الإدانة عن بُعد..

مقالات 10 أبريل 2007 0

يغادر الرئيس الفرنسي جاك شيراك قصر الإليزيه في السادس من شهر أيار المقبل دون ان يحمل في يده وهو في الطريق الى منزله النسخة الأخيرة من قرار مجلس الأمن الدولي بإنشاء المحكمة الدولية المختصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري. تمتلكه الغصّة لا القلق.
الغصّة لأنه يريد ان يذهب الى منزله مرتاح الضمير، بأنه حقق لصديقه منذ 20 سنة، ما يستحق من عدالة دولية تحمي سياسة لبنان من الاعتداء على سلامة اتجاهها وعلى أمن رموزها في حال كان خيارها مخالفا للخيار السوري، وهو الاحتمال الدائم منذ سنتين حتى الآن. فيرفع بذلك عن أكتافه ولو جزئيا أعباء الضمانات التي عمل عليها للرئيس الشهيد ومعها الضمانات الاميركية التي لم تنفع كلتاها في رد القدر عن النهاية المجرمة للحريري.
لن يمر يوم على الرئيس الفرنسي حين يصبح سابقا دون ان يتابع عائلة الشهيد في مسألة المحكمة وفي الاحتضان العائلي لأرملة الرئيس الحريري وعائلته المقيمة في باريس.
في السادسة مساء كل يوم يتصل الرئيس شيراك أينما كان في فرنسا او في اي عاصمة عالمية، بمنزل الصديق رفيق الحريري في باريس ليطمئن الى احوال أرملته وأولادها. لا يترك مجالا سياسيا لسعد الحريري إلا ويكون الى جانبه. مناقشا. مستفهما. محتدا عندما يأتي الحديث الى المحكمة. واضعا الخريطة السياسية لحركة الدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي أمام أعينه. لافتا نظر سعد الحريري الى ما قد يكون قد خفي عنه.
لن يحمل قلقه معه الى منزله الشخصي، إذ أنه سيطمئن قبل السادس من أيار المقبل، ان لا عقبات أمام قرار مجلس الأمن الجديد بشأن المحكمة الا الوقت وهو ما لم يستطع ان يلزمه بتوقيت خروجه من الإليزيه.
يدرس الرئيس الفرنسي القيام بزيارتين قبل نهاية ولايته. الأولى الى موسكو والثانية الى بكين. إذ ان التحسب دائم لواحدة من العاصمتين باستعمال حق النقض الفيتو على قرار المحكمة حين تتقدم به الأمانة العامة للأمم المتحدة الى مجلس الأمن.
في العاصمة الروسية لن يكون من الصعب على الرئيس الفرنسي سماع ما يريده من الرئيس الروسي بشأن المحكمة. اذ ان هذه الزيارة ستكون تتمة لمحادثات سابقة وعد فيها الرئيس الروسي اكثر من جهة عربية ودولية بعدم استعمال حق النقض الفيتو والامتناع عن التصويت لو ظهر في الحسابات السياسية لقيصر الكرملين الشاب ان لا ضرورة لمماشاة الادارة الاميركية في اندفاعها نحو إقرار المحكمة.
لن يعدم الرئيس شيراك صيغة كلامية يعبّر فيها عن أهمية المحكمة لوقف الارهاب في المربع اللبناني السوري. ولن يترك حجة لاستعمالها في الآمال التي تعلقها الدول العربية الكبرى الداعمة للاعتدال على هذه المحكمة.
لكن الرئيس الفرنسي يعلم ان الرئيس الروسي يريد ان يساوم الادارة الاميركية على المحكمة كما فعل في المرة الأولى حين تم إقرار مبدأ انشاء المحكمة في مجلس الأمن.
