“الإصرار على الصيغة اللبنانية”، المنتدى الثقافي- صور، الصوت والصورة في حماية تداول السلطة

محاضرات 05 مايو 2007 0

العنوان ليس من عندي. هو هدية من السيد علي الأمين. حين علم أن الكلام سيكون له عنوان “أسرار الصيغة اللبنانية”. تحمّس وقال بل هو “الإصرار على الصيغة اللبنانية” وهو على حق إذ ان هذه الصيغة تحتاج الى الاصرار أكثر منها الى الأسرار.
الحديث يختلط في ذهن اللبنانيين عن الدولة اللبنانية والصيغة اللبنانية، بحيث ان غالبيتهم العظمى لا تفرّق بين الاثنين. إذا ما قصّرت الدولة في واحدة من إداراتها يحمّل اللبنانيون صيغة حياتهم مسؤولية التقصير. وإذا ما استطاع أحد أوجه الصيغة ان يحمي نفسه من هجوم جاهل عليها، ظن لبنانيون أن الدولة نجحت في تجاوز الهجوم الذي تعرضت إليه.
الدولة وعاء يضم وسائل إدارة الحياة اليومية للناس وإطاراً للضوابط القانونية والدستورية لانتظام حياتهم السياسية والادارية.
أما الصيغة فهي أسلوب عيش إنساني واجتماعي تتداخل فيه الطائفة مع الثقافة مع تنوّع مشارب المعرفة، والقدرة على الاعتراف بالآخر، والتمسك بالديموقراطية حقاً مكتسباً للبنانيين مهما تغيرت العهود وقست الاحتلالات السياسية على لبنان. كل هذا يتم في إطار السعي لتطوير القوانين بما ينسجم مع انتعاش هذه الصيغة وتجديدها.
لم يتميز لبنان بشكله السياسي وعلم أهله وطبابته وطباعته وكتابه وسلوك أهله الاجتماعي والخدمات التي يفرضها التطور. لم يحصل ذلك بفضل الدولة اللبنانية بل بسبب صيغة الحياة التي تدرجت في تأسيس حقائقها.
لم يكن اللبناني قادراً على الهجرة الى كل مكان بلغاته المتعددة وقدرته على التأقلم مع مجتمعه الجديد، وتطوير وضعه بحيث يصبح ثرياً أو بارزاً في اغترابه بفضل ما تعلّمه من الدولة، بل بفضل ما لهذه الصيغة من إضافات نوعية على شخصيته حتى لو كان أميّاً. الهجرة هنا ليس سببها تقصير الدولة، بل هي نتاج طبيعي بدأ قبل 200 سنة لشح الموارد الطبيعية في الأرض اللبنانية قبل أن تصبح دولة لها حدود.
الدولة اللبنانية مثل كل الدول الفقيرة بمواردها الطبيعية، قصرت وتقصر في الكثير من الخدمات التي ينتظرها المواطنون من إداراتها في مناطقهم سواء في المدينة أو الريف. رغم ذلك ولولا بقية من خجل لكنت سمّيت دولا نفطية لا تزال تعاني من نقص في خدماتها لمواطنيها في المدن كما في الأرياف، وإلا فما مبرر إعلان تبّرع أثرياء عرب بمولد كهرباء لهذه الدسكرة أو تلك من قراهم.
قصّرت الدولة في الكثير من المجالات منذ العام 1975 حين بدأ حضورها يتراجع أمام تقدم آلة الحرب، حتى اتفاق الطائف في العام .1989 لكن المجتمع الأهلي في تلك الفترة أخرج كل ما عنده من مهارات وقدرات ليقوم مقام الدولة في بعض المجالات وليحفظ لنفسه حق الحياة بالاسلوب الاجتماعي الذي اختاره وارتضاه.
ليس هذا فقط، بل استطاع المجتمع الأهلي أن يحمي بين حين وآخر تنوعه السياسي ورفضه لإلغاء الآلية الضابطة لحياته السياسية.

من العناوين الاساسية للصيغة اللبنانية يأتي تداول السلطة السياسية في طليعتها. لبنان حتى هذه اللحظة، هو البلد العربي الوحيد الذي ينتظر فيه اللبنانيون تداول السلطة في رئاسة الجمهورية بعد مرور 6 سنوات هي مدة ولاية الرئيس. حاول الرئيس بشارة الخوري التمديد فانتهى تمديده تحت ضغط ثورة شعبية داخلية. قرر الرئيس كميل شمعون بعده الانحياز السياسي بما لا ينسجم مع الصيغة اللبنانية فكان ذلك سبب خروجه من الرئاسة بعد ثورة 58 .
