”الدفتردار“..

مقالات 03 أبريل 2006 0

أدخل سعد الحريري تعديلين مضيئين، ليس على سيرة عمله السياسي الكثيرة الحرارة والصغيرة العمر فقط، بل على تقاليد العمل السياسي اللبناني ككل. التعديل الأول حين تقدم أمام جميع القوى المتحالفة معه معلنا باسمهم جميعا اعتذاره عن الخطأ الذي ارتكبوه بحق المبادرة العربية، مؤكدا للزميلة “الشرق الأوسط” أن كل المساعي العربية كانت لمصلحة لبنان واستقراره، لذلك “نحن مع كل مبادرة عربية وكل تحرك يسعى للاستقرار في لبنان”.

في حديثه للزميل أحمد منصور في تلفزيون “الجزيرة”، كرر الحريري اعتذاره الى “المبادرة السعودية”، مكررا ما يقوله دائما، وقبله والده الشهيد، عن دور السعودية الخيّر للبنان وشعبه، وحرص القيادة السعودية على تحقيق آمال اللبنانيين بوطن سيد ومستقل وحر.

يحمل هذا الاعتذار في طياته الكثير من الروايات التي بدأت في موسم الحج الماضي في السعودية حين كان الرئيس فؤاد السنيورة يؤدي مناسك الحج. والأوراق المتبادلة بين وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل والرئيس السنيورة ووزير الخارجية السوري في ذلك الوقت فاروق الشرع، التي انتهت بأعنف هجوم أميركي فرنسي لبناني، عبّر عنه “وليد بك” والرئيس السنيورة و”الحكيم” سمير جعجع، ونسقه الوزير مروان حمادة.

رئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي أكد في حديث صحافي، أن السفيرين الأميركي والفرنسي هما اللذان قادا الهجوم المبرمج بإطلاق قنابل دخانية تخلط ما بين الورقة السورية غير المعنونة والمبادرة العربية التي قادتها السعودية في ذلك الوقت.

وفي حديث بين الدكتور جعجع وبيني في الأرز، حيث إقامته الموقتة، عن المبادرة العربية، فوجئت باعتراف الدكتور جعجع بأنه واحد من مجموعة سياسية “زحّطت” المبادرة بدعم وتأييد دوليين.

هناك أيضا ما يقال عن تأثير التصرف الفرنسي في نتائج زيارة الرئيس جاك شيراك الى السعودية على رأس وفد يضم من رؤساء الشركات الفرنسية ما يزيد على الطاقم السياسي والدبلوماسي والإداري المرافق للرئيس. إلا أن أياً من الاختصاصيين من أعضاء الوفد، لم يحصل على ما كان يفترضه من صفقات وعقود وانتصارات سياسية.

أما السفير السعودي في بيروت الدكتور عبد العزيز خوجة فيتصرف وفق أعلى درجات الاستنفار الدبلوماسي السعودي. الاستنفار السعودي اختصاصه الهدوء، قلة الكلام، اختيار العبارات بدقة شديدة. التصرف كأنه لم يكن هناك من مبادرة، وبالتالي فالتهجم عليها هو كمن يطلق النار في الهواء. يُزعج سامعيه لكنه لا يصيب أحدا، خاصة إذا كان يتمتع بأعصاب دبلوماسية حديدية صنع السعودية مثل السفير خوجة حيث الصمت هو سيد الغضب.

انقلبت هذه الصفحة الآن، أو تكاد، إنما المهم أن النائب الحريري تمتع بشجاعة لا تتوفر لغيره من السياسيين، فتقدم باعتذاره الى المبادرين العرب، على أنه التصرف الطبيعي والأسلم لمن يريد أن يراكم في حسابه السياسي بندا خاصا غير موروث.

التعديل الثاني متصل بالاشتباك الكلامي الذي حدث في الجلسة الأخيرة المغلقة لقمة الخرطوم بين الرئيسين لحود والسنيورة. الأول يصر على حق المقاومة في العمل لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلة، والثاني يريد الحصول على حق اللبنانيين في المقاومة لتحرير أراضيهم المحتلة.

لم يكن الخلاف كلاميا بالطبع، بل إنه نتيجة صراع سياسي كبير يدور منذ أشهر في لبنان بإدارة تتراوح بين السيئ والأسوأ، سواء من حيث التقدير أو بقراءة المتغيرات، أو الاعتراف بالوقائع.