تقدمت روسيا في كانون الأول 2006 بأحد عشر تعديلا على النظام الاساسي المقترح للمحكمة ذات الطابع الدولي. وصفت مصادر الأمانة العامة التعديلات الروسية بأن بعضها كان سهلا والبعض الآخر تطلب مجرد التوضيح ، اما الجزء الآخر فمثير للجدل . انتهت المفاوضات ببند واحد يمنع على هذه المحكمة، محاكمة رؤساء الدول.
البند الآخر كان موافقة الادارة الاميركية على مشاركة روسيا في اتفاق التجارة الدولي الذي يفتح الباب واسعا امام الصادرات الروسية الى أوروبا والولايات المتحدة. هذه المرة ستكون المفاوضات أصعب. إذ ان مجلس الأمن الدولي يناقش حاليا مسألة استقلال اقليم كوسوفو في يوغسلافيا. الصرب المنتمون ارثوذكسيا الى موسكو لا يريدون استقلال الاقليم الذي تقطنه أقلية صربية لا تتعدى عشرة بالمئة، مع خمسة عشر بالمئة من الكروات بينما بقية سكانه من المسلمين. غير ان التراث الارثوذكسي من كنائس ومزارات ومراكز تاريخية، موجود بغالبيته العظمى في الاقليم المسلم. إذ ان المسيحية انطلقت الى دول البلقان من الاقليم في القرن العاشر. بينما اعتنق الشعب الروسي الديني المسيحي في القرن الحادي عشر.
الرئيس بوتين يعلم انه لا بد من استقلال الاقليم، ولا يجد مخرجا مناسبا لمواجهة الضغوط الصربية الارثوذكسية إلا التأجيل، في الوقت الذي تدعم الادارة الاميركية والاتحاد الاوروبي استقلال الاقليم بأسرع وقت ممكن.
***
هل عند الرئيس شيراك إجابة على سؤال حاد ومثير للارتباك ان لم يكن للاشتباك مثل الأزمة الارثوذكسية مع الاقليم المسلم؟
مصادر دبلوماسية في الأمانة العامة للأمم المتحدة تستبعد ان يكون بمقدور الرئيس الفرنسي ايجاد حل لهذه الأزمة في الوقت القصير الذي يفصله عن نهاية ولايته الثانية. لكن المصادر نفسها تعتبر ان الرئيس شيراك يملك من الحنكة الدبلوماسية، فضلا عن علاقاته الوثيقة بالإدارة الاميركية، ما يجعله مؤهلا لتسريع تسوية ما بين موسكو وواشنطن حول كوسوفو لم تتحدد معالمها بعد. او على الأقل سينجح في تحييد المحكمة الدولية عن الصراع الدائر في البلقان بين القيادتين الروسية والأميركية.
البند الثاني في الحوار الفرنسي الروسي هو ان روسيا تريد استنفاد المساعي العربية والدولية الساعية الى اقرار دستوري لبناني للمحكمة قبل اعتمادها في جدول أعمال مجلس الأمن. وهنا سينجح الرئيس شيراك بشرح التفاصيل المملة للمحاولات العربية والأوروبية والتي لم تحقق نتيجة حتى الآن، مما استدعى ان يرسل فريق 14 آذار عريضة موقعة من 70 نائبا الى الأمين العام للأمم المتحدة يعلنون فيها عجزهم عن إقرار المحكمة في المؤسسات الدستورية اللبنانية مطالبين بإقرارها في مجلس الأمن الدولي.
البند الثالث عند الرئيس الروسي هو التأكد من ان الصياغة القانونية للمحكمة الدولية لا يمكن اعتمادها كسابقة دولية، اذا ما خطر لأحد القادة الشيشان المعارضين ان يعتبر ما جرى بحقه او بحق جمهوريته هو جريمة ارهابية لا بد من محكمة دولية للنظر فيها.
هذا البند هو المشترك مع الصين التي لا تريد لشعب التيبت المطالب باستقلاله ان يستغل المصادمات التي حصلت مع الجيش الصيني للمطالبة بمحكمة مماثلة باعتبار هذه الأحداث ممارسة للارهاب على شعب التيب .