رفض الرئيس فؤاد شهاب مخالفة “الكتاب” على حد تعبيره، فاشتبك أمنه السياسي الممثل بالجيش مع الرئيس شارل حلو الذي انتخب بعده. تقدم غلاة التمثيل المسيحي أركان الحلف الثلاثي فأسقطوا الياس سركيس بصوت واحد لصالح سليمان فرنجية. انتخب الرئيس سركيس قبل 6 أشهر من انتهاء ولاية فرنجية. اغتيل بشير الجميل الذي انتقل من أقصى التطرّف الى الاعتراف بالصيغة خلال 20 يوما. انتخب شقيقه أمين لينهي ولايته بحكومة انتقالية ترأسها العماد ميشال عون. فكان هو المؤسس ـ أي الجميل ـ للحالة المسيحية التي نعيشها حتى اليوم. اغتيل رينيه معوض المخالف لطبيعة المرحلة المقبلة على لبنان في حينه فجاء الياس الهراوي. شهدت الصيغة أسوأ أيامها حين مدد له. وكذلك حصل مع الرئيس اميل لحود في الحالتين منتخبا وممددا له. لم يكن ذلك بفضل الصيغة اللبنانية بل بفضل الآلية الأمنية السورية التي تستغرب الحاجة الى تغيّر الرؤساء.
حين ننظر الى الصورة بمجملها نرى الكثير من السلبيات التي نرفضها. لكننا حين ندخل في تفاصيلها نجد أن تداول السلطة يتم في أصعب الظروف. وفي محيط عربي لا تداول فيه ولا دولة بل سلطة تقرر وتورث ايضا من تشاء وترغب. هذا ما أردت لفت النظر الى ضرورة التركيز عليه في الصيغة اللبنانية التي احتفظت حتى الآن بقدرتها على الدفاع عن آليتها في تداول السلطة سلمياً.
الرؤساء في لبنان ليسوا أفراداً بل عهود ترمز الى انسجامها مع التطورات السياسية في المنطقة، حتى لو لم تكن التطورات لصالح الصيغة كما حدث في العهدين الماضيين. لذلك حصل الكثير من التشوهات في تداول السلطة حين لم يعد لرئيس الجمهورية صلاحيات ما قبل اتفاق الطائف، ولكن بقيت آلية التداول الوحيدة الصالحة للعمل في موقع الرمز الأول للبلاد.

ثانياً: الكلام عن التراث العريق للحريات في لبنان ليس شعراً أو مديحاً بل هو حقيقة تتطور وتنتشر.
نستطيع أن نستعيد معاً الكثير من الصور السوداء عمّا تعرضت له الحريات العامة منذ العام 1975 وحتى اليوم. لكن حرية التعبير بجوهرها وأشكالها المتعددة لا تزال متاحة رغم كل محاولات المنع وتعدد جنسياتها. شهد الوضع الاعلامي في لبنان تطوراً نوعياً مميزاً وتأسست شركات بث مرئي ومسموع وانتشرت بصورتها وصوتها في العالم العربي. فضلا عن وسائل التعبير الحديث “الانترنت”. فلم تستطع الاجهزة الأمنية اللبنانية الحد مما أسمته بالفلتان الاعلامي. حاولت الاجهزة الأمنية السورية مرات ومرات إخفاء الصوت اللبناني فلم تنجح. كان الصوت حين يخفت في بيروت يقوى في كسروان. تتجاوب صور معهما ترداداً للصوت في صيدا ايضا.
حين سكت رجل الدين، صرخ الحزبي. حين اعتقل الحزبي، خرج الأهالي دفاعاً. وهكذا دواليك.
في المحيط الاقرب نجد أن خمسة مفكرين لا يملكون غير قلمهم ولا يستعملونه غالبا حكموا بالسجن لسنوات طويلة لتوقيعهم على بيان تصويب للعلاقات اللبنانية ـ السورية، هذا في دمشق. أما في القاهرة فقد عدّل الدستور بما يحدد مصير حياة المصريين لعشرات السنوات المقبلة بما نسبته 5 في المئة من المسجلين على لوائح الشطب. واعتبر الأمر ناجزاً.
في لبنان، نناقش منذ أسابيع ما اذا كان يحق لمجلس النواب انتخاب رئيس للجمهورية بنصاب أكثرية الثلثين أو أقل. من وجهة نظر وطنية لا سياسية، حتى لو لم يكن هناك إشكال في المادة الدستورية المتعلقة بنصاب جلسة انتخاب الرئيس، فلا بد من وضع نص يؤكد على الثلثين.