صرح النائب الحريري بعد منتصف ليل جلسة الاشتباك السياسي “بأن الرئيس السنيورة رجل وطني لا يحتاج الى شهادة من أحد، وهو على رأس حكومة لم توفر وسيلة لدعم المقاومة بدءا من بيانها الوزاري”، مذكرا بموقفه الشخصي باعتبار المقاومة حقا للشعب اللبناني في وجه الاحتلال، وباحترام تضحياتها وإنجازاتها ودماء شهدائها.

يُفترض أنه سبقت ذلك سلسلة من الاتصالات الهادفة الى تهدئة الوضع واعتبار ما جرى في الخرطوم بندا على طاولة الحوار، وليس عناوين في الصحف عن اشتباك مقبل.

لا يمكن القول إن النائب الحريري نجح في حصر الاشتباك في مكانه، أي الخرطوم، ولكنه بالتأكيد تميز بتغطية حاسمة وجازمة لفؤاد السنيورة ولموقفه في القمة. فقد ظهر الحريري أنه لا يسعى لحماية رئيس وزراء مسمى من كتلته النيابية وتحالفاتها، بل ان الحريري أراد التأكيد أن السنيورة مؤتمن على تراث رفيق الحريري، وبالتالي هذا خط أحمر لا يجوز تجاوزه. هذا من الناحية الشخصية. أما من الناحية العملية، فالحريري يصر على أن ما حدث ليس نقطة لصالح الرئيس لحود، بل إساءة قراءة أو خلل في التواصل بينه وبين وزير الخارجية فوزي صلوخ، نتجت عنه الفراغات في روايته لتصل الأمور الى ما وصلت إليه بين الرئيسين لحود والسنيورة على مشهد ومسمع من كان حاضرا من الزعماء العرب.

لا بد من الاعتراف هنا بأن الاندفاع الذي ميّز حركة الحريري بصرف النظر عن صوابية حركة السنيورة، موقف متقدم يسجَّل للنائب الحريري ويجعل من الاندفاع السياسي نحوه أكثر ثقلا ومصداقية.

هناك أيضا الكثير من الروايات حول قرار الرئيس السنيورة المشاركة في القمة العربية التي غاب عنها العاهل السعودي والرئيس المصري وغيرهما من الرؤساء العرب. لكن الرئيس السنيورة ارتأى، عن حكمة، التشاور مع الغائبين السعودي والمصري قبل اتخاذ القرار بالتفاهم مع دعائمه السياسية، أي النائب الحريري و”وليد بك” و”الحكيم” سمير جعجع.

الرواية الأدق تقول إنه سمع “نصيحة غير ملزمة” من العاهل السعودي بحضور القمة ” بحيث تكون منبرا لعرض وجهة نظركم التي نثق بأنها معكم ستكون في أمان الحكمة والاعتدال والحق بالتمسك بالسيادة والحرية والاستقلال”. عاد الى بيروت ليجد أن لا أحد يريد تحمّل مسؤولية رفض نصيحة سعودية مرة أخرى، ولو كانت غير ملزمة، خاصة أن النائب الحريري كان على أبواب التحضير لاعتذاره عن الخطأ الأول.

تم الاتفاق على حضور السنيورة منفردا للاستفادة من لقاءات ثنائية تفيد في عرض وجهة نظر الأكثرية العددية في موازاة حركة الرئيس لحود التي لا بد من أن تكون في الاتجاه الآخر.

وهكذا حصل. حقق الرئيس السنيورة تقدما طفيفا من خلال مصافحة “كسر الجليد” بينه وبين الرئيس السوري الذي طلب منه إعداد جدول أعمال الزيارة المرتقبة له إلى دمشق.

أما الرئيس الموقت لحود فقد حقق شرعية عربية بحضوره القمة من دون أخذ الحاضرين بعين الاعتبار فقدانه الشرعية الشعبية اللبنانية.

غير أنه بصرف النظر عن النص الذي اعتُمد في المقررات الختامية للقمة بشأن لبنان ومقاومته، فلا شك في أن الرئيس السنيورة، بطلب من دعائمه السياسية، تصرف وفق قاعدة غير متوفرة لحركته في القمة العربية.

أولا: ان مراجعة بسيطة للتطورات السياسية المحيطة بهلال الأزمات من طهران الى بيروت، تعطي الانطباع الأكيد ان الوقت غير مناسب لتحقيق تقدم في أي مجال سياسي. الأدلة كثيرة، أولها وأهمها الفتوى التي أصدرها مرشد الثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي بجواز المفاوضات مع الأميركيين “الأعداء” بشأن الوضع في العراق.

ثانيها التشدد الذي تُظهره حركة حماس التي شكلت حكومتها متجاهلة كل الإنذارات والتهديدات والنصائح.

ثالثها الاختراقات التي حققتها السياسة السورية في لبنان: الحياد العربي، برغم قول العاهل السعودي عن تدخل غير معلن وغير مباشر مع القيادة السورية؛ مذكرة التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحر؛ الهدوء السوري الذي يوحي بالراحة والاستقرار بعد أشهر من الاضطراب.

رابعها: الحديث الذي أدلى به الرئيس الأسد الى تلفزيون أميركي وأبدى فيه استعداده للتفاوض على كل المواضيع مع الإدارة الأميركية. فإذا بالرئيس الأميركي يرد عليه بإعادة العلاقات مع سوريا الى نقطة الصفر، أي عودة دمشق وواشنطن الى الاشتباك، ولو عبر لبنان.

خامسها: دعوة الرئيس الفرنسي جاك شيراك الى تطبيع سريع بين دمشق وبيروت بعد حملة حادة على القيادة السورية، ظناً منه أن هذه النصيحة تساعد لبنان على تفهم الحاجات السياسية السورية. حتى تيري رود لارسن، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، شجع أثناء زيارته الى لبنان في الأسبوع الماضي على حوار سوري لبناني بعد أن كان همه لفترة طويلة ربط التحقيق في اغتيال الرئيس الحريري بالعلاقات اللبنانية السورية.

يسجل هنا أيضا للنائب الحريري بصفته نجل الشهيد، أنه قدم صفته العامة كممثل للشعب اللبناني على حدّة وجعه الخاصة، بالموافقة على فصل الحقيقة في اغتيال والده عن علاقات بيروت دمشق.

سادسها: ألم يلاحظ الرئيس السنيورة، نتيجة كل هذه المعطيات، أن مصر والسعودية والإدارة الأميركية التي تتابع بيانات القمم العربية على عادتها، تركته وحيدا بصرف النظر عن وجود السعودية ومصر، أو غياب ممثليهما عن قاعة القمة في الخرطوم وعن كواليسها.

ألم توح هذه المعطيات للرئيس السنيورة أن لحضوره قمة الخرطوم شروط الانضباط العربي العام، فيشارك في وفد واحد مع الرئيس لحود الذي يجتمع إليه كلما دعت الحاجة في بيروت، ويختلفان بكل تهذيب، ويناقش معه المقررات النهائية في غرفة مغلقة كما يحصل في بعبدا.

سيقال إن دعائمه السياسية هي التي اشترطت هذا الشكل من الحضور. لكن هذه الدعائم لا تستطيع تغيير المعطيات المحيطة بالقمة. فلماذا الإحراج الشخصي لرصيد عام من أرصدة الأكثرية، هو الرئيس السنيورة؟

عاد الرئيس السنيورة الى بيروت ليجد اشتباكا سياسيا غير مسبوق في استقباله.

استعار الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله سيف نائبه الشيخ نعيم قاسم ليهدد بنزع القلوب وقطع الأيدي والأعناق لمن يفكر في نزع سلاح المقاومة بالقوة، وإن كان أوضح في ما بعد، أنه كان يقصد الخارج وليس أهل الداخل. لم يوفر نواب حزب الله مفردة من مفردات الهجوم الى حد القيام بزيارتين متتاليتين الى القصر الجمهوري في بعبدا، لشكر الرئيس لحود على موقفه في القمة العربية.

وإذا ما اعتبرنا ما حدث في قمة الخرطوم خطأ في التقدير من الرئيس السنيورة، فإن الحملة التي شنها إعلام حزب الله ونوابه قد تُحتسب في رأي كثيرين إساءة إلى عواطف اللبنانيين جميعا، وعلى رأسهم جمهور حزب الله. فلا صيغة الرئيس السنيورة خيانة، ولا الصيغة التي اعتُمدت وطنية. السنيورة أراد مخاطبة المجتمع الدولي، والرئيس لحود يريد دعم فريق شبعا.

الرئيس نبيه بري كرر ما فعله مع الرئيس الحريري في العام 97 حين أدلى بدلوه من مقعد رئاسة المجلس في الحكومة وبرئيسها، ما دعا الحريري الى الخروج من المجلس. يناديه الرئيس بري فيجيبه: نحن لسنا تلاميذ مدرسة يضبط الناظر دوامنا.

هذه المرة قلب بري اللعبة. قال رأيه في الرئيس السنيورة من مقعد الرئاسة ورفع الجلسة.

