الاعتدال الغائب ..

مقالات 05 مارس 2007 0

منذ سنوات طويلة ذهبت لزيارة عصام فارس النائب في مجلس النواب اللبناني آنذاك والمنتشر بحضوره في المجالس السياسية اللبنانية أوسع من منصبه بكثير. لم تكن علاقتي به حميمة ولكن تكرار التوتر غير المعلن بينه وبين الرئيس الشهيد رفيق الحريري جعلني أبادر الى الاتصال به والذهاب الى ما بعد، بعد، برمانا المصيف الجميل حيث يقع منزله.
لفارس دولة الرئيس بعد ذلك، عليّ دين ودّ ولطافة وسؤال.
أصبت بعارض صحي في موناكو، جعلني التزم المستشفى لأيام ومن ثم الى الفندق حيث كان يتردد فارس للقاء أصدقائه. رنّ الهاتف في غرفتي فإذا بفارس يطمئن عليّ ويعرض خدماته وهو دائما يفعل ذلك ومن ضمنها طائرته للعودة الى بيروت إذا كان هناك من حاجة طبية.
شكرت الرجل دون معرفة قريبة به. إذ ان ما بدر منه جعلني أسير سؤاله عن صحتي. في المرة الأولى التي قابلته فيها على يخته في موناكو، استبشرت خيرا في ملقاه وحرصه على لبنان كما يحرص على ضيوفه. شجّعته على العمل السياسي وهو لم يكن يحتاج الى كثير من التشجيع لأسباب كثيرة أعود إليها لاحقا.
وصلت الى منزله في مار شعيا وكانت المرة الأولى التي أزوره في منزله.
كعادتي التي لم استطع لها تبديلا بدأت استوعب بنظري زوايا المنزل. أرضه العارية الرائعة هندسيا. ممر الفسيفساء المربع بين المجالس. الأيقونات التي تسيّج حائط القاعة الكبرى داخل اطارات من الحجر المنقوش التاريخي، بذوق لا مثيل له. اللوحات القليلة الجارحة في ألوانها وفي موقعها. غياب الستائر نهائيا عن المنزل بحيث تكون الفصول الأربعة للسنة هي الحاجبة للعين ما عداها.
لا يستطيع مهندس أن يدّعي القدرة على هذا الانسجام بين الموجودات. ولو ان بيار خوري شيخ المهندسين اللبنانيين والعرب رحمه الله، هو الذي اشرف على وضع خرائط المنزل. الا ان سيدة ما عيل صبر من يراقبها وضعت الالوان والقواعد لكل ما يحيط من الخارج وما يلتف حول جدران المنزل في الداخل.
سيدة القصر لا تضع قواعد الذوق في داخله. بل تضع قواعد الزوار كما تبين في ما بعد. اذ ان مواقفها السياسية المباشرة جعلتها تصدر مراسيم حضور الزوار بحسب انسجامهم مع انتمائها السياسي. لم تكن هي الوحيدة التي تفعل ذلك في لبنان في ذلك الحين. اذ انتشرت عدوى السيدات المقررات لاصناف الاصدقاء والزوار.
ففي الوقت الذي يشفع فيه للسيدة هلا عصام فارس ذوقها في كل ما يحيط بها. لا يشفع للأخريات ذوقهن في اختيارهن لملابسهن فكيف ينشرن الجمال في منزل من آلاف الأمتار؟
في المجلس الصغير الذي استقبلني فارس فيه، كان الزمردي الأخضر هو الصاعق في المكان. لم أتركه يأخذني الى الحديث السياسي مباشرة، بل حرصت على ان أبدي له اعجابي بالذوق الرفيع المحيط بنا. والذي يعود فيه الفضل بحسب قوله الى السيدة هلا التي بادرتني حين أطلت للسلام بأنها تتعجب من جرأتي في اقتحام معاقل الخصوم من السياسيين.
لم أعر ملاحظتها أهمية، بل طوّقتها بحبل من الاعجاب بما اختارته لمنزلها في كل الزوايا، جعلت زوجها ينهي الحديث معها، تجنبا لمطالبتها ببناء منزل ثان في مكان لم تحدده بعد لتطوير معرفتها الأخاذة في الاختيار.
قال لي فارس في ذلك الحين انني الوحيد الذي أبرر له في كلامي حجم الكلفة التي دفعها لإعادة بناء منزله. وإلا فكانت الأرقام كفيلة بالتغاضي عن النتائج.
تحدثنا كثيرا عن الصلة بينه وبين الرئيس الحريري. مما قلته في ذلك الحين ان الصلة بينهما طبيعية بسبب تطابق العصامية بين الاثنين. اذ انه من غير الطبيعي ان تترك للعبة السياسية الداخلية او حتى للخريطة السورية ان تضعك في موقع المواجهة على افتراض خصومة لا تتوفر عناصرها في رواية حياة كل منكما .
اصغى فارس على عادته بدقة ومحبة مترافقة مع الابتسامة السمحاء التي لا تغادر وجهه. مقدرا ما اقول وواعدا بالعمل على ترميم العلاقة الثنائية بصرف النظر عن الاشتباكات المنتشرة بين الرئاسات الثلاث في ذلك الحين.
حصل هذا بالفعل. فذهب الرئيس الحريري بعد اسابيع الى الغداء في منزل فارس حيث ظهر عليه الانطباع نفسه، الذي احسست به من زيارتي الأولى، مقدرا لسيدة القصر ذوقها ولسيده محبته.
الأهم انه في زيارتي الأولى حملت اقتراحا مربكا لفارس، اذ بعد كل هذا الحديث عن جمال المنزل. قلت له ان السكن خارج العاصمة المركز الرئيسي للقرار السياسي يضعف الصلة المباشرة بينه وبين من يجب ان يعود اليه في قراره سواء من المواطنين او السياسيين.
كان المجتمع المسيحي بحاجة الى زعامة مقيمة في بيئته ومحيطه. يشعر كل يوم انها موجودة على مسافة من العين وليس بقيادة السيارة لمدة ساعة للوصول.
رأيت في عصام فارس في ذلك الحين مقومات هذا الدور الغائب. هو الوحيد المسيحي الطبيعي المرتبط بأواصر وثيقة مع كنيسته الأرثوذكسية أينما حلت وكيفما انتشرت. يقف على تقاطع سياسي متماسك بين الاستقلاليين اللبنانيين والنظام السوري. لا تربكه مناقشة السوريين في ما يراه ضرورة لحسن العلاقات. ولا تسمح علاقة الاستقلاليين به أن يفرضوا عليه محظورات الحركة في اتجاه دمشق. يتمتع بلطافة في اجتماعاته تجعله منفتحا على كل الأهواء والمشارب. كريم بحيث لا يردّ صاحب حاجة أو راغب بعلم. منتشر بعلاقاته الدولية القائمة على كثير من الود الشخصي دون إلزام بتغيير نظريته السياسية. معتدل الى حد القدرة على استيعاب الجميع بحواره، متخاصمين ومتلاقين. لم تكن هذه الصفات متوفرة في أواسط التسعينيات إلا فيه، ويسكن في مار شعيا؟
لم يكن من السهل إقناعه بمدى حاجة اللعبة السياسية الى صفاته، فهو يعتقد انه لا يقصر حيث هو. ويريد لحياته الخاصة مجالا لا يتوفر في ما اقترحه عليه.
تعددت بيننا اللقاءات بعدها. لا أنا تراجعت عن اقتراحي. ولا هو اقتنع بهذا الدور. غرق دولة نائب الرئيس عصام فارس في جداول أعمال مجلس الوزراء. حاول دارسا وجديا كل بند اعترض أو وافق عليه. كلما ازدادت الخصومات السياسية شعر بأنه محاصر بالانتماء الى هذا الحلف أو ذاك. اهتزت صورة المعتدل فيه.
اغتيل صديقه الرئيس الحريري الذي تناول الغداء مرة ثانية في منزله بحضور الوزيرين غازي العريضي ومروان حمادة.
جاءت انتخابات العام 2005 ليجد نفسه غريبا عن موجة الدماء والجنازات التي تتحكم بصناديق الاقتراع. هذه ليست مدرسته ولا قناعاته ولا قدرته حتى. فاعتكف عن الترشيح تاركا للموجة السوداء أن تعبر. وسافر الى حيث يعتقد ان لحياته معنى مختلفاً.
لم ينتبه ولاة الانتخابات الى الاصطفافات المقبلة عليهم، ولا فكروا لحظة بأهمية المسيحي الطبيعي المعتدل في الحياة السياسية اللبنانية. فكان نصيبنا جميعا واحدا يقود مجتمعه بعكس التيار، وثانيا يمسك بالوهم بأقصى سرعة ممكنة. أين الاعتدال الضروري، الممثل للصمغ اللاصق للمجتمع اللبناني؟
في الأسبوع الماضي حضر عصام فارس الى بيروت، عبر كتاب يظهر ما كان حييا في اظهاره دائما. وهو أن فارس محور ومدير لحوارات عميقة التأثير جرت في جامعة تافتس بين 1994 و2004 حول موضوع محدد هو علاقة الغرب بقضايا الشرق الأوسط مع التركيز على لبنان.
مستوى المحاورين عال جدا. وهم الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان، جيمس بيكر، مارغريت تاتشر، جورج ميتشل، كولن باول، بيل كلينتون، هيلاري كلينتون. فضلا عن جورج بوش الأب الذي اشتهرت صداقته بفارس.
ابتسامة فارس السمحة الأكثر حضورا في هذا الكتاب لا تعوّض غيابه وإن كانت تؤكد ما أعرفه عن تأثيره وانتشار علاقاته..
اعتداله صار أكثر من ضرورة. صار واجبا وطنيا.
نهاد..