ذكرى اغتيال جبران تويني (10): وضع المنطقة يحتّم قرارات شجاعة لحفظ لبنان

كلمات 19 ديسمبر 2015 0

أيها الحضور الكريم ،

لسببين لم يكن بوسعي الا أن أقبل دعوة المشاركة باحتفال هذا المساء ، الأول ان الداعين الى هذه المبادرة هم شابات وشبان متمسكون بالتزامهم الوطني وينبغي دعمهم وتشجيعهم ، والسبب الثاني أنها تأتي إحياء لذكرى زميل ورفيق وصديق عزيز جمعنا مسار مهني ووطني مشترك.

ايها الشابات والشبان ،

في مثل هذا الشهر وقبل اربعين عاما ، وفي عز “حرب السنتين” على الارض اللبنانية ، ارتفع صوت هامة وطنية كبيرة نفتقد حضورها في هذه الايام العصيبة ، ارتفع صوت الرئيس الراحل كميل شمعون ليقول بكل حزم : ” يجب الحفاظ على الحريات في هذه المنطقة من العالم… هَم المسيحيين ان يعيشوا أحرارا بأمان أسياد أنفسهم نظرا للقيم التي يمثلونها”.

وأضاف : “لبنان ارث ثمين من واجب المسيحيين حمايته والمحافظة عليه”.

فلا عجب هذا المساء أن يبادر شباب الوطنيين الاحرار الى تكريم شاب استجاب لهذا النداء وناضل من اجل حماية هذا الإرث الوطني من خلال المساهمة الفاعلة والفعالة في انتفاضة استعادة الحرية والسيادة والاستقلال.

نعم كان جبران تويني شابا وطنيا حرا بامتياز. كان رمزا للشباب اللبناني الملتزم بانتمائه الوطني والمجاهد لصيانة تلك القضية المقدسة ، علة وجود لبنان ، الا وهي الحرية التي من أجلها امتزج حبر قلمه بدم استشهاده.

صوت هذا الديك الشاب ، “ديك العنفوان”، لا تزال تلك الساحة ، ومنذ عشر سنوات ، تردد اصداءه . قسمه بات فعل إيمان يجاهر به صبحا ومساء ، المسلمون كما المسيحيون ، يعاهدون الاله الواحد و”الوطن العظيم أن يبقوا موحدين”.

وعلى مسافة أمتار من تلك الساحة امتدت يد الغدر نفسها لتطال رفيقا كبيرا العزيز جبران هو احد اركان الاعتدال والانفتاح اللبناني ، قصدت الدكتور محمد شطح الذي تصادف ذكراه بعد اسبوع.

وعلى مسافة خطوات فقط من تلك الساحة ، كانت يد الغدر قد سرقت منّا حلم الاعتدال وأباه، الرئيس الشهيد رفيق الحريري، رجل الوسط، وقد اغتيل في الوسط الذي اعاد بناءه وفي العاصمة التي أعطاها اغلى ما امتلك , حياته.

لن تكون هذه الكلمة مرثية، بل مناجاة لكلّ هذه الأرواح التي تحرسنا، والتي كيفما التفتنا في لبنان نتذكّر كيف أنّهم كانوا طليعة شهداء الحرية في لبنان.

وعلى مسافة أيّام يحتفل المسلمون بذكرى المولد النبوي الشريف (صلعم)، ويحتفل المسيحيون بذكرى ميلاد السيد المسيح عليه السلام، كما لو أنّها إشارة إلهية، إلى كلّ البشر، بأن احتلفوا بأنبيائكم، وتعلموا من سيرهم واستوحوا من قيم التسامح والمحبة التي اورثونا اياها وتناساها الكثيرون  بدل أن تتمترسوا وراء الأحقاد بحجة الدين والدين منها براء.

الحضور الكريم ، ايها الشباب الواعد،

في هذه اللحظة السياسية، وإذ يحاصرنا جنون الحروب وانفلات الإرهاب من العصبيات المذهبية ، الإرهاب بوجهيه من العملة الواحدة، وجهي الولاية والخلافة ، نتذكّر كيف أنّ الإرهاب لا دين له ولا مذهب

إرهاب القتل والاغتيالات ، وإرهاب التفجيرات وإلغاء الآخر، مهما كان هدف من يتوسّله ، أكان إسكات المختلفين، أو احتلال بلدان، أكان فرض معتقدات دينية أو تغييرات سياسية.

وهل هناك دليل على إمساكنا بهذه اللحظة أكثر سطوعا من ولادة تحالف إسلامي بوجه الإرهاب، تقوده المملكة العربية السعودية؟ تحالف كان واضحاً ولي ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، حين قال إنّه يضع في أعلى سلّم أولوياته المواجهة الإعلامية والفكرية والدينية، إلى جانب المواجهة الأمنية والعسكرية.

