“التوطين” ، المركز الكاثوليكي للاعلإم- بيروت، المصالحة المطلوبة بين الدولة والمخيمات

محاضرات 22 يوليو 2011 0

يدور الحديث منذ مدة والحقيقة أنه دائر دائماً حول موضوع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وأحوالهم الإنسانية والسياسية والأمنّية.
لكن السؤال بقي دائماً دون جواب عاقل. فالسياق الإعلامي والسياسي المتداول والمنشور منذ سنوات يؤكد عن وعي أو غير وعي على مظلوميتين واحدة لبنانية والثانية فلسطينية سوف ابدأ باللبنانيين.
لقد اتخذ اللبنانيون كل الإجراءَات الدستورية وحققوا اجماعاً نادراً في السنوات الأخيرة حول رفض التوطين ورغم ذلك لم يتوقف التشكيك بهذا الرفض اللبناني المؤكد من كل الطوائف والإتجاهات الدينية والسياسية والمدنية. وهناك اتهام لمن لا يصطبح يومه وينتهي نهاره برفض التوطين.
هذا اولاً. ثانياً بعد 60 سنة من الوجود الفلسطينيين في لبنان نستعمل عبارة التوطين بإعتبارها اتهاماً موجّه للفلسطينيين لا يتبرأون منها مهما أكدوا رغبتهم بالعودة إلى بلادهم.
هناك حديث أيضاً عن الديموغرافيا ايضاً يرد في كل التصريحات . وهو حديث عمره عشرات السنوات. فلا الديموغرافيا تغيرت بسبب فلسطين ولا حصل التوطين.
إذاً لا يجوز أن نجلُد أنفسنا يومياً وأن نحوّل هواجسنا من هاجس إلى هوس، ومن ثم يصبح هذا الهوس مرض. هناك فرق بين أن تتعاطى وأنت مقتنع بقناعاتك، وأنت مقتنع بثوابتك، وأنت مقتنع بشعبك، وأنت مقتنع بدستورك، وبين أن تتعاطى يومياً مع الموضوع باعتباره مثار انقسام بين اللبنانيين، أو مثار خلاف، أو تتعاطى معه على أنه بمثابة احتمال إنتصار طائفة أو جهة أو فئة على أخرى بسبب الفلسطينيين .
أنا واحد من الجيل الذي إنتصر بعمره المبكر جداً بين 18 و20 ، أو اعتقد انه يستطيع أن ينتصر بالفلسطينيين بالسياسة الداخلية اللبنانية، أنا واحد منهم، ومع ذلك أستطيع القول الآن أني تلوت فعل الندامة، وانني انتقلت إلى مرحلة أخرى من المنطق السياسي.
اللبنانيون متفقون بموجب إتفاق الطائف، وبموجب كل التصريحات السياسية لما يسمى بالأغلبية العددية بأن العدد مُلغى في لبنان، وان قاعدة العمل الدستوري في لبنان قائمة على المناصفة، فأما ان نصدّق أنفسنا وأما ان نبقى نفترض أن هناك سوانا من يستطيع ان يقرر نيابة عنا طبيعة العمل الدستوري الداخلي، كلا أنا واحد من الناس الذين يصدّقون أن اللبنانيين مقتنعين بان المناصفة هي الحل الطبيعي للحياة السياسية والدستورية اللبنانية، ليس هناك من بلاد تقوم على غير الحق. الدول تقوم على الحقوق التي يتفاهم عليها أهلها وعلى التسهيلات التي تجعل حياة الناس أكثر استقراراً، ولا تقوم على الحق المطلق المسمّى العدد، لأن العدد لا يبني أوطان، والعدد لا يبني مفاهيم مشتركة والعدد لا ينهي قناعات، هذه أوهام كل الناس تخلّت عنها فلا يجوز أن نبقى نستند اليها في الحديث ويجب أن نلغي من بالنا ولو بالغت بالتعبير نهائياً مسألة اعتماد الديموغرافيا للاستفادة من التحوّل في النظام الداخلي اللبناني، لأن لا المسلمين ينتظرون الفلسطينيين لكي يصبح عددهم أكبر، ولا اللبنانيون يبحثون عن صياغة عددية .
فاذا اتفقنا على هذا المبدأ علينا ان نسحب مبدأ الديموغرافيا من النقاش لأنه بصراحة أصبح معيباً، ولا يجوز التعامل مع القناعات التي تم تثبيتها منذ 20 سنة حتى اليوم بالنص وبالعرف وبالتصرّف بأنها خاضعة للتغيير من قبل زعيم سياسي، ربما غداً او بعد غد يريد ذلك، فلا يمكن كتابة الدستور كل يوم ولا يمكن تغييره كل يوم على قاعدة العدد، وأعتقد أن رغبة اللبنانيين أن يكونوا متفاهمين في ما بينهم ويعيشون مع بعضهم أكبر بكثير من أية حروب قامت، وأكبر بكثير من أخطاء ارتكبها كل اللبنانيين تجاه نظامهم، وأكبر بكثير من أفكار سوداء مرت بأذهان كل اللبنانيين بفترة من الفترات.
فإذا كانت كل هذه التجربة لم تعلمنا أي شيء جديد ونبقى نكرر نفس العناوين التي كنا نقولها منذ 20 سنة و30 و40 و50 سنة، فهذا يعني اننا مازلنا في مكاننا. وأنا لست من الفئة التي تعتقد أن اللبنانيين يعانون من القصور، بل أنا من الفئة التي تعتقد أن اللبنانيين جديرين بالثقة وجديرين بوطنهم، وأنا افصل بين الدولة وبين الوطن، وعندهم رغبة دائمة بأن تكون لهم دولة راسخة مستقرة على مفاهيم لا تستند إلى العدد وإلى الأوهام حول مسائل تزداد أكثر مرضاً بسبب تناولها من قبل كل الناس، باعتبار أن هذه ثوابت مرضية في العقل اللبناني. هذه أخطاء شائعة مثل الأخطاء في اللغة العربية . لذلك يكفي جلد الذات كل يوم بأن هناك مشكلة تتمثل بالعدد الذي سوف يزداد، فهذا العدد ازداد وأنتهى، والقاعدة ليست العدد القاعدة شيء آخر دستورياً وشعبياً وسياسياً وتفاهماً، وقاعدة للتساوي بين اللبنانيين، فإذا كنا لا نؤمن بمفاهيمنا فلا نستطيع ان نطلب من غيرنا أن يقبل بها، هذا بالنسبة للبنانيين.

أما بالنسبة للفلسطينيين، يجب أن نعترف ايضاً أن هذا الشعب هو شعب مناضل حقيقي مقاتل، لم يتخلَ عن وطنيته، ولا عن مسؤوليته، ولا عن رغبته بتحرير أرضه منذ سنة 1948 حتى اليوم، فلا يجوز أن نتعامل معهم بأنهم مجموعة من الناس ستستسلم لرغبات دولية أو غير دولية تقوم بتوطينهم حيث هم .
في لبنان عشنا تحت سلطة أمر واقع فلسطيني لسنوات طويلة، فهل لاحظنا من خلال سلطة الأمر الواقع التي كانت موجودة مالياً وعسكرياً وسياسياً وامتداد عربي وإعتراف دولي، هل لاحظنا خطوة واحدة منها تقول بأن هذا الشعب يريد التوطين؟ .
القيادة الفلسطينية نفسها وعلى رأسها الرئيس عرفات رحمه الله، لم تُحسّن وضع المخيمات ولو بنسبة 10 بالمئة، وأرجو من السيدة هدى من الاونروا ان تصحح لي كلامي .. وذلك لأنه كان يريد هذه المخيمات وقوداً لتحرير أرضه، وإلا كان باستطاعته تحويلها إلى مجمعات سكنية أفضل من تلك التي نسكنها جميعنا .فقد كان لديه المال، ولديه القانون الذي يسمح، إذ لم يكن التملك ممنوعاً.
إذاً كان المال موجوداً والإرادة موجودة والقانون يسمح بتنفيذ التملّك، ولكن ذلك لم يحصل ابداً، حتى اني لا أعرف ما إذا كان عرفات يملك شقة هو أو غيره من القيادات، إذاً يجب ان نعترف بأن اللبنانيين كشعب، والفلسطينيين كشعب لم يقصروا ولن يقصروا ولا يجوز بعد التجربة لموضوع التوطين، أن يسيطر على اهتماماتهم، أو قواعدهم السياسية، أو رغباتهم السياسية وبذلك نكون انطلقنا إلى حوار صحي وسليم.
هناك خطأ شائع ايضاً عند كل اللبنانيين بأن الدولة اللبنانية تحمّلت، أو مطلوب منها أن تتحمّل أي شيء يتعلق باللاجئين الفلسطينيين، وهذا غير صحيح. الدولة اللبنانية لم تتحمّل في تاريخها أي شيء يتعلق باللاجئين الفلسطينيين، حتى أنه في الحد الأدنى بدل إيجار الأراضي التي تقوم عليها المخيمات لا يتم دفعها، يعني هناك أصحاب أملاك مظلومين، ولكن ليس هناك دولة لبنانية مظلومة .
ثانياً: ليس المطلوب من كل النقاش سواءاً حق التملك أو حق العمل، وهما العنوانان الرئيسيان التي يمكن اعتبارهما حق إنساني، ليس المطلوب من الدولة أن تتحمل أي مسؤولية تجاه الفلسطينيين، ومع ذلك نحن نناقشها وكأن الفلسطيني بديلاً للبناني بحقٍ ما، وهذا غير صحيح. في لبنان الآن، وهذا الكلام الذي أقوله سمعته من خبراء، وليس أرقام من عندي، في لبنان الآن هناك 500 ألف فرصة عمل دائمة سنوياً لغير اللبنانيين منها 136 ألف حاصلين الآن على إجازات عمل .
الآن وبموجب قيود وزارة العمل والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، إذا كانوا مستفيدين من جزء من تقديمات صندوق الضمان، يوجد 136 ألف يعملون بموجب القانون وبإجازات عمل من غير اللبنانيين، ومن بين هؤلاء الـ 136 ألف 236 فلسطيني فقط حاصلين على إجازة عمل ويعملون بأعمال مختلفة .
إذاً يوجد 360 الف فرصة عمل يتم إشغالها بطريقة غير قانونية، معظمها يقوم بها عمال سوريون لا يدفعون أية رسوم، ولا يصرفون أية أموال يقبضونها، وليس عندهم أي إلتزام تجاه الدولة اللبنانية، وبالتالي من يأخذ من الآخر؟.
ان من واجباتنا ومسؤولياتنا الآن بتعاطينا مع المخيمات، بأن نعترف بأن هذه المخيمات تحوّلت إلى بؤر أمنية، قبل نهر البارد وبعد نهر البارد. فالمخيمات مبيت آمن للمجرمين إذا كانوا مخالفين للقانون، وحتى هذه اللحظة، فإن قتلة القضاة الأربعة في صيدا، تعرف الأجهزة الأمنية بأنهم موجودين داخل المخيم ولا تستطيع الدخول للقبض عليهم .
لذلك نحن الآن أمام مقاربتين: أما مقاربة بأن لدينا قدرة أمنية على تحقيق تنفيذ القانون اللبناني على كل متر من الأراضي اللبنانية، وأما أن نأخذ الأمور إذا لم نكن نملك هذه القدرة بالتدّرج .
ماهي عناصر التدرج الرئيسية ؟
العنصر الرئيسي الأول، هو أن تضع أمامك خطة عمل لكي تقول أني أريد تحويل هذا المخيم إلى مجتمع مدني غير مسلح له، حقوق إنسانية لا بد من إعطائه إياها من قبل الدولة اللبنانية .
هناك كلام كثير عن هذه الحقوق ولكن هناك سؤال دائم عن الواجبات وهذا شيء طبيعي.
الدولة دخلت في الماضي بالمقايضة، ولا يجب ان ننسى أنه عام 1969 وصلت المقايضة بأننا أبرمنا إتفاق القاهرة، فهل علينا الآن ان ندخل في مقايضة مماثلة؟ . إذاً الدولة اللبنانية لا تقايض، الدولة اللبنانية تحترم الحقوق الإنسانية، وتستمر في موقفها المبدئي على الواجبات، وهي تحويل المخيمات إلى بؤر آمنة، إلى مناطق آمنة مدنية .
كيف يمكن أن يتم ذلك؟
يمكن ان يتم ذلك بأن ننطلق ببحث دقيق وهادف وموضوعي، دون أي حساسيات ودون اهتمام بما قدّم من اقتراحات، أو لماذا قدّم أو ما الهدف من وراء تقديمه هذه الإقتراحات؟
نحن كجهة سياسية تجاهلنا هذه الأسئلة وذهبنا في اتجاه تحويل النقاش إلى نقاش لبناني– لبناني بدلاً من اسلامي – مسيحي، وضعنا بالتعاون مع مجموعة خبراء بالاحصاء وفي وزارة العمل والصندوق الوطني للضمان الإجتماعي، وبعض المعلومات الموثّقة من “الأونروا”، وضعنا اقتراح قانون يتعلق بحق العمل له ثلاثة أعمدة رئيسية :
العامود الأول : التمسّك بإجازة العمل باعتبار ان ذلك تأكيد على هوية اللاجىء الفلسطيني، وليس اعتباره متساويا مع اللبناني. هو يحصل على إجازة عمل مثله مثل أي مواطن عربي آخر .
الفلسطينيون لديهم مشكلة واحدة وهي أنه في مبدأ التعامل بالمثل، ليس لهم دولة لكي تقول أنا أتعامل بالمثل مع دولتهم، فالشيء الوحيد الذي يُعطى للفلسطينيين استثناءاً عن أي هندي، هو الغاء مبدأ المعاملة بالمثل .
المبدأ الثاني الذي عملنا عليه مع الزملاء من القوات اللبنانية والدكتور فارس سعيد في الإقتراح هو تأكيد مسؤولية المجتمع الدولي بإبقاء مسألة الرعاية الصحية والتعليم الإبتدائي والثانوي بعهدة “الأونروا” التي تمثّل المجتمع الدولي.
الكلام عن عجز “الأونروا”، عمره منذ أنشئت “الأونروا” وهذا غير صحيح.
البند الثاني الذي وضعناه هو أن الدولة اللبنانية بجميع صناديقها لا تتحمل أي مسؤولية مالية تجاه العامل الفلسطيني الحاصل على اجازة العمل، والذي ترعاه صحياً وكالة “الأونروا” وتعلم أولاده في المرحلتين الإبتدائية والثانوية.
سوف أختم بجملة واحدة: أنا أعتقد أنه حان الوقت لإجراء مصالحة تاريخية بعقلنا بين الشعبين اللبناني والفلسطيني، لا أن نتصرّف على أن كل الفلسطينيين مسلحين، ولا أن يتصرّف الفلسطينيون على أن كل اللبنانيين منقسمون حولهم إنسانياً.