لذلك عبّرت مصادر أوروبية دبلوماسية عالية المستوى عن رضاها لعودة قانون انشاء المحكمة الدولية الى طاولة مجلس الأمن. اذ ان تعديلها هناك بما يناسب تحقيق الأمان لمرتكبي الجرائم الممكن اعتبارها ارهابية في واشنطن وموسكو وبكين، أصبح أسهل من حصوله في المؤسسات الدستورية اللبنانية.
***
مرة اخرى يجد جمهور رفيق الحريري اللبناني نفسه محاطا بتعقيدات دولية تؤخّر، وإن كانت لا تمنع، قيام المحكمة الدولية التي أصبحت عنوانا لحركة التغيير في التاريخ اللبناني بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط من العام ,2005 وانسحاب الجيش السوري من لبنان بعد شهرين من العام نفسه.
لن يتغير عن هذا الجمهور شيء. فلقد اعتاد اللبنانيون منذ سنتين وحتى اليوم ان قدرهم هو اجتياز العقبات، بحيث بدا الكلام منذ الاستقلال اللبناني عن الحجم السياسي للبنان بما يفوق بكثير حجمه الجغرافي وتعداده السكاني. بدت هذه الأوصاف حقيقة مكلفة.
ذهب سعد الحريري الى القاهرة منذ شهر فوجد لدى الرئيس المصري حضورا ومتابعة للمسألة اللبنانية أكبر من الشائع. كانت وجهة نظر الرئيس حسني مبارك حاسمة في مسألة قيام المحكمة ذات الطابع الدولي سواء وافقت سوريا عليها أم لم توافق. استغرب الرئيس مبارك الربط بين توسيع الحكومة اللبنانية وبين موافقة حلفاء سوريا اللبنانيين على المحكمة. اذ انه لم يجد رابطا بين الاثنين. قيام المحكمة يتعلق بالأمن السياسي في المنطقة العربية، بينما توسيع الحكومة تحت شعار الثلث الضامن لا يمكن فهمه الا بأنه شرط لتعطيل قيام المحكمة.
طلب الرئيس مبارك من ضيفه اللبناني ان لا يترك العنان لقلقه. فهو لن يتوقف عن الاتصال بالرئيس السوري ولا السعي معه الى صيغة تعيد الحضور السوري الى السياسة العربية كما كان. ولكن بصرف النظر عن نتائج مسعاه، فإن المحكمة الدولية ستقوم في أقرب فرصة ممكنة.
عاد سعد الحريري مطمئنا الى بيروت. ليستمر في حواره مع الرئيس نبيه بري. يأتيه الموعد الذي كان قد طلبه للقاء رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان. فيذهب الى اسطنبول. وضع الإثنان خريطة المنطقة التي توضح ان ليس لتركيا من خيار تجنب الجغرافيا التي تحيط بها. فتولى الحريري هنا الشرح والتحديد للحقائق وللأدوار التي تفرضها الجغرافيا. كان الرئيس أردوغان واضحا في تصوره لحركته السياسية التي حددها كالتالي:
أولا: تركيا معنية بشكل استراتيجي بالأمن في منطقة الشرق الأوسط. وهو يعوّل كثيرا على العلاقات التركية العربية التي توثقت بأسرع ما يمكن مع السعودية ودول الخليج ومصر أيضا.
ثانيا: أردوغان يعتبر ان علاقاته مع سوريا وإيران جيدة حتى الآن. وهو يسعى في لقاءاته مع المسؤولين السوريين والإيرانيين الى حثّهم على تجنب التوتر مع المجتمع الدولي. ويؤكد رئيس الوزراء التركي ان لتركيا مصالح أمنية وسياسية مع الجارين الايراني والسوري. لكن هذا لن يمنعه من بذل كل جهد ممكن خلال لقائه مع الرئيس الأسد (اجتمعا في حلب) للتفاهم معه على امكانية صياغة التعديلات النهائية لقانون انشاء المحكمة. وكان الأسد قد أرسل الى أردوغان تعديلات على بندي مسؤولية الرئيس عن المرؤوس وترابط الجرائم بعد زيارة سابقة لأردوغان الى دمشق.