لماذا؟
يعيش لبنان منذ العام 1990 حتى الآن إشكالية التمثيل المسيحي في السلطة. مرة تحت شعار أن التمثيل منفي في باريس ومرة اخرى لان التمثيل سجين في وزارة الدفاع. لم تستطع انتخابات 92ـ2000 ,96ـ2005 أن تعالج هذه المشكلة ولا بالطبع رئاستي الياس الهراوي واميل لحود اللتين زادتا الازمة تفاقماً.
من جهة اخرى رئيس المجلس النيابي ينتخب بنصاب الثلثين ويجدد له في منتصف ولايته لو طرحت الثقة به بنصاب الثلثين ايضا. أما رئيس مجلس الوزراء الاشهر في تاريخ لبنان الشهيد رفيق الحريري فقد استقال في العام 98 وتسبّب له ولغيره بأزمة سياسية كبرى لان رئيس الجمهورية اجتهد واستنسب في مادة دستورية تعطيه حق الاحتفاظ بأصوات نيابية لصالحه في الاستشارات الملزمة لتسمية رئيس الوزراء. كان الرئيس الحريري يريد الثلثين وما فوق من تسمية النواب ليتصرف على أنه صاحب الاغلبية المطلقة في رئاسته. فلماذا لا يكون الامر مماثلا لنصاب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية بدلا من رئاسة سيعتبرها من غاب عن الجلسة انها لا تعبّر عن المسيحيين؟
هذا الحوار هو جزء من الحريات الساكنة في صدور اللبنانيين بصرف النظر عن صوابية هذا الرأي أو ذاك التصوّر. لم يستطع أحد أن يعتقلها ولو فعل فلفترة وجيزة. لان الحريات هذه، هي أسلوب حياة وليست حقوقا قانونية تحميها الادارات اللبنانية. هي أساس في الصيغة اللبنانية التي لم يستطع تنوع الاحتلالات القضاء عليها، ولن يستطيع.
ثالثاً: في التعليم والطبابة، بعد أكثر من مئة عام على نشوء الجامعات في لبنان المعنونة بالارساليات، يجري العمل الآن في أغنى دول النفط على إنشاء جامعات مماثلة للتي في لبنان. ليس هذا بفضل الدولة التي كانت على صلة وثيقة بالثقافة الفرنسية. والدليل وجود الجامعة الاميركية السابق للجامعات الفرنسية، بل لان الارساليات أياً كان دينها وجدت في الصيغة اللبنانية تنوعاً غنياً لا بد من الاستفادة منه لنشر ثقافتها الانكلو ـ أميركية والفرنكفونية في لبنان والعالم العربي.
كذلك في الطبابة التي التصقت بالجامعات وجعلت من خدماتها قبلة للعرب، ما حدث على جانب هذين المعلمين هو التطور في المعرفة في المجالين العلمي والطبي. وهو ما لم يحدث حتى الآن في الدول العربية، الفقيرة منها والغنية. اذ ان التطور هناك ينحصر بالمستورد وليس بما يكتسب نتيجة الخبرة والابتكار.
لا أقلل هنا من التجربة المصرية قبل الثورة في العام ,52 لكن التجربة اللبنانية متصلة بينما التجربة المصرية منقطعة في الكثير من المجالات.
الحديث عن التعليم والطبابة يؤدي إلى الاعتراف بأهمية النظام الاقتصادي الحر الذي استفاد من الصيغة ومن الدولة على حد سواء. وهي عادة الرأسمالية أينما كانت.
استطاع هذا النظام الحر أن يصمد ويدافع عن الصيغة التي يستفيد من تنوعها، وحين أتيح له أن يتقدم بعد العام ,1990 رمى بكل معوقات الحرب وراءه وحقق نجاحات كبيرة في غير مجال أهمها المصارف والاعمار.
ما قلته ليس سابقا، بل هو حاضر بيننا اليوم. إنما لا بد من التيقظ الى أن الصيغة اللبنانية تتعرض لأعنف هجوم على مقوماتها منذ أن كانت.
منذ أكثر من سنتين تعرضت البلاد الى أربعة أحداث كبيرة. الحدث الأول هو انسحاب الجيش السوري من لبنان مع إدارته الأمنية والى حد ما السياسية. الحدث الثاني هو اغتيال الرئيس رفيق الحريري بما يمثله من حداثة وتطلعات. الحدث الثالث هو الانتخابات النيابية التي جرت في العام 2005 وأنتجت النظام السياسي الحالي. الرابع هو الاعتداء الاسرائيلي على لبنان في شهر تموز من العام الفائت.
