الخيار للمسيحيين والقرار للمسلمين..

مقالات 17 سبتمبر 2007 0

شهد الملف اللبناني في الاسبوع الماضي اتصالات وزيارات ولقاءات ما لم يشهده لبنان إلا في الجلل من احداثه وفي التوتر الحاد من أيامه. إذ ان عدد المسؤولين الدوليين والعرب الذين زاروا بيروت، والاجتماعات التي عقدت في الفاتيكان، اعادت الملف اللبناني الى صدارة الاهتمامات الدولية وكأن الهدنة التي يعيشها اللبنانيون منذ سنة حتى الآن تتعرض لخطر شديد و اهتزاز أكيد وبالتالي لا بد من الاستنفار للاستمرار في صيانتها. على اعتبار انها جزء من كل، يطال المنطقة العربية وليست ازمة معزولة دائرتها لبنانية فقط.
وإلا فما الذي أتى بوزير الخارجية الفرنسي ونائب وزير الخارجية الروسي ومساعدة وزير الخارجية الالماني ومبعوث الرئيس السوداني الى بيروت ومبعوثي وزارة الخارجية الاسبانية والموفد السويسري، بينما الامين العام للامم المتحدة والامين العام لجامعة الدول العربية يكلمان هاتفياً رئيس مجلس النواب نبيه بري.
بينما في الفاتيكان يسبق مساعد وزيرة الخارجية الاميركية دايفيد والش، وزير الخارجية السعودي وموفد وزير خارجية فرنسا للاجتماع الى البابا الجديد بشأن الملف اللبناني. ثم يأتي تيري رود لارسن ممثل الامين العام للامم المتحدة الى روما ليجتمع بالبطريرك صفير ويدلي بتصريح يذكّر فيه بمواد الاشتعال لا بمواد الدستور اللبناني. وبينما لا يكتفي البطريرك صفير بالاجتماع الى قداسة رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم بل يجتمع الى رئيس الوزراء الايطالي رومانو برودي الخبير في الوضع اللبناني من خلال لقاءاته وصداقته مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ثم يكمل البطريرك اجتماعاته بلقاء وزير الخارجية الايطالي داليما ليعود الى لبنان دون ان يظهر عليه انه عائد بجديد من كل الاجتماعات.
أيضا وأيضا، يعود السفير السعودي عبد العزيز خوجة الى بيروت بعد غياب اسابيع في بلاده تحت عنوان الاسباب الأمنية التي لم يقل احد ما إذا كانت قد انجلت أسبابها او توضحت ظروفها. فيستقر لايام قبل ان يعود للتشاور مع وزير خارجيته في جدة القادم من الفاتيكان ثم يأتي الى منزله في بيروت ليقول انه يحمل بركة مدينته مكة المكرمة ليمضي شهر رمضان المبارك في وطنه الثاني على حد تعبيره.
هذا ليس سرداً لاحداث تمت او لقاءات عقدت او احصاء لتصريحات ادلى بها كل المسؤولين الدوليين او العرب. إنما هو إضاءة على حجم من التحركات العربية والدولية عنوانها واحد هو انتخاب رئيس جمهورية لبنان الجديد في الفترة الواقعة ما بين 25 أيلول و25 تشرين الثاني المقبلين. ووسيلة تنفيذ واحدة ايضا هي مبادرة الرئيس نبيه بري التي اطلقها نيابة عن المعارضة التي تمسك بالحركة السياسية قاطبة وبالرضا الشعبي المنتشر في كل مكان من لبنان.
لذلك بدا منذ اللحظة الاولى رغم تشاؤم الرئيس بري في الايام الاولى لإطلاقه المبادرة ان في بنودها من البساطة ما جعل تناولها معارضة يحتاج الى ابتكارات غير متوفرة في السوق السياسية اللبنانية وإذا ما توافرت فهي سطحية ولا تدخل الى اعماق الناس.
ولكن هل يعقل ان يجد هؤلاء المسؤولون الدوليون والعرب أبواب الفرقاء اللبنانيين مفتوحة لاستقبالهم والاجتماع بهم. ولا يستطيع قطبان من المعارضة والموالاة سبباً للاجتماع او المناقشة في ما بينهم؟
ليس في مبادرة الرئيس بري اختراع جديد في العلم السياسي. كل ما فيها ان صاحبها اقدم بشجاعة بسيطة وعملية على التنازل عن بند توسيع الحكومة الذي يعرف هو انه بند اشتباك اكثر مما هو واقع وحق لا تراجع عنه. خاصة ان الوقت الفاصل حتى الانتخابات الرئاسية قصير الى حد لا يحتمل معه استمرار الحديث عن التوسيع الحكومي.