ثالثا: بدا واضحا من اشارات في حديث الرئيس أردوغان ان الادارة الاميركية لم تقم بالطلب مباشرة او حتى بالواسطة من تركيا القيام بهذا الدور. بل ان رئيس الوزراء التركي يتصرف من موقع أمن المنطقة المحيطة به من جهة، وبسبب صداقته بالرئيس رفيق الحريري من جهة أخرى.
لم تظهر حتى الأمس نتائج الاجتماع الأخير لأردوغان بالأسد في مدينة حلب السورية.
***
مرة اخرى يستمر الحوار بين رئيس المجلس النيابي وزعيم كتلة تيار المستقبل.
تأتي انجيلا ميركل المستشارة الألمانية الجديدة الى بيروت بعد زيارتها الى السعودية. امرأة في الخمسينات من عمرها. بدأت حياتها كنادلة في مقهى في برلين الشرقية الواقعة تحت الحكم الشيوعي. وجدت في وحدة ألمانيا فرصة لتتقدم في موقعها السياسي الى المنصب الأول في بلدها. لا يوحي منظرها الخارجي بما وصلت إليه استنادا الى قدراتها الذاتية. تذهب الى ضريح الرئيس الشهيد رفيق الحريري لتجد وريثه السياسي سعد هناك. دقائق من اللقاء، جعلتها تفصح عن خريطتها السياسية اللبنانية. قالت للحريري الإبن انها تعرف مدى العلاقة الوثيقة التي تربطه بالرئيس شيراك. ولكنها تؤكد له انه سيجد لديها كل العون السياسي المطلوب سواء في رئاستها للاتحاد الأوروبي التي تستمر لأشهر فقط او في مكتبها في برلين العاصمة المرشحة للعب الدور الأول في أوروباك في المرحلة المقبلة.
لم تكن حماسة المستشارة الألمانية عامة فقط، بل إنها وجدت في موقع الضريح مناسبة لتؤكد وقوف دولتها الى جانب قيام المحكمة الدولية ولو اقتضى الأمر الذهاب الى مجلس الأمن الدولي لاقرارها بموجب الفصل السابع من قانون الأمم المتحدة.
تجنبت المستشارة الألمانية الإفصاح عما سمعته في السعودية للحريري. لكنها ألمحت على طاولة رئيس مجلس الوزراء انها سمعت تشجيعا سعوديا لقيام المحكمة الدولية في مجلس الأمن الدولي بموجب الفصل السابع.
ليس هذا مستغربا على الادارة السياسية السعودية. ففي الوقت الذي تستمر فيه جهود السفير السعودي في بيروت الدكتور عبد العزيز خوجة في دعم الحوار الداخلي، بحيث بدا السفير خوجة وكأنه وحده الحالم بالحوار. فتحت الدبلوماسية السعودية بابا آخر للضغط على وسائل إنجاح الحوار وأولها وأهمها سوريا، التي يفترض انها معنية بإبعاد الفصل السابع عن صورتها السياسية.
