الشورت، الحجاب، وربما النقاب

قالـوا عنه 11 يوليو 2016 0
حتى لو لم يقُلْ وزير الداخلية تلك الجملة عن الشورت اللبناني، وعن ارتباطه بالأمن أو أنه دلالة عليه، وعن تميز لبنان، بالشورت، عن بقية الشرق… وحتى لو قالها، ثم سحبها تحت ضغط الكمية الهائلة من السخرية التي اجتاحت مواقع التواصل… فإن جملة الوزير أصابت نقطة من صميم المناخ العام.

كان يمكنها ان تتضمن العكس تماماً. كأن يستفظع الوزير مثلاً، كثرة حوادث التحرش ضد لابسات الشورت. أو يدينه، بصفته “خروجاً” عن الدين والآداب العامة. بل كان يمكن أن يصدر عن مرجعية دينية، او عن رجل دين نجم تلفزيوني، كلام من هذا العيار الإستنكاري ضد الشورت والسفور، كما فعل مؤخراً “المُربّي الديني” (هكذا يوصف)، السيد سامي خضرا، الذي أعلن عبر تلفزيون “المنار” ان المرأة التي لا ترتدي الحجاب هي امرأة “ضعيفة الشخصية”. المسؤولون، “المربّون” الدينيون، بل ورجال الدين أنفسهم، يمكن ان ينعموا بملَكَة الكلام عن النساء بما يتفق مع أمزجتهم أو نظرتهم أو عقيدتهم. فجملة السيد خضرا، كما هي جملة وزير الداخلية، من بنات هذا العصر.

عند هذا الحدّ فقط يكون لكلامهم أثر، أو معنى، أو حتى وطأة. لكن بعد ذلك، لا شيء: ففي الواقع وقائع شتى فالتة من أيدي هؤلاء المسؤولين، ولا جميل لهم في الإيجاب، كما في السلب. “الحرية الفردية” التي تتمتع بها المرأة اللبنانية، أو الشابة، والمرفوعة دائماً بوجه كارهي الشورت أو الحجاب، والتي تصنع ذاك المشهد الرائع من تعايش الأذواق والإتجاهات “الهنْدامية” المتعارضة بقوة… تلك الحرية كنز لا يفنى، صحيح، لكنه كنز له شروطه أيضاً. وهنا لا أتكلم عن “الشروط” المادية، أي ذاك الجهد، وتلك الأوقات التي تقضيها اللبنانية بحثاً عن أفضل طلّة لها أمام الملأ. وهي طلاّت كثيرة، تراها في الشارع بأم العين: نساء بقدر عدد الرجال، وربما أكثر، يقدن سيارة، يمشين، يركَبن بمفردهن الباص أو السرفيس، في نصف الطريق، يتبضعن، يتنزهن… لا أتكلم عن “الشروط” المادية، قلت، إنما عن كون هذه “الحرية الفردية” المرفوعة عالياً لا تقوم على دوافع وطنية، كأن نقول مثلاً أن في لبنان اتجاه وطني جامع، يتطلع الى المرأة الجديدة بصفتها صانعة ذوقها ومستهلكته في آن. لا، ليس الأمر على هذا النحو. ولا هو بالقوة أو العمق اللذين يبرزان في النظرة الأولى لهذا المشهد.

نقول “حرية فردية”، ونتلذّذ بنطقها. “حرية الشورت”، “حرية الحجاب”، أو التشادور أو حتى النقاب. فالمشهد المتنوّع لا يخلو أيضاً بدوره من لابسة تشادور أو نقاب، هنا او هناك، وإن بنِسَب أقل.