فلكي نواجه الإرهاب لم يعد يكفي حشد الأساطيل وتعبئة مخازن الأسلحة وغارات الطائرات ، ولم يعد يكفي لنواجهه أن نشكّل أحلافا عسكرية… بل بات لزاما علينا أن نعرف كيف نفجّر مخازن المنطق الإرهابي ، وكيف نغير على سارقي الدين، وكيف نوقف منتحلي صفة رجال الدين من المتطرفين ، الذين يعبّئون شبابنا ، ويسرقون زينة حياتنا الدنيا، أولادَنَا، ويحوّلونهم إلى قنابل موقوتة تقتل أهلهم وأقرباءهم واخوتهم باسم الدين.

وقد طرحت سابقا، في مناسبات كثيرة ، ثلاثية مواجهة التطرف التي تقوم على التماسك الوطني والاحتراف الامني والشجاعة الفقهية وقلت إنّه لا بدّ من دعم الاعتدال، ورجال الدين المعتدلين، في مواجهة المتطرفين، ممن يسيئون إلى  الإسلام. فالقرآن ذكر “الجهاد” 41 مرّة، في حين ذكر كلمة “العقل” 49 مرة و”الحب” 76 مرة… هو دين الحبّ والتسامح.

جبران تويني

يا محبي جبران ورفاقه،

الذين قتلوا جبران تويني كانوا يريدون إسكاته طبعا ، لكن أكثر، كانوا يريدون من خلال استهدافه ايصال رسالة واضحة ، رسالة تحذير وترهيب لكل رفاق دربه.

فهو لم يكن شابا عاديا كان من قماشة استثنائية . جمع في شخصه اكثر من صفة. كان صحافيا حرا ومشاكسا حيث يناديه القلم ، وسياسيا عنيدا حيث وجب النضال ، وناشطا فاعلا حيث يلزم. اكثر من كل ذلك ، كان له سحر خاص عند شابات وشبان جيله الذين امن بهم ففتح امامهم كل مجال فبادلوه المحبة والتقدير. لكل ذلك كان المطلوب شطب هذا النموذج الاستثنائي ومنعه من التكاثر.

 أذكر جبران شابا متحمّسا في بداياته، حين عملنا سويا في “النهار العربي والدولي”. ولا أذكره غير شاب، ومتحمّس، حتّى يومه الأخير. تلك الحماسة، مثل كلّ شغف، تقتل حاملها، كما تقتل الأحلام حالميها، وكما تقتل القضايا المناضلين من اجلها.

أيها الحضور الكريم ،

في لبنان، هذه الأيام، نحتاج اكثر من اي وقت اخر إلى قسم جبران .كما نحتاج الى روح 14 آذار والى جسدها اكثر من اي وقت مضى. 14 آذار هي قسم جبران، قسم أن نبقى موحّدين رغم اختلافاتنا، والوحدة تحتاج إلى تنازلات متبادلة قد تبدو مؤلمة احياناً. لا يجتمع اثنان إلا إذا وضعا جانبا ما يفرّقهما، وأبرزا ما يجمعهما، فكيف إذا كانا شريكين على عاتقهما حماية بلد واحد والمحافظة عليه؟

ألا ينبغي علينا ان نمتثل ونقتدي بذلك الموقف المشرف والشجاع للراحل الكبير الاستاذ غسان تويني وهو يودع جبران في اصعب اللحظات المأساوية حين تعالى على الجراح ودعا يومها وامام جثمان نجله الى “دفن الاحقاد وكل الكلام الخلافي” , وألايصح ان نسير يدا بيد لتسوية أمورنا وانقاذ وطننا ؟

 بعد تسعة عشر شهرا اثبتت التجربة ان لبنان لا يعمل من دون رئيس للجمهورية. فشبح الفراغ، الذي انتقل من موقع الرئاسة الاولى إلى المؤسسات الدستورية والأمنية والعسكرية، باتت اخطاره تهدّد كل مفاصل المجتمع اللبناني.

نحتاج اليوم الى أن نبقى موحّدين، وأن ننتخب رئيسا للجمهورية، بالتضحيات والتنازلات المتبادلة، خصوصا إذا كان البديل هو الفراغ، الفراغ القاتل الذي يهدّد أمننا واستقرارنا ونظامنا ولقمة عيشنا.

في الختام،

كثيرون كانوا ليقولوا: لو أنّ جبران بيننا اليوم. لكن أعرف وتعرفون أنّ جبران بيننا اليوم ، ولو لم يكن بيننا لما اجتمعنا هنا لتجديد فعل المحبة له.

واسمحوا لي هنا ان ارد باسمكم على كل المشككين ، وان اطمئن جميع الغيارى … ديك غسان باق ليصدح للحرية كل صباح ، وحلم جبران بلبنان العظيم والموحد لم ولن يمت ، وهو باق ، باق ، باق …

ف”النهار” مستمرة ، كما كتبت على صدر صفحتها الاولى صبيحة اليوم الاول لغياب جبران ، ذلك انها لم تعد ملكا لعائلة بحد ذاتها بل انها تحولت تراثا تفتخر به وتتمسك به العائلة اللبنانية الكبرى ، وحلم جبران سيبقى حيا ما دام هناك شابات وشبان مثلكم أوفياء للقسم قولا وفعلا.

عشتم موحدين وعاش لبنان

.