إذ ان دبلوماسيا عربيا في القاهرة نقل عن الأمير سعود الفيصل، ان الرئيس السوري أبدى خلال اجتماعه بوزير الخارجية السعودي عدم استعداده للتعاون في موضوع المحكمة وأن سوريا ليست مستعدة للتضحية بالهرم الأمني السوري تحت اي ظرف من الظروف فكيف اذا كان هذا الظرف اسمه المحكمة الدولية التي ترى سوريا أن الادارة الاميركية تريد استعمالها لمحاصرة السياسة السورية. بالطبع توسع الرئيس السوري في الحديث عن بدايات انهيار السياسة الاميركية في المنطقة بعد الاحتلال الاميركي للعراق، الذي يجعل سوريا غير معنية بشؤون المحكمة الدولية. وكل ما تستطيع تقديمه هو محاكمة اي مسؤول تدينه المحكمة أمام القضاء السوري، على الأراضي السورية ووفق القانون السوري. الدبلوماسي العربي نفسه أكد ان المحادثات التي أجراها الرئيس السوري مع العاهل السعودي بحضور الأمير الفيصل لم تتطرق الى مسألة المحكمة الدولية. من هنا وجدت الادارة السياسية السعودية ان خياراتها محدودة، وليس أمامها غير البحث عن بدائل في عنوان الفصل السابع للمحكمة، علّ ذلك يجعل الرئيس السوري يعيد النظر في قراره. فكان تشجيع المستشارة الألمانية على الخيار الدولي للمحكمة. مع العلم ان ميركل لم تحدد الشخصية السعودية التي شجعتها.
***
يقف الرئيس شيراك على بوابة الخروج من الإليزيه ليبدأ الأمين العام الجديد للأمم المتحدة بان كي مون مهامه وسط حقل الألغام اللبناني العراقي الفلسطيني الاسرائيلي الايراني.
بان كي مون الدبلوماسي الكوري الجنوبي المحترف. المتدرج على سلم المناصب الدبلوماسية قبل ان يصبح وزيرا لخارجية بلاده قبل ثلاث سنوات، ثم أمينا عاما للأمم المتحدة منذ أشهر قليلة، اعترف بان أمام جنود الأمم المتحدة في الجنوب أنه خدم برتبة رقيب في جيش بلاده ولكن بما أنه أصبح “Secretary general” فباستطاعتهم مناداته بالجنرال.
في كل دول المنطقة التي زارها وهي السعودية، حيث عقدت القمة العربية، ومصر وإسرائيل والضفة الغربية والأردن أكد بان على ان الأمم المتحدة لاعب رئيسي وترك المسؤولين من حوله يتداولون أرقام قرارات الأمم المتحدة دون حاجة لشرحها. وحرص كما فعل منذ انتخابه على عدم الاستخفاف بسحنته الآسيوية.
لذلك أكد الرئيس بري على الانتباه لمدى احتراف هذا المسؤول الدولي الجديد. صحيح أن سحنته وتهذيبه الشديد الآسيويين لا يجعلان لحضوره أثرا منذ اللحظة الأولى. لكنه حين يتكلم تظهر شخصيته المحترفة. الدقيقة. الملمّة بكل الملفات دون استثناء.
كانت مهمته سهلة في بيروت مع الرئيسين بري والسنيورة. الثاني حدد معه تفاصيل إحالة المحكمة على مجلس الأمن الدولي بموجب الفصل السابع. غير ان الأمين العام يريد للأمر ان يتم على مراحل. الأولى هي العريضة النيابية. الثانية هي زيارته الى دمشق في الخامس والعشرين من الشهر الحالي. الثالثة هي زيارة موفد عنه الى بيروت قبل نهاية الشهر للاستماع الى ما استجد من مواقف عند كل الاطراف. بعد ان يكون الحزب قد نشر تعديلاته. الرابعة هي رسالة الحكومة اللبنانية التي لا يستطيع دونها الأمين العام التوجه الى مجلس الأمن الدولي.
المترجم الحقيقي لهذا الملف هو نيكولا ميشال مساعد الأمين العام للشؤون القانونية الذي بسّط الأمر الى درجة عرض إبدال الاتفاقية بين الأمم المتحدة والحكومة اللبنانية المرفقة بقانون إنشاء المحكمة برسالة من الأمانة العامة توضح استحالة التصويت عليها في المؤسسات الدستورية اللبنانية استنادا الى ما جاء في العريضة النيابية ورسالة رئيس الحكومة اللبنانية.
تمهل الأمين العام وقال إنه لن يُقدم على عرض الموضوع على مجلس الأمن قبل زيارته المقبلة الى دمشق.