صحيح ان بعض قيادات حزب الله طالبت بتحقيق هذا البند ولو قبل نصف ساعة من انتخابات الرئاسة. لكن الرئيس بري بحساباته الدقيقة يعلم ان هذا كلام للاستهلاك الاعلامي وليس للتنفيذ الفعلي. وضع الرئيس بري عينه السياسية على خريطة موسعة عربية ودولية، فوجد انه حان الوقت للبنانيته ان تتقدم خطابه السياسي. وهكذا كان حين دعا الى التوافق على رئيس ينتخب بنصاب الثلثين وهو ما ينص عليه الدستور.
****
رسم بري معادلة بسيطة قائمة على تنازل المعارضة عما لا يمكن تحقيقه في الحكومة مطالباً الاكثرية بالتراجع عما هو ليس في يدها دستورياً ولا يحقق الاجماع اللبناني اي الانتخاب بنصاب النصف زائدا واحدا. يعرف الرئيس بري اكثر من غيره انه ليس هناك من تسوية في المنطقة تحقق الاستقرار اللبناني الدائم كما حدث في التفاهم السوري الاميركي في العام ,90 ويعلم ايضا ان أبواب التهدئة في دمشق وطهران ايضا مفتوحة جزئيا. وهو متأكد من ان المساعي الاوروبية وخاصة الايطالية والألمانية المتحمسة للحوار الواقعي مع دمشق، لم تحقق تقدما علنياً، وأن فرنسا التي حصلت على تفويض اميركي محدد ومراقب يوميا تنتظر جوابا من دمشق لم تحصل عليه. وأن السياسة الروسية التي يحملها مساعد وزير الخارجية ألكسندر سلطانوف قائمة على براءة غير واقعية وغير عملية، للدور السوري في لبنان. اذ ان سلطانوف يتحدث عن الدور السوري باعتباره عنصراً بريئاً وبناء في المعادلة السياسية اللبنانية. كما ان الرئيس بري يعلم ان السياسة الايرانية المتخوفة من الفتنة السنّية الشيعية لن تقاوم الى الابد في وجه العناصر الداعية الى الانقلاب في دمشق وطهران، وأن إدخال الإدارة الأميركية لسوريا في الملف النووي لا يفتح الباب بين دمشق والهدنة اللبنانية.
ظهر ذلك في تعدّد اتجاهات التصريحات التي صدرت عن زوار بيروت وروما.
اعتقد وزير الخارجية الفرنسي، ان الوعد بالانفتاح الاوروبي الواسع على سوريا، سيجعل الجواب السوري على المسعى الفرنسي بتسهيل الانتخابات الرئاسية سريعاً. فإذا به لا يحصل على جواب ولا يستطيع اقناع قنوات الحوار مع دمشق ان لا احد يستطيع التغيير او التعديل او حتى التدخل في مسألة المحكمة الدولية المختصة باغتيال الرئيس الحريري. وبالتالي ليس على دمشق ان تنتظر اي جهد من اي جهة في هذا الموضوع.
لذلك استعمل الوزير الفرنسي المنبر اللبناني ليعلن عن ضرورة اجراء الانتخابات الرئاسية بالاكثرية العادية كونه لا يعلم بتفاصيل الدستور اللبناني.
تيري رود لارسن، كان اكثر تحديداً في كلامه بعد لقاء البطريرك صفير في روما، اذ انه لم يكتف بالاكثرية العادية بل حدد مسبقا مهام الرئيس الجديد المطلوب منه ان يلتزم تطبيق القرار 1559 وخاصة البند المتعلق بنزع سلاح المقاومة.
حتى البطريرك صفير الذي غادر بيروت الى روما داعما لنصاب الثلثين عاد الى بيروت بنصاب الثلثين او الاكثرية العادية، باعتبار انه ايضا ليس خبيراً في الدستور.
كل هذه الوقائع جعلت الرئيس بري اكثر تمسكاً بمبادرته، باعتبارها الاطار الوحيد للحوار. ولو انه تجاوز هو نفسه هذا الاطار في حديثه الى الزميل مارسيل غانم حين تحدث مهدداً بانقسام الاجهزة الامنية ما عدا الجيش في حال عدم الاخذ بمبادرته، مقللا في مكان اخر من الحديث نفسه من إمكانيات القرار عند سعد الحريري.