لكنها في واقع الأمر ليست كذلك. تلك “الحرية”، ليست تماماً “حرية فردية”. لماذا؟ لأن الذي يربّي هذا الفرد، ويهيمن على سلوكه وذوقه، ليس “الدولة”، أو الحزب الواحد، أو الجامعة أو “وزارة التربية” أو “الثقافة”… ولا حتى القراءة التاريخية لما يحدث معنا من تقلّبات، هي من صنع أيدينا. لا ليس الأمر كذلك، إنما أضيق: تلك التي تخرج بالشورت أو بالحجاب أو النقاب، تفعل ذلك بناء على ضغوط من محيطها المؤثر فيها. مع الأولى، كما مع الثانية أو الثالثة، هناك إما الأهل، الأقرب، أو المحيط الضيق، الأبعد. لا تستطيع الواحدة أن تخرج بما يحلو لها، إذا كان هذا المحيط رافضاً لهذا الهندام أو ذاك. ربما المحجّبة تجد احتراماً أكبر أو هيبة في هذا المحيط او ذاك. ويمكن لمرتدية الشورت كذلك أن تبهر النظر. لكن في العموم، لا يمكن للاثنتين خوض حرب يومية من أجل هذا أو ذاك من اللباس. فالضغط بدوره متنوع. ضغط الدين والتزمّت، قد يكون مخفّفا هناً، وثقيلاً هناك. وكذلك ضغط الموضة، الأقل نطقاً، والمحبّبة، ولو بين المحجبات.

لكن التنوع لا يقف عند هذا الحدّ. داخل المجموعة نفسها من مرتديات الشورت أو الحجاب، تجد مرْوحة واسعة من الأذواق والأشكال. وفي الإثنين، الحجاب والشورت، تتراوح الأنوثة بين صارخة، ومعتدلة، وأحياناً معدومة. نعم، مع الشورت معدومة، ومع الحجاب صارخة، في أقصى الحالات. قد تكون التعبيرات الفردية الدقيقة هي التي تحدّد درجات التنوع داخل الهندام الواحد. هنا الفردية بأبهى صورها، والتي تنسيك، يا للمفارقة، بأن لابسات الشورت كما الحجاب كما النقاب، ممنوعات من السياسة ومن الاجتماع إلا في حدود يرسمها صاحب السلطة داخل طائفة كل واحدة منهن.

اللبنانية تمتلك حرية في الهندام يحدّدها محيطها الضيق أو الأوسع. لكنها محرومة من غالبية بقية الحقوق. ومع ذلك، فإن هامش الفردية الذي تتيحه مسألة الهندام تبقى قوية جداً. أقوى من العصور وأرواحها. وفي هذا الهامش بالذات، الضيق، المتقلّب، تكتسب المرأة اللبنانية سلطة ما بعدها سلطة؛ سلطة الإغواء، الشرير منه والبريء، سلطة الأناقة المهيبة، الطبقية أحياناً… معتمدة على حرية مكْتسبة عبر الإصرار “الهنْدامي”، الذي يشبه أحياناً النضال، أو المقاومة. مقاومة التنميط، والشمولية والأحادية. وعلى جسدها هذا يريد الوعاظ والسياسيون أن يبنوا مجدهم. لكنهم لا ينالون إلا القليل. تتمرد المرأة اللبنانية أكثر من غيرها من بنات الشرق، وعلى جسدها يمكن قراءة وجهة المجتمع. أما محاولة التوظيف الديني أو السياسي في نداوتها النسبية، فلن تجد غير آذان ميالة إلى النسيان أو السخرية.

تحت القصف والقنابل والإنفجارات، أثناء الحرب الأهلية، لم تستسلم المرأة اللبنانية ولم تترك جسدها تفتك به جرائم التاريخ. بقيت تغسل شعرها بماء السبيل، تلفّه بـ”البيغودي”، ولا تخرج من منزلها إلا بـ”كرامة”، كما تقول، غير مستسلمة لإهانات الخوف من الموت. وهي بذلك، تفوّقت على أمراء الحرب، وعلى من تحولوا من بينهم إلى أمراء سلم. وما زالت حتى الآن تحمي لبنان بجسدها الحيّ، محجبة كانت أو منقبة أو بالشورت، أو بالتشادور.