام الأمور، بل حافظ على معظم توازنات الوزارة السياسية والعائلية لعدم رغبته الاستعجال في التغييرات.
أما دراسة مؤسسة واشنطن للدراسات الاستراتيجية فتقول إن الملك أشرف على هذه التغييرات ومنحها رعايته بعد أن سمح لمعاونيه الأقربين بتطوير آراء وسياسات تعتبر بالمقياس السعودي دفعاً سياسياً واجتماعياً جديداً.
ظهرت إيجابيات هذه التغييرات بسرعة على رجال الأعمال السعوديين الذين يريدون حياة أكثر انفتاحاً لعائلاتهم في ظل مؤسسات دينية مستنيرة وقادرة على التجاوب مع متطلبات العصر.
هذا من الناحية الاجتماعية، لكن ماذا عن الاقتصاد وشؤون الفقراء والموظفين الصغار؟ ماذا عن السياسة؟
يقول مصرفي سعودي كبير إن المصارف السعودية لم تتأثر بشكل جدي بالأزمة الاقتصادية الأميركية وبالتالي الدولية. إذ أن الميزانيات التي نشرت عن هذه المصارف تؤشر إلى أرباح ضئيلة نسبياً، مما يعني أن الخسائر المفترضة في سوق الأسهم تمت تغطيتها من الأرباح المحققة. ويضيف “ان الصناديق السيادية السعودية التي تملك احتياطات مالية ضخمة ومتراكمة على مدى السنوات ليس مسموحاً لها بالاستثمار خارج السعودية. فضلاً عن أنها تعتمد الاقتصاد الإسلامي في استثماراتها مما جعلها في مأمن من التدهور في سوق الأسهم الدولي. بالتأكيد هناك أفراد أصابتهم خسائر قليلة او كثيرة أو حتى فادحة، لكن هذا لن يؤدي إلا إلى بطء في عجلة زيادة الاستثمارات أو توفر الاستثمارات الجديدة. لكن هناك شركات ورجال اعمال يعملون بجدية داخل السوق العربي السعودي والأسواق العربية حققوا أرباحاً معقولة وأكدوا صلابتهم في السوق المالي. أما بالنسبة لصغار المستثمرين فقد خفّت حمى شراء الأسهم في البورصة السعودية بعد سنتين من الدراما وأحلام الثراء السريع التي جعلت الكثير من الموظفين يستدينون لمدة 20 سنة على مرتباتهم بهدف الاستثمار والمضاربة في الأسهم المحلية، في ظل جهل تقول الإحصاءات السعودية إنه يطال نصف المتعاملين. بل إن بعضهم كان يشتري أسهماً في العام 2006 من شركات أعلنت ولم تُستكمل إجراءات تسجيلها بعد. وهناك من اشترى بسبب لون الأسهم. لكن الملك عبدالله انتظر هدوء هذه الطفرة ووضوح حجمها على صغار المستثمرين وخصّص منذ أسابيع ملياري ريال لتغطية قروض صغيرة ومتوسطة لطبقة واسعة من الموظفين والمستثمرين الصغار. على الرغم من انخفاض أسعار النفط”.
يضيف المصرفي السعودي الكبير “أن أسباب الانخفاض الحالي لأسعار النفط سياسي، ولا يخضع للعرض والطلب. البعض يفسره لضرب الاقتصاد الروسي وكذلك لمزيد من الإفقار للاقتصاد الإيراني”. يستدلّ على ذلك بمقال صدر في شهر أيلول من السنة الماضية كتبه وزير الخارجية الأسبق والأشهر هنري كينسجر بالتعاون مع مارتن فيلدشتاين استاذ الاقتصاد في جامعة هارفرد وكبير المستشارين الاقتصاديين للرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان.
حذر الاثنان في المقال من عواقب حصول الدول المنتجة للنفط على ألف مليار دولار، إذا استمرت أسعار النفط على ارتفاعها. مما يؤدي إلى خفض مستويات الحياة في الدول الغنية المستوردة. ودعا الكاتبان إلى مواجهة هذا الأمر بتقليص الاعتماد على النفط المستورد وتطوير استراتيجية سياسية لمواجهة التلاعب بالسوق، وكذلك تجنب قيام دول “أوبك” باستعمال أرصدتها الكبيرة مالياً للابتزاز السياسي والاقتصادي. لكنه “يعتبر استعادة صورة العاهل السعودي زائراً لبيوت المعدومين يعني أن هناك “خطة ما” يجري إعدادها لحل مشاكل هؤلاء المواطنين أو بعضهما على الأقل في الوقت الحاضر”
****
بقي الاستقرار السياسي الداخلي: لا يمكن قراءة القرارات الأخيرة الاستراتيجية في مفاصل القضاء والهيئات الدينية، خارج نطاق التحضير لعمل هيئة البيعة على اختيار ولي عهد من ثلاثة أمراء يسميهم الملك. فالوضع الصحي للأمير سلطان ولي العهد “دقيق للغاية”. وقد عاد إلى الولايات المتحدة لمتابعة علاجه من سرطان في القولون”، بعد فترة نقاهة في المغرب، شفاه الله.
هذا ما يؤكده سيمون هندرسون الخبير في الشأن السعودي في مؤسسة واشنطن للدراسات الاستراتيجية. ويضيف هندرسون أن الأمير سلمان هو المرشح المحتمل والأصغر نسبياً بين أخوته، ما عدا الأمير مقرن رئيس المخابرات الذي يبلغ من العمر 66 عاماً.
ليس بالضرورة أن يكون ترشيح هندرسون للأمير سلمان واقعياً، لكنه بالتأكيد تعبير عن إعجاب بما يرونه في “أمير العائلة الحاكمة”، قبل أن يكون أميراً للرياض وإشارة إلى “هدوء” سيرته مقارنة “بصخب” سير الآخرين.
وسط هذه الأجواء، يحرص العاهل السعودي على أن يستقبل ضيوفه في روضة “خريم” التي يرتاح إليها كونها في الصحراء، وليشاركهم في لعبة “البولز”، الاسم السعودي للعبة ذات أصل أسكتلندي. إضافة هنا إلى أنه في السادسة والثمانين من العمر.
ماذا عن السياسة الخارجية مصر، سوريا، واشنطن، ايران؟ الجواب في الحلقة المقبلة…

) أتيح للكاتب في الأشهر الأخيرة أن يزور كلاً من عمان. جدة. اسطنبول. القاهرة. باريس وهذا بعض ما عاد به.(