لم يكن الرئيس بري على حق في تقييمه للحريري. فللمرة الاولى يتصرف سعد الحريري على قاعدة التدرج في الامساك بالقرار بموازاة مسعاه الاكيد بحفظ حلفائه في قوى الرابع عشر من آذار.
يعرف الحريري انه ليس هناك من قنبلة سياسية تعادل الانتخابات الرئاسية لإصابة هذا التحالف السياسي. لذلك سهّل ترشيح ثلاثة من هذا التحالف حتى الان من دون ان يلتزم أياً منهم او يلزم رفاقه به.
لذلك فهو يتفهم موقف حليفه وليد جنبلاط ويعتبر ان في موقفه اي جنبلاط عناصر مساعدة على التفاوض. وإن بدا للوهلة الاولى انها ليست كذلك. فالحريري يعتبر ان تحالفه مع جنبلاط لا يخضع للمواسم السياسية وانهما يستطيعان عند الضرورة تقديم المصلحة الوطنية على اي مظاهر سياسية اخرى.
هذا ما حصل في بكفيا. إذ ان ما كتب قبل وصول الحريري هو غير ما صدر في البيان الذي قرأه زعيم كتلة تيار المستقبل. أي لا انتخابات بالنصف زائدا واحدا ولا بالثلثين طبعا.
اعتمد الحريري منذ اللحظة الاولى لمبادرة بري حين كان في الخارج، صمتا حسب له ولم يحسب عليه. اذ كان فيه من الحكمة والرصانة ما جعله بعد عودته يمسك بالقرار ولو بالتدريج. ففي كلامه في الافطار الرمضاني الاول حدد الحريري ما اراد التركيز عليه في بيان بكفيا وهو الانتخاب بالاجماع او شبه الاجماع. وانتقلت الاضواء السياسية كلها الى حيث يكون او يقول الحريري. وهذا بالطبع ليس بعيداً عن موقف جنبلاط.
يعرف الحريري ان الرئاسة اللبنانية اصبح لمسيحيتها بعداً دولياً وعربياً وهو ما جعل نائب الرئيس السوري فاروق الشرع يزور الفاتيكان ليشرح للبابا موقف بلاده من هذه المسألة. اذ ان في سوريا اقلية مسيحية كبرى نسبة لباقي دول المنطقة فضلاً عن مئات الاف اللاجئين المسيحيين من العراق إليها. لم يصدر عن دمشق او الفاتيكان ما يؤشر الى طبيعة المحادثات السورية الفاتيكانية، لكن بالتأكيد اوضحت المشاورات المتعددة مع البابا في الانتخابات الرئاسية اللبنانية مدى الحد الذي تقدمت إليه مسيحية الرئيس المقبل مع ما يعني ذلك الوجود المسيحي في لبنان.
من هنا ايضا تركيز حركة الحريري باتجاه الداخل لبنانيا في انتخابات رئاسية ينظر الجميع لها من الخارج باعتبارها اولوية استراتيجية. ما فعله الحريري الان هو اول الغيث حين اعلن إلغاء النصف زائدا واحدا كنصاب انتخابي في بيان يكفيا ولو مقابل التعطيل على قاعدة الثلثين.
لم يلتقط الرئيس بري هذه الاشارة وبقي على ما سمعه من اجواء الاجتماع في بكفيا الى ان تحدث الحريري عن الاجماع او شبه الاجماع وهنأ بري هاتفياً بشهر رمضان، بانتظار ما هو اكثر من ذلك.
كذلك بعث الحريري برسائل في اكثر من اتجاه يوضح فيها موقفه ويطلب من الراغبين بالحل العمل في المضمون وليس في الشكل لتسويق صيانة الهدنة . ووصل به الامر الى الإشارة الى ضمانة النص الذي يحمي عمل المقاومة طالما ان هناك اراض محتلة في البيان الوزاري لحكومة ما بعد الانتخابات الرئاسية.
****
هل هذا يعني انه سيكون للبنانيين رئيساً ضمن المهلة الدستورية يحمي هدنتهم المرتبكة؟
الخيار للمسيحيين وأولهم البطريرك صفير والمسؤولية على المسلمين سعد الحريري ونبيه بري والسيد حسن نصر الله ولاحقاً وليد جنبلاط. اذ ان الوفاق ليس مسألة خاضعة للنقاش بل هي حقيقة وطنية. من يهرب منها او يتخلى عنها يكون كمن تخلى عن وطنه. والا فما معنى زعامات تتجاهل رغبة جماهيرها في استمرار حياتهم ولو بهدنة مرتبكة؟
هناك من يتحدث في الاوساط المسيحية عن ضرورة انتخاب رئيس قوي يعوّض ما يعتبر خللاً في السلطة التنفيذية. دون ان يعود بذاكرته الى الوراء ليتذكر اربعة من الرؤساء الاقوياء.
الاول كميل شمعون الذي انتهى عهده بما سمي ثورة .58
الثاني سليمان فرنجية الذي امضى نهاية عهده في الذوق هربا من القصف على قصر بعبدا في بداية حرب السنتين.
الثالث بشير جميل الذي اغتيل في الايام الاولى لانتخابه.
الرابع امين الجميل الذي شهدت ولايته كل انواع الحروب وآخرها حرب الإلغاء بين القوات اللبنانية بقيادة جعجع والجيش بقيادة العماد عون. فكانت النتيجة ان امضى الجميل ثماني سنوات في باريس.
الرئيس القوي هو الذي يستطيع ان يضع حدا لكل مخالف للقانون داخل السلطة التنفيذية، حافظا للدستور، ساهرا على الصيغة اللبنانية. مربكا للجميع بنزاهته ورجاحة عقله وحسن احكامه، يريد الخروج من الرئاسة الى التاريخ وليس الى مجالس الادارة. لا هو ولا احد من ذريته.
عندما تتوفر هذه الصفات، وهي متوفرة ولو في ندرة من المرشحين، يكون لبنان قد اوصل رئيساً قوياً بعقله وعمق معرفته، الى حيث يريد اللبنانيون لا المسيحيون فقط رئيساً قوياً.
لا بد من الاعتراف بأن قوة الدفع لصالح مبادرة الرئيس بري اقوى من المعترضين عليها. وخاصة ان المعترضين يطالبون الرئيس مسبقا من سياسات ليست من مسؤوليته. فقد حددت طاولة الحوار عناوين سياسة للدولة الوفاقية. وترك بند سلاح المقاومة الى مرحلة اخرى من الحوار. فماذا بقي لاشتراطه على مرشح الرئاسة؟
ليس جديداً القول ان النظام السوري يريد رئيسا على صلة به. وهذا ما لن يحدث. لكن الاغرب الافتراض انه يجب ان نأتي برئيس معاد لسوريا يصبح منافساً لكثير من القوى السياسية وهو ما لا يجوز ان يحدث.
ما يفصلنا عن القرار الظني للجنة التحقيق الدولية اشهر قليلة. في حال ادانة القرار الظني للسوريين فإن اقرب الرؤساء اليهم سيبتعد عنهم واذا كان العكس فإن ابعدهم عن دمشق سيتقرب منها وبسرعة، فلمَ افتراض الخطأ والبناء عليه؟
عاد في الاسبوع الماضي الى واجهة التوازن السياسي اللبناني السفير عبد العزيز خوجة، بعد ان اصبحت حكايته مع لبنان تشبه كل شيء الا شخصيته من كثرة الإقدام والتراجع، فهو ثابت على موقفه، متأكد من لبنانيته الى حد الخوف على مبادرة الرئيس بري وكأنها مبادرة سعودية، لم يكتف السفير خوجة بالاعلان عن تأييد المبادرة ودعم مطلقها بل انه ذهب في اتصالاته مع القوى الاخرى ومنها حزب الله الى حد الاجتهاد في تفسير المبادرة والغاء عناصر الخوف منها، فهو يعتبر ان ما في المبادرة يشجع على الدخول إليها وليس على تجنبها، وهو يثق ان حكومة بلاده لن تترك احداً من الاصدقاء في لبنان وهم كثر ان يتعرض لأي هزة في اقباله على الحوار.
استعمل السفير خوجة ميزانه اللبناني بدقة، حين اعلن ان بلاده لا تفضل مرشحاً على آخر. وذلك ردا على همسات عن ترشيح حسب على السعودية لقرابة عائلية لا تؤثر في القرار السياسي السعودي.
حتى الان يمكن القول ان ميزان السفير خوجة ساري المفعول في تقييم مواقف الجميع والكفة هنا تميل لصالح الحوار، ثم الوفاق. وهذا يبدو غريبا وسط عشرات الاسباب للتشاؤم.
هل يحدد المسيحيون خيارهم بالمواصفات لا بالأسماء، فليلزموا المسلمين مسؤولية قرارهم اللبناني، ربما في بركة مكة المكرّمة الجواب.