أما مع الرئيس بري فكان بان مستوضحا عن سبب اغلاق قاعة الجلسات امام النواب في المجلس. فرد الرئيس بري شارحاً حجم الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد، والناتجة عن شعور جزء أساسي من الشعب اللبناني بتجاهل وجوده السياسي. مؤكدا على انه يعتمد الحوار مفتاحا لفتح كل الأبواب المغلقة سياسياً.
***
زوار دمشق هذه الأيام يستغربون توقع التغيير في الموقف السوري. إذ ان هذا التغيير لم يكن واردا قبل الانفتاح الدولي على دمشق فكيف بعد تدفق المسؤولين الأوروبيين وأعضاء الكونغرس الاميركي مع رئيستهم الى العاصمة السورية.
يضيف هؤلاء الزوار ان ما نسب الى نيكولا ميشال المسؤول القانوني في الأمم المتحدة عن اجتماعاته مع المندوب السوري في الأمم المتحدة ومع ممثلي مكتب المحاماة الانكليزي الذي أوكلته الحكومة السورية، ما نسب الى ميشال صحيح ولكنه غير ملزم لسوريا، بل انه يأتي تحت باب الاطلاع كما يعلم المسؤول القانوني في الأمم المتحدة.
ينقل الزوار عن اللقاء بين خافيير سولانا مسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد الاوروبي والرئيس الأسد. ان المسؤول الأوروبي المخضرم حاول الإيحاء بأنه يحمل هدية الى سوريا هي الانضمام الى اتفاقية الشراكة مع اوروبا، فإذا بالرئيس الأسد يجيبه ان هذا الملف مفتوح منذ العام 1999 ولم يتم التوقيع عليه. فهل تأثرت سوريا؟ ما حصل هو العكس، هناك استثمارات عربية ودولية كثيرة تأتي الى سوريا دون المرور بمعاهدة التجارة الأوروبية. لكن حديث الرئيس السوري مع اعضاء الكونغرس الاميركيين الذين التقوه أخذ منحى آخر. فقد نقل عن لسان الدكتور حمزة الخولي رجل الأعمال السعودي المصري الذي اصطحب مجموعة من اعضاء الكونغرس بطائرته الخاصة الى دمشق، ثم بيروت. نقل عنه تفاؤله بإمكانية تقدم الحوار الأميركي السوري.
لم يفصح الخولي الى ماذا يستند في تفاؤله، ولا لدوره في نقل اعضاء الكونغرس الى العاصمتين السورية واللبنانية.
المهم ان الرئيس السوري وجد ان التوجه نحو اسرائيل ولو كلاميا بإعلان قبول التفاوض مع الحكومة الاسرائيلية، هو الذي يفتح الأذن التشريعية الاميركية على الاستماع الى وجهة النظر السورية. بالفعل أثار كلامه مجموعة من التصريحات الأميركية التي لا توصل الى نتائج محددة ولكنها تعبّر عن الاستعداد السوري البسيط وربما البريء للتعامل مع الادارة الاميركية وللانفتاح على الحكومة الاسرائيلية.
***
هل كان ممكناً وسط كل هذه الأجواء ان يستمر الحوار؟
كل الأطراف المعنية دوليا وعربيا ولبنانيا تريد ان تستنفد وسائل اللحظة الأخيرة لظهور الموافقة السورية على الحوار اللبناني. لكن لا أحد من هذه الأطراف يثق للحظة واحدة بإمكانية الوصول الى نتيجة محددة غير وصف النائب سعد الحريري للحوار بأنه تعبير عن سياسة كسب الوقت.