كشف الانسحاب السوري نقاط الضعف التي رعى تناميها في النظام السياسي اللبناني، متلازمة مع تفسيرات شخصية بحتة من الادارة الأمنية السورية لبنود اتفاق الطائف.
حق النقض على الادارات السياسية اللبنانية الذي احتفظت به الادارة الأمنية السورية طوال مدة وجودها صار مطلباً للمعارضة اللبنانية المتحالفة مع السياسة السورية. لكن ليس هذا هو العنوان الأهم للصراع السياسي. العنوان الأهم هو هل دمشق هي جارتنا العربية ونحن ملزمون بتنظيم علاقاتنا بها. أم ان دمشق هي بوابة عروبتنا، ولا سياسة خارجية لنا من دون العبور فيها؟
لا تشكل الصياغة الأولى للعلاقات أي إرباك لدى اللبنانيين بمختلف توجهاتهم. أما الصياغة الثانية فهي توصل الى اعتبار الموقف السوري من الصراع العربي ـ الإسرائيلي هو الموقف الملزم اللبناني وإلا. إلا هنا تفسيرها متكرر في الاغتيالات.
لقد كشفت الإدارة السياسية السورية عن أوراقها في موضوع المحكمة الدولية بشكل لم تراع فيه ما يمكن أن ينشأ من علاقات بين البلدين في مرحلة مقبلة ولو بعيدة. وتصرف حليفها الرئيس في لبنان أي “حزب الله” بطريقة بدائية، أولها الاعتكاف وآخرها الاستقالة من الحكومة بسبب عنوان المحكمة التي لا يملك الطرف الآخر، أي الأكثرية، أن يتنازل عنها أو يتساهل في قيامها. فأحدثت هذه التصرفات شرخا سيعيش لسنوات طويلة بين اللبنانيين مهما كانت نتائج المحكمة وشكلها وصلاحياتها.
تصرفت القيادة السياسية للحزب على قاعدة أنها غير معنية بالمفاهيم البنيوية للصيغة اللبنانية. دون ملاحظة أن الصيغة نفسها هي التي سمحت بانتشار فكر الحزب وتموضعه في ذهن جمهوره. وما تلفزيون “المنار” إلا واحد من هذه الأمثلة. إلا إذا كان الحزب يعتبر ان ما توصل اليه هو بفضل التسهيلات السورية للعقيدة الايرانية. وهذا غير صحيح. إذ انه لولا الطبيعة المرنة لهذه الصيغة لما كانت العقيدة وصلت ولا التسهيلات تمت.
هذه المرونة هي التي ستحمي حركة الحزب السياسية إذا ما أخذ بمضمونها. وإلا تحول الى حالة انقلابية يجتمع عليها ما لا يعد ولا يحصى من الدول لإنهائها.
ليس لأحد الحق التشكيك بلبنانية الحزب، فهو جزء طبيعي من النسيج الاجتماعي اللبناني شرط قبوله بصيغة تتسع له ولغيره من اللبنانيين. وإن كان ما نشهده هذه الايام من الحدة وليس من الفتنة لا يشجع على تقدم مثل هذا التصور. إذ ان الصورة الآن قائمة على أن هناك صراع مشاريع كبرى في المنطقة. والذي ينتصر منها يعطي لحليفه اللبناني حصته من الانتصار.
لقد فشل اغتيال الرئيس رفيق الحريري والسياسيين والاعلاميين الذين اغتيلوا بعده بتغيير موقف الجماعة السياسية والشعبية التي انتصرت لهم أحياء وشهداء.
بل يمكن القول انها شدّت من أزر هذه المجموعة وزادت من الدعم الدولي والعربي لها، فلم تحقق الاغتيالات النتائج التي توخاها من اغتالهم.
لكن الحدة في الصراع السياسي أخذت أشكالا لم تألفها الصيغة اللبنانية من قبل وسط جهل معظم المتصارعين بطبيعة هذه الصيغة ومدى الفوائد التي حققتها وتحققها لهم. فضلا عن قدرة تلك الصيغة على التحمّل.
شهد لبنان قبلا انقســاما سيــاسيــا مماثلا في العام 1957 بين حلــف بغداد الغربي والعروبة الممثلة بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر. انتهى الانقسام لصالح تسوية أقرب الى العروبة منها بسبب الشعبية التاريخية لزعامة عبد الناصر.
