الدفتردار 2

مقالات 10 أبريل 2006 0

كنت أود أن أتساءل عن طبيعة العلاقة بين رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة ورئيس كتلة المستقبل النيابية سعد الحريري. خصوصاً أن كتلة الحريري هي التي سمّت السنيورة رئيساً للوزراء بعد الانتخابات النيابية التي جرت بإشراف حكومة الرئيس السابق نجيب ميقاتي.
وفّر عليّ الرئيس السنيورة التساؤل بالإجابة على تلفزيون “الجزيرة” في حديث أجراه معه الزميل غسان بن جدو، أول أمس، السبت. كان سؤال بن جدو مفاجئاً لدرجة ان الرئيس السنيورة أجاب عليه بثلاثة اجوبة متتالية لكل منها صياغة واستنتاج، وربما إساءة لكليهما اي السنيورة والحريري وبمجانية مطلقة.
الجواب الأول جاء من الرئيس السنيورة على أنه في سن والد الحريري الإبن، وبالتالي فإنها علاقة والد بابنه، دون ان يكون النص دقيقاً بحرفيته.
تدارك السنيورة جوابه الاول بالقول إنها علاقة أخ اكبر بشقيقه الاصغر. ثم انتبه ان منصب رئاسة الوزراء لا يحتمل هذه الأوصاف العائلية والعمرية نسبة إلى فارق السن فأوضح أن النائب الحريري هو رئيس الكتلة النيابية التي سمّته لرئاسة مجلس الوزراء.
لم يكن هذا غريباً عن الرئيس السنيورة ولا كانت إجاباته بعيدة عن الواقع. فرئيس مجلس الوزراء قد عمل في ال23 سنة الماضية مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري في مؤسساته المالية، ومن ثم وزير دولة للشؤون المالية في حكوماته الاولى قبل ان يصبح وزيراً أصيلاً للمالية في حكومات الحريري الاخيرة قبل اغتياله.
بالتأكيد لم يقصد السنيورة بإجاباته المرتبكة الإساءة الى النائب الحريري، ولكن الذكريات اختلطت في رأسه الى درجة البحث الضائع عن جواب لسؤال مفاجئ.
حين ارتأيت أن البحث في شخصية “الدفتردار” والظروف السياسية والشخصية المحيطة به تستوجب حلقة ثانية. كان السؤال عن علاقته بآل الحريري هو الاول الذي قفز الى ذهني لاستكمال المعلومات عن الشخصية التنفيذية الأهم على الساحة اللبنانية، من حيث التكليف الدولي له ولحكومته بإدارة البلاد في الفترة الاصعب عملياً. إذ إن النظرة إليه وتقدير المنتظر منه يفوقان بكثير إمكاناته الفعلية على تحقيق تقدم في المجالات التي يرتئيها لعمله أو في غير ذلك، مما يحتاجه الناس من استقرار فضلاً عن السيادة والحرية والاستقلال. وهي شعارات الجمهور الذي أتى بكتلة المستقبل النيابية واستطراداً تسميته رئيساً للحكومة.
الذين يعرفون مصاعب العمل مع آل الحريري بدءاً بالرئيس الشهيد واستكمالاً بالنائب سعد الذي سمّته عائلته ممثلاً سياسياً لها. يعلمون ان الابواب مفتوحة للرئيس السنيورة ثقة واحتراماً وتقديراً. لكن وراء كل باب هناك امتحان يخطئ فيه المرء أو يصيب دون أن يعلم بوجود امتحان في الاساس.
هذا طبيعي في ظل الكارثة التي وقعت على العائلة بما فيها من أشقاء وشقيقة ووالدة. وعلى الوطن ايضاً بما احدثه الاغتيال من فراغ لم يمرّ بعد الوقت الكافي لاستيعاب نتائجه ومفاعيله.
الرئيس السنيورة اعتاد العمل لسنوات طويلة جداً مع الرئيس الشهيد. لكن طبيعة العمل في امبراطورية مالية ومن ثم في امبراطورية سياسية تفترض وجود مطبّات، كثيرها مفتعل وقليلها يحدث على قاعدة ان من يعمل يخطئ ومن لا يعمل هو المعفى من الأخطاء. وكلاهما الحريري والسنيورة يعملان دون توقف.
أتذكّر وزير الدولة للشؤون المالية فؤاد السنيورة حاملاً تلة من الملفات المالية التي تحتاج لساعات من الاستفهام والإطلاع ثم التوقيع من الوزير الاصيل الرئيس الحريري.
الوزير السنيورة هو الوحيد الذي كان له حق الدخول على الرئيس الحريري اينما كان في منزله وأياً كانت طبيعة الاجتماع الدائر في داخل مكتب المنزل او غيره من القاعات، لم يكن الوزير السنيورة يسأل أصلاً عن طبيعة الاجتماع او حاجة الشخص المجتمِع مع الرئيس الحريري. يدخل هادئاً الى قريطم ملوّحاً بسبّحته “اليسر” السوداء. يُلقي التحية على من يكون في وجهه ويُكمل طريقه الى حيث سيد المنزل.
كان هذا تعبيراً عن العلاقة الخاصة والحميمة بين الرجلين حتى لو كان الدخول الى الاجتماع جاء بناء على استدعاء الحريري للسنيورة من مكتبه.
لكن الرئيس الحريري، رحمه الله، لم يعتبر السنيورة شريكاً في التشاور السياسي حول قراراته بين عامي 92 و98. وسعى أكثر الى تجنيبه مساوئ العلاقات مع الأمن السوري، سواء في ولاية المرحوم اللواء غازي كنعان أو ولاية العميد رستم غزالي الذي تلاه في مسؤولية ادارة الأمن السياسي اللبناني والسوري.
ما عدا مرات نادرة لا اعتقد ان الوزير السنيورة اجتمع الى مسؤول أمني او سياسي سوري، إلا برفقة الرئيس الحريري استناداً الى موجب الاجتماعات الرسمية التي عقدت بين حكومتي البلدين.
بعد انتخابات العام 2000. لم يعد الرئيس الشهيد يملك الرغبة او القدرة على التشاور الصريح في قراراته السياسية دون أن ينتقص هذا من ثقته بوزيريه الدائمين القانوني بهيج طبارة والمالي فؤاد السنيورة.
أراد منهما الانصراف إلى عملهما كل في وزارته، وترك لكتفيه ان تحملا الصراعات السياسية.
هذا ليس كلاماً في المطلق، ولكنها صورة مبدئية حرص الرئيس الحريري على إظهارها.
الآن الرئيس السنيورة في موقع المسؤولية التنفيذية الاولى، وملزم بالتشاور والالتزام بالكتلة النيابية التي أعطتها أصواتها والتي يرأسها النائب سعد الحريري. فماذا يفعل؟
أولاً، فؤاد السنيورة ليس رئيساً للحكومة بالوكالة، كما يشيّع البعض. لا طبيعة السنيورة تسمح بذلك ولا علاقته بآل الحريري المنتشرين بين السعودية وفرنسا ولبنان وصلت الى حد الانتقاص من قدرته على تحمل المسؤولية.
سعد الحريري كما والده يفرّق بين العلم المالي للسنيورة وبين المسؤولية السياسية التي يتحمل أعباءها هو في موقعه، كقطب نيابي كبير. بينما السنيورة قادم من خارج مجلس النواب. عبّر الحريري عن ذلك بقوله في حديثه ل”السفير” في الاسبوع الماضي إن السنيورة أفهم منّي بالاقتصاد. وأكمل بالدفاع عن موقف رئيس الحكومة من اشتباك قمة الخرطوم مع الرئيس المؤقت اميل لحود حول صياغة النص اللبناني من المقاومة. غير أن الظروف الآن تستوجب تنسيقاً سياسياً على أعلى مستوى وأكثر استنفاراً عملياً مما يحدث بين الاثنين. وإلا فإن حديث المبادرة العربية سيعود بالضرر على لبنان مرة اخرى، وعلى النائب الحريري مرة أقسى مع الاعتراف بشجاعته في الاعتراف بالخطأ الاول.
الرئيس السنيورة نفى بالأمس في حديثه الى “الجزيرة” وجود مبادرة عربية جديدة. بينما النائب الحريري يقول في حديثه ل”السفير”، أول أمس، “إن هناك مبادرة عربية جديدة، وسنرى أين سيكون المتحاورون الآخرون منها”
لم تكن هذه نقطة الفراغ الوحيدة في حديث السنيورة ل”الجزيرة”. ففي الوقت الذي تحدث فيه عن المكتسبات التي حققتها فكرة الدولة على طاولة الحوار. وأهمها ثلاثة: الاول هو فصل التحقيق عن العلاقات اللبنانية السورية، الثاني تحديد الحدود في منطقة مزارع شبعا والاتصال بجميع الدول المعنية بهذا الأمر، والثالث الاتفاق على العلاقات الدبلوماسية بين لبنان وسوريا.
في الوقت الذي ظهر فيه ان لهذه المكتسبات طريقاً واحداً يوصل الى دمشق، كان الرئيس السنيورة يدور حول نص سلاح المقاومة، بما يزيد من الاقتناع اللبناني بكلامه، لكنه لا يفتح له طريق دمشق.
“يبقى السلاح الموجود حتى تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة الممثلة بشبعا”. “بقاء السلاح بعد ذلك يحقق انقساماً بين اللبنانيين”. هذا بعض ما قاله قبل أن يحاول العودة الى صياغته للنص المختلف عليه في قمة الخرطوم، والذي يقول بحق الشعب اللبناني بالمقاومة لتحرير أرضه المحتلة.
لا احد ممن يعرفون فؤاد السنيورة قديماً وحديثاً يشكك في صفاء فكره القومي العربي.. لكن يبدو أن الصفاء هذا لا ينسجم مع الوقائع الحديثة المحيطة به. ولا يبدو ان خبرته كافية للانسجام مع المواقيت السياسية، سواء في لبنان ام في المنطقة المحيطة به، لذلك يبدو الرئيس السنيورة وكأنه يدافع عن مسؤولياته لا عن قناعاته. خصوصاً أن الفكر العربي في لبنان داخله الكثير من الفوضى والاغتيال والأخطاء التي تجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، الدفاع عنه.
لكن هذا لا يمنع الرئيس السنيورة من تكرار رغبته الصادقة بزيارة دمشق والتفاوض مع حكومتها حول المقررات التي اتخذت في مؤتمر الحوار وبالإجماع.
الرئيس السنيورة يعلم أن ما تريده حكومته من دمشق يحتاج إلى أكثر من زيارة، وأكثر من مسعى. إذ إن الغيوم على الطريق بين العاصمة اللبنانية والعاصمة السورية تزداد بدلاً من ان تنقشع. والدفتردار السنيورة يزيد العراقيل واحدة بدلاً من التخفيف منها.
كيف؟
بعد الاعلان عن موعد رئيس الوزراء اللبناني مع الرئيس الاميركي جورج بوش على فطور صباحي في الثامن عشر من الشهر الحالي بدا أن الغيوم عادت إلى التلبّد بين لبنان وسوريا. والأخطر من ذلك هو حالة الاستنفار التي أعلنتها القوى المتحالفة مع السياسة السورية، وعلى رأسها “حزب الله”.
لا تنقص الدفتردار السنيورة ذاكرة الأثمان المتنوّعة التي دفعها الرئيس الشهيد رفيق الحريري من استقرار حكوماته واستقرار البلد بسبب زيارات مماثلة للتي سيقوم بها الرئيس السنيورة الى واشنطن، ولا حاجة للتذكر ايضا ان النائب سعد الحريري التقى الرئيس الاميركي في شهر شباط فبراير الماضي.
النائب الحريري طلب المساعدات فعاد محمّلاً بالرسائل السياسية في كل الاتجاهات. إنما في الاساس حملت الرسائل السياسية تأييداً لسياسة الحريري وحلفائه.
النتيجة الوحيدة الجديدة التي عاد بها الحريري هي الإفساح في المجال أمام اللبنانيين لمزيد من الوقت والحوار لتنفيذ القرار 1559. وتنسب مصادر دبلوماسية عربية إلى زيارة الحريري إلى واشنطن الدعم المطلق الأميركي الفرنسي لمؤتمر الحوار في مجلس النواب اللبناني.
المطالب الباقية. أهمها المزيد من الضغط الأميركي حيال عزل الرئيس المؤقت اميل لحود والمزيد من إجراءات تضييق الخناق الدبلوماسي والسياسي عليه.
ما حدث هو العكس فقد تبنّت قمة الخرطوم العربية إجراء كسر عزلته السياسية عبر دعوته لحضور القمة. ثم تبنّى الزعماء العرب المتوفرين في قاعة الجلسات وجهة نظر لحود بشأن الموقف من المقاومة في وجه الرئيس السنيورة.
ليس هنا مجال البحث عن تقدم السياسة الأميركية في المنطقة او تراجعها، إنما بالتأكيد إن هذه السياسة في الوقت الحاضر هي عنصر اشتباك وليست مشروع استقرار. فهل يسعى الرئيس السنيورة إلى الاشتباك؟
بالطبع لا. سيقول الدفتردار السنيورة إنه ذاهب للحصول على دعم أميركي لمؤتمر بيروت 1 الذي يحتاجه الاقتصاد اللبناني في هذه المرحلة بشكل ملحّ.
يشفع للدفتردار بذلك أنه سعى ويسعى في كل أدبياته السياسية المستجدة الى حماية لبنان من المواجهة مع المجتمع الدولي. ولو كلّفه ذلك تحمّل الهجمات السياسية عليه من دمشق مباشرة، ومن حزب الله مداورة.
إلا أن السؤال يبقى في مكانه السياسي: هل حصل السنيورة على دعم لبناني كافٍ لعقد مؤتمر بيروت 1 قبل أن يحصل على الدعم الاميركي الذي ليس بالضرورة أن يكون فعالاً؟
في محاضرة للمؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي ألقاها في بيروت في العام 1957 في دار الندوة اللبنانية.
قال المؤرخ توينبي:
لقد حاولت استرعاء انتباهكم الى عامل مهم، ألا وهو اضمحلال هذه السلطة الانكليزية الفرنسية، والذي خلق سلطة فراغ. من الناحية الاقتصادية، هذا الفراغ في السلطة افاد لبنان، لكنه لم يدُم في المضيق السوري. اريد ان انوه بأن الفراغ الذي حصل بعد اضمحلال سلطة السلجوقيين مُلئ في الشرق بواسطة الامبراطورية الرومانية، كما ان الفراغ الذي أحدثه تقهقر القوى الفرنسية والانكليزية، هو في طريقه الى ملء الفراغ بواسطة تقسيم جديد للمنطقة العربية، ولكنه هذه المرة، بين القوة الاميركية والقوة الروسية. في الوقت الحاضر، أصبحت الدول العربية موضوعاً للصراع بين اميركا وروسيا انطلاقاً من حدود هاتين الامبراطوريتين العالميتين. هل يجب على هذه الحدود ان تتلاءم مع الحدود الشمالية لتركيا وايران؟ ام عليها ان تتلاءم مع الحدود ما بين الصليبيين والمسلمين؟ بالطبع هذا السؤال هو من الاهمية الاساسية بالنسبة للبنان. فإذا كانت الحدود الروسية الاميركية تقف على حدود ايران وتركيا، فالايجابيات بالنسبة الى لبنان كثيرة. بهذا المعنى، كل البلدان العربية يمكنها ان تكون موحّدة تحت السلطة الاميركية. على العكس، إذا كانت هذه الحدود تتركز على قمة سلسلة جبال لبنان الغربية، فإن الجمهورية اللبنانية سوف تواجه مصيراً مشابهاً لمصير دولة اسرائيل. فلبنان كإسرائيل، ليس قابلا للعيش إذا كان موجوداً في وضع مخالف تجاه جيرانه في الشرق. عندئذ، سوف تقوم الدبلوماسية اللبنانية بنشاط كبير لكي تمدّ علاقات صداقات مع الدول العربية البعيدة، مثلا: المملكة العربية السعودية. هذه السياسة رائعة، ولكن سأسمح لنفسي بأن اقول بأنها لا تلامس المشكلة الاساسية. فالمشكلة تكمن في العلاقة بين لبنان وسوريا، وهي جارتكم المباشرة. فإذا اصبحت العلاقات اللبنانية السورية مضطربة، فسيختنق لبنان. فلبنان لا يستطيع ان يكون جسراً للإمبراطورية الاميركية التي تصطدم مع أرض مجاورة تحت سيطرة الإمبراطورية الروسية. في هذه الحالة سيترتب على لبنان بأن يقوم بجهد مضاعف ليمنع انقسام العالم العربي بهذه الطريقة الكارثية”.
الى هنا ينتهي كلام توينبي. تسبق ذلك اسطر طويلة عن قدرة المرافئ الصحراوية أي مدن الداخل السوري على الصمود والتقدم في وجه الموانئ المائية مثل لبنان البلد العربي الوحيد الذي ليس له امتداد صحراوي.
يمكن تغيير الكثير من الاسماء الواردة في نص توينبي وتحويلها الى اسماء معاصرة، دولاً وأفراداً. لكن هذا لا يغيّر الحقيقة التي تقول إن الدفتردار السنيورة يحاول أن يملأ فراغين: الاول غياب الرئيس الحريري الى الأبد عن حركته الداخلية والخارجية، الثاني هو الفراغ الذي لا بد من الاعتراف بان الانسحاب الأمني السياسي للجيش السوري قد سببه. وهو نقطة ايجابية لم نستفد من خيراتها حتى الآن. إذ إن خيراتها الحقيقية تأتي من نجاح زيارة الدفتردار السنيورة الى دمشق قبل ذهابه الى واشنطن.
يمكن تعداد عشرات النصوص والأسباب التي استعملتها القيادة السورية بحق المسؤولين اللبنانيين، وعلى رأسهم السنيورة. لكن الدفتردار واقعي في عروبته وفي لبنانيته، لو سأله أحدهم عن برامج زياراته الخارجية لأجاب بالحديث الشريف: مَن اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد ولم يُصِب فله أجر واحد. صدق رسول الله “صلعم”.