كل الأطراف المعنية عربيا ودوليا ولبنانيا تتفهم ما قام به وليد جنبلاط في مجلس النواب، حين أعلن ان قاعات المجلس هي المكان الطبيعي للحوار. لكن لا أحد من هذه الأطراف يوافق على الأسلوب الذي اتبعه جنبلاط لإعلان موقفه. استعجل جنبلاط على عادته القلق قبل ان يأتيه. وافترض ان الدخول في مرحلة تسميته أسماء الوزراء بين بري والحريري ولو كانوا من المحايدين يعني القبول بمبدأ الثلث المعطل قبل معرفة التعديلات المقترحة على المحكمة. أخذ صورة المسعى السعودي بطريقه. ثم اكتملت الصورة بالسفير خوجة يزور النائب الحريري والرئيس السنيورة قبل تسليم العريضة النيابية الى ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في بيروت غير بيدرسون. فكان لا بد من إصدار بيان محترف عن النائب الحريري وضع فيه نفسه تحت السقف السعودي الراعي لاعلان الاتفاق وضمان حسن تنفيذه. معلنا التزامه المطلق بالموقف الرسمي السعودي الذي يمثله السفير عبد العزيز خوجة. سعيا نحو حل شامل .
كان زعيم تيار المستقبل بحاجة لهذا البيان الذي وضعه في مصاف الملتزمين بالموقف الرسمي السعودي، بعد ان رتّبت الأزمة السياسية الأخيرة تساؤلات عن مدى الإحاطة السعودية بما يجري من تطورات سياسية..
رد الرئيس بري وليّ الحلم بالحوار في مقابلة تلفزيونية وجّه فيها رسائل أربعا. الرسالة الأولى الى السعودية مقدرا دورها وسعيها ورغبتها بالاستقرار في لبنان. ممتدحا دور السفير السعودي في بيروت. مناشدا العاهل السعودي بما يستحق من صفات، ومتمسكا برعاية سعودية في الرياض للمتحاورين. الثانية الى دمشق حين قدم لها الرئيس فؤاد السنيورة بأقسى ما يمكن من مواصفات وبحدة ليست مؤكدة وقائعها. الرسالة الثالثة الى اللبنانيين بالتأكيد على استمرار الحوار محملا الصقور مسؤولية اجهاضه المؤقت. الرسالة الرابعة الى المدافعين عن اتفاق الطائف بأنه أولهم وأكثرهم تمسكا به.
لم يحسب الرئيس بري ان الأمين العام ل حزب الله السيد حسن نصر الله سيكمل على مبادرته والمسعى السعودي سوياً. حين نصّب نفسه قاضيا أول من أمس معلنا براءة الضباط الأربعة الموقوفين في قضية اغتيال الرئيس الحريري، ومطالبا بإطلاق سراحهم باعتبارهم سجناء سياسيين. مستعملا تعابير وردت في مذكرة محامي واحد من الضباط الموقوفين.
لم يلاحظ السيد نصر الله، انه بحديثه هذا يلزم نفسه وجمهوره بحساسية الاقتراب من قضية اغتيال الحريري. في الوقت الذي يكرر فيه النائب الحريري ان لا علاقة ل حزب الله بعملية الاغتيال.
الملاحظة الثانية ان القضاة الذين اشتكى السيد نصر الله من خوفهم السياسي، معروفون بعكس ذلك تماما. وأن لهم من السمعة المهنية ما يحمي تصرفهم القضائي البحت باعتراف كل الجهات التي تتعامل معهم.
سألت كبيرهم وأكثرهم التزاما بالنصوص القانونية منذ سنة عن رأي ضميره لا أوراقه بما طرأ على توقيف الضباط الأربعة، فأجابني ان ضميره مرتاح للإجراءات التي اتخذها. ولو كان غير ذلك لما استطاع النظر في عيني ابنته المحامية صباح كل يوم.
الملاحظة الثالثة تتعلق بالتعديلات المفترضة للحزب على قانون إنشاء المحكمة. فمهما كانت طبيعتها، ليس جائزاً اعتبارها ورقة سياسية سرية لا يحق لعموم اللبنانيين مناقشتها. إذ ان عنوان المحكمة يعتبر من العناوين المصيرية للحياة السياسية اللبنانية فضلا عن عمقها الدولي فكيف ينتظر السيد نصر الله قبول اللبنانيين بسرