الانقلاب الثلاثي

مقالات 26 يونيو 2006 0

لم يكن اغتيال النائب وليد عيدو عضو كتلة سعد الحريري البرلمانية مفاجئا لمتتبعي التطورات الميدانية في لبنان والمنطقة. إذ إن المواجهات العسكرية التي بدأت في مخيّم نهر البارد في شمال لبنان بين مجموعة “فتح الإسلام” الإرهابية التكفيرية اللبنانية – العربية المتصلة بأجهزة الأمن السورية، وانفجار الوضع العسكري في غزة بين حركة “حماس” ومجموعات حركة “فتح”، ما كان لها أن تكتمل دون اغتيال سياسي لبناني يظهر مدى اليأس السوري من سياسة الحكومة اللبنانية السائرة في إقرار الإجراءات القانونية اللازمة لإنشاء المحكمة الدولية المختصة باغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري ورفاقه.
وما كان ممكنا تأكيد هذا اليأس دون إطلاق صواريخ كاتيوشا من جنوب لبنان على المستوطنات الإسرائيلية الحدودية للمرة الأولى منذ صدور قرار مجلس الأمن الدولي ذي الرقم 1701 الداعي لنشر القوات الدولية جنوب لبنان. فلبنان يعيش منذ 30 شهرا، تاريخ اغتيال الرئيس الحريري حالا من المواجهة السياسية الحادة، والمقلقة، والمطوقة بخطر شديد، مع سوريا الجارة الفاقدة لحرارة الأشقاء مع لبنان.
صحيح أن الغالبية العظمى من اللبنانيين ترى في الاهتمام الدولي والقرارات الصادرة عن مجلس الأمن دعما لسيادة حكومتهم وسندا لصمودها. لكن هذا لا يعني أن هذه القرارات أو هذا القدر من الاهتمام الدولي سببه سياسيون لا يرى النظام السوري في حركتهم إلا التآمر وفي كلامهم إلا الاعتداء – وهو رد فعل أكثر مما هو فعل _ وفي أهدافهم الانتصار للسياسة الأمريكية في المنطقة.

أما المحكمة الدولية فهي قرار دولي يتجاوز لبنان. صحيح أن للمحكمة الدولية طابعها السياسي إذ إن الاغتيالات العشرة التي حصلت وأنقذ الله ثلاثة من أهدافها هم مروان حمادة ومي شدياق وإلياس المر – هي جرائم سياسية وليست جرائم جنائية فقط. إلا أن هذا لا يمنع أن المحكمة الدولية قرار أكبر من لبنان وأوسع من خريطته وأقدر من قواه السياسية مهما بالغنا في قدراتها. هذا وصف للتفاصيل وإن كانت كبيرة. أما الأساس فهو أن لبنان “كان” يعيش حالة حرب معلنة مع سوريا منذ اغتيال الرئيس الحريري لا تكتفي بالسياسة مجالا بل تصل إلى حياة اللبنانيين تدميرا لاستقرارهم واتهاما باغتيال ممثليهم السياسيين. أقول -كان- لأن هذا الصراع دخل مرحلة جديدة هي الانقلاب باغتيال النائب وليد عيدو في الأسبوع الماضي.
فاغتيال النائب وليد عيدو رسالة واضحة -لا لبس في ترجمتها- إلى سعد الحريري وحلفائه وممثلهم في السلطة الرئيس فؤاد السنيورة بأن استمرار الحكومة اللبنانية في إجراءات تشكيل المحكمة الدولية سيواجه بمزيد من الإجراءات الانقلابية التي تعطّل عمل الحكومة وتهزّ أمل المواطنين باستقرار حياتهم.
هذا يعطي صورة واضحة عن العلاقات السورية-السعودية. إذ مهما تجنبنا القول فإن كتلة تيار المستقبل لبنانية التمثيل، سعودية الهوى. وعيدو هو الشهيد الثاني من “أهل السنّة” بعد الحريري.
تقديري _ ببساطة التقدير وليس أكثر _ أن لا تعديل في الميزان السياسي نتج عن الانتصار العسكري للمقاومة في حرب يوليو، بل بالعكس ذهب الحوار إلى مزيد من الحدة والاشتباك. ولا نتائج مباشرة وواضحة للحضور السوري في قمة الرياض والموافقة على المبادرة العربية للسلام. ولا سماع لما يطمئن القيادة السورية من المبعوثين الأوروبيين الذين توالوا على زيارة دمشق. ولا تواصل لبنانياً قادر على الإقناع بعد سلسلة من التجارب للطرفين. فكان القرار بالانقلاب على الحكومة وسياستها.

لذلك كان الفشل الذي حظيت به المبادرة العربية طبيعياً بعد أيام من المداولات في بيروت في الأسبوع الماضي بين الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى وقيادات المعارضة اللبنانية.
ظهر أمام الوفد العربي المفاوض للقيادات اللبنانية في الأسبوع الماضي أن الإجماع العربي الممثل بالسعودية ومصر يسعى نحو تسوية للوضع اللبناني لم تتحقق وأن السياسة الإيرانية مؤيّدة لهدنة لن تحصل وأن السياسة السورية التي تريد الانفجار تتأكد يوما بعد يوم من حصوله.
حقّّق النائب سعد الحريري هدفه من المفاوضات فوافق على صيغ ثلاث حملها إليه أمين عام الجامعة وهو يعلم _أو متأكد_ من أن القيادة السورية لا تريد توسيع الحكومة ولا إجراء انتخابات رئاسة الجمهورية في موعدها. أراد الحريري أن يؤكد للقادة العرب أن ما سمعوه منه ومن حلفائه عن الموقف السوري ليس اجتهادا ولا ثأرا بل واقع لا بد من الاعتراف به والتعامل مع الوضع على أساسه.
هذا يعني ببساطة أن الرئيس اللبناني، سيعلن خلال أسابيع عن أن الحكومة الحالية مستقيلة، وسيؤلّف حكومة جديدة دون الالتفات إلى مدى دستورية هذا القرار أو ذاك طالما أنه يتسبّب بمزيد من الاضطراب السياسي والأمني.
لا مجازفة في القول إن الانقلاب الذي بدأ في لبنان ردا على قرار المحكمة الدولية الذي تجاهل الحضور السوري لقمة الرياض والموافقة على المبادرة العربية، أخذ شكلا آخر باستيلاء مسلحين مقنعين من حركة “حماس” لا يظهر من حركتهم غير قدرتهم المبرمجة على إهانة الرمز الأنصع للشعب الفلسطيني الزعيم ياسر عرفات، واعتدائهم على أهلهم واحتلالهم لإداراتهم كأنهم غرباء أو أنهم ليسوا على أرضهم. ومتى؟ في ذكرى النكسة. أرادوا تأكيد استحقاق الأمة العربية لها. فصارت غزة مسرحا للمرحلة الثانية من الانقلاب.

هناك الكثير من التفاصيل التي يمكن روايتها عما حدث في غزة إلا أن الأهم نقطتان: الأولى أن احتلال “حماس” لأراضي شعبها في غزة هو انقلاب على اتفاق “مكة” الذي بذلت القيادة السعودية جهدا كبيرا لتحقيقه. النقطة الثانية والأهم هي أن رئيس الحكومة الإسرائيلية استطاع في الوقت نفسه وبنجاح إعادة تنظيم الوضع الحكومي الإسرائيلي فأتى بشيمون بيريز المنظّر التاريخي للشرق الأوسط الجديد رئيسا لإسرائيل وبالجنرال إيهود باراك رئيسا لحزب العمل ووزيرا للدفاع وهو الضابط المتخصص منذ شبابه المبكر بالحدة المباشرة على العرب خاصة في حرب الـ67 حين أعطى أوامره لجنوده بقتل الأسرى المصريين.
لذلك لن يكون غريبا أن يفشل الاجتماع الذي سيعقد خلال أيام في القاهرة بين قيادتي “حماس” و “فتح” لتدارك نتائج ما حصل في غزة. فلا الرئيس الفلسطيني الممسك بشرعية منفردة في الضفة الغربية سيتراجع عن إشاراته إلى ” التكفيريين” و “إمارة” الوهم القائمة في غزة. ولا قيادة “حماس” ستتخلّى عن “مقياس النزاهة” لمواجهة الفساد وعن رفض القرار العربي والدولي في قيام دولتين متجاورتين سلما، فلسطينية وإسرائيلية.
هل يبدو مبالغة القول إن ما يحدث في لبنان هو انقلاب على قمة الرياض وتحضير لاكتماله دوليا بالضغط التدريجي على قوات الطوارئ الدولية في جنوب لبنان، وإن ما حدث في غزة هو انقلاب على اتفاق مكة. وإن السياسة السورية_ الإيرانية نفضت يدها من التسويات حتى إشعار آخر؟
ماذا عن العراق؟

رئيس الحكومة نوري المالكي ومعه مجلس النواب العراقي يتبارون في تأجيل القرارات الجامعة للعراقيين في النفط والمال العام، ويؤكدون قدرتهم على دعم سلطة الأجهزة الأمنية المذهبية. متجاوزين بذلك دون رادع وطني الإجماع العربي على السعي السياسي للاستقرار بعد ما حل بالشعب العراقي من دمار وتشريد لا يعرفه إلا من كابده ؟
ينفتح في لبنان الباب على مزيد من الاشتباكات العسكرية والسياسية المترجمة للانقلاب، يكمل الانقلاب في فلسطين طريقه على الذين يقاتلون إسرائيل منذ عام 1965 والذين أعادوا تكوين الشعب الفلسطيني، وفرضوا قضيته على العالم.
وتكتمل هذه السياسة بحكومة عراقية لا تملك من أمرها إلا تشجيع التطرّف المذهبي والتراجع عن القرارات الجامعة لشعبها. فيصبح الانقلاب ثلاثيا.
لا يستطيع أحد أن ينكر مدى قدرة السياسة الانقلابية هذه على تحقيق تقدّم في هذه الأرض أو تلك بعيدا عن حق الناس في الاستقرار والأمان. لكنّها تبقى غريبة، لا ترسخ في الأرض. ومن يعش ير…