الصورة الآن مختلفة، إذ ان العروبة لولا ا لحاجة الى الاعتدال السعودي، صورة ديكتاتورية ظالمة، لا يريد أحد من اللبنانيين الانضمام اليها بما في ذلك جمهور «حزب الله» الذي يحدثونه يوميا عن أهمية استبدال الحرية بالعقيدة.
الحدث الثالث هو الانتخابات النيابية. لقد كان لقانون انتخابات العام 2000 الذي جرت الانتخابات الاخيرة على أساسه والطبيعة “الاستشهادية” التي رافقت الانتخابات، أسوأ الاثر على النتائج. إذ إنها كرّست لمدة أربع سنوات عدم قدرة الصيغة على حماية اللبنانيين من الشلل السياسي، الذي نعيشه حاليا.
اعتبرت الأكثرية أن ما حصلت عليه هو حقها ولا تساهل في أي من نتائجه. وتصرفت المعارضة على أن النظام السياسي الذي شاركت في صنعه، سُرق منها. فكانت النتيجة عند الطرفين هو التخلي عن الدولة والهجوم على الصيغة باعتبارها الوحيدة على قيد الحياة.
الحدث الرابع هو الاعتداء الإسرائيلي على لبنان في شهر تموز من العام الفائت. لا بد من الاعتراف هنا قبل تقرير فينوغراد وبعده بأن ما حدث في الجنوب اللبناني هو انتصار عسكري مشهود لحزب الله. إنما لا بد من التأكيد على ان هذا الانتصار سبّب شرخاً كبيراً في نظرة غالبية اللبنانيين الى دورهم في الصراع مع اسرائيل بعد انفرادهم فيه لسنوات طويلة. مرة بسبب الفلسطينيين، وأخرى بسبب السوريين وأخيرا بسبب الحزب. كبرت لديهم التساؤلات عما إذا كانوا وحدهم المعنيين بهذا الصراع، بمعنى انه لا دولة مواجهة غيرهم.
اجتمعت هذه الأحداث الأربعة لتصيب هدفا واحدا هو الصيغة اللبنانية في ظل انقراض المدافعين عنها.
البطريرك صفير رأس الكنيسة المارونية يعرف مزايا الصيغة جيدا ويبدي تخوفه الدائم من فقدان تماسكها. لكن التخوف أقصى ما يستطيع عمله وسط فقدان مراكز الثقل المسيحي لوزنها. رئاسة مدانة ومعطلة. زعامة لم تتعلم وأخرى لم تتغير. ولولا أشخاص مثل ميشال إده وجان عبيد لاحتاج المسيحيون الى من يعرّفهم على صيغتهم.
وليد جنبلاط ابن الصيغة البار، لم تعد الصيغة العجائبية تتسع لانتشاره وطموحاته. لكنها لا تزال رأسماله الأساسي السري الذي يحتفظ به في المختارة.
النائب سعد الحريري درس في الخارج وعمل في الخارج ايضا. لم يعرف بعد ما هي هذه الصيغة وإن كان معترفا بمرونتها، يشتعل قهرا من كل ما يتصل بمحاكمة من اغتال والده.
الرئيس نجيب ميقاتي يقترب من الصيغة على قاعدة “وسطيته” السياسية.
“حزب الله”، قرر الالتحاق مؤخرا بالنظام اللبناني لكن قياداته تتحدث عن قواعد الصيغة حديث اغتراب وليس حديث معرفة. إذ ما يهمها منها مدى تلبيتها لتحالفات الحزب السياسية في الخارج ولقدرتها على قبول السلاح. وحده الرئيس نبيه بري وجد مكانه في النظام والدولة والصيغة، يخرج من دُرْجه كل يوم ما يدعم حركته وينفذ مطالبه ويحمي موقعه، “طامعا” في معظم الأحيان.
لا تنقص الرئيس السنيورة القدرة أو الرغبة أو المعرفة للصيغة اللبنانية. لكن حدة الصراع تجعل “لاءه” تتغلب على مرونته.
ما نشهده هو ظهور تشققات خطيرة على الصيغة. قد تكون رئاسة الجمهورية المقبلة هي أول إعلانات النقاهة من واحدة من هذه التشققات. بعدها قانون انتخابات طبيعي يوازن بين الواقع وبين الرسالة التي أعطاها للبنان الصيغة أحد أشهر بابوات الفاتيكان “يوحنا بولس الثاني”.
لولا هذه الصيغة لما قلت ولا كتبت ولا عبّرت. أستنجـد كما سأفعل دائما.. صيغتكم هي حريتكم.