اليوم يدخل المتحاورون الى مجلس النواب لعقد جلستهم الأسبوعية. ميزان القوى لا يسمح بقلب الطاولة على الحكومة وتأليف حكومة جديدة يتحقق فيها الثلث المعطل. الميزان نفسه لا يسمح بالاتفاق على رئيس جمهورية جديد أعلنت الأكثرية أنه من أولوياتها المطلقة. ماذا سيفعل الرئيس السنيورة؟

عرفتُ الرئيس السنيورة منذ 20 عاما في منزل الرئيس تقي الدين الصلح. كان مسؤولا عن المجموعة المصرفية للشيخ رفيق الحريري. رصين. مهذب. يستعمل تعابير دينية في كلامه. فهو متدين. قوميته العربية واضحة على اتجاهه. معتدل. ليس من طبيعته الصدام. يفاخر بقدرته على رفض كل الطلبات المالية التي ترد إليه حتى لو كان من أقرب المقربين. يبالغ في شروط الائتمان حتى يفقد الآخر، أياً يكن، الأمل.

التقيته بعد ذلك وزيراً للدولة للشؤون المالية في أول حكومة ألفها الرئيس رفيق الحريري.

لم أستغرب ذلك. فكلاهما من صيدا ومن أصول قومية عربية. عادا والتقيا في العام 1982 بعد الاجتياح. سمعة السنيورة المالية تسبقه، ورغبة الحريري في العمل في لبنان مع من يثق بهم قوية بما فيه الكفاية.

حقق السنيورة سمعة جيدة في أوساط رجال المال والأعمال، لكنه لم يكن، ولا مرة، صاحب سياسة شعبية. هو فضّل منذ بداية حياته العملية أن يكون مسؤولا فقط لا غير. تنقّل في عدد من المناصب المصرفية. علّم في الجامعة الأميركية. من تلاميذه باسل فليحان، رحمه الله، ونديم المنلا. اختاره أستاذه الدكتور سليم الحص رئيسا للجنة الرقابة على المصارف الى أن انضم الى مجموعة الحريري.

هكذا هي حال رجال المال في كل أنحاء العالم.

أخطأت مديرة مكتبه بحق ضابط في الجيش أتى لمراجعة الوزير في المزيد من المخصصات للضباط. طوق الجيش المبنى. كنت الثاني الذي دخل مكتبه بعد وزير الداخلية آنذاك بشارة مرهج.

أصبح وزيرا أصيلا للمالية في حكومة الحريري الثانية وبقي في منصبه هذا حتى الحكومة الأخيرة قبل استشهاد الرئيس الحريري.

لم يتغيّر. بقي على حاله لسنوات طويلة. يهتم بملفاته. نادرا ما يتحدث في السياسة. يصر في كل مجلس وزراء على تسجيل تحفظه عن كل بند يتضمن زيادة في المصاريف، حتى لو جاء الاقتراح من الرئيس الحريري نفسه.

أطلقتُ عليه لقب “تحصيل دار”، أي المسؤول عن تحصيل الضرائب في السلطنة العثمانية. ذات ليلة عاد من مجلس الوزراء مع الرئيس الحريري وانضم الى العشاء. سأله الرئيس لماذا تحفظت على البند الفلاني. أجاب: فعلت قناعتي. حبكت الكلمة مع الرئيس الحريري فأجابه: قبلنا بقناعتك هذه المرة. في المستقبل تؤدي واجباتك. وساد الضحك في غرفة الطعام.

لا شك في أن الرئيس السنيورة حقق تقدما في صورته منذ توليه رئاسة الحكومة، من دون أن يتخلى عن عناده المالي، إذ عبر عن لهفة اللبنانيين الى منطق الدولة، فصار مستحقا للقب جديد هو “الدفتردار”، أي المسؤول عن دفاتر الدولة في السلطنة.

بصفته الجديدة لا بد من أن يكون الرئيس السنيورة قرأ ما قاله وليد المعلم، وزير الخارجية السوري، ل”السفير”، محددا بحسب ما قال إنه سمعه من الرئيس الحريري أن التوافق اللبناني يقوم على قانون جديد للانتخابات يشكل الأساس والقاعدة والمنطلق لأي تغيير.

هل سيضع “الدفتردار” السنيورة هذا البند على جدول أعمال زيارته الى دمشق؟ أم سيضيف إليه السؤال: ماذا ستقدم الأكثرية ثمنا لرئيس جمهورية جديد؟

هنا دقة الحساب التي قامت عليها سمعة “الدفتردار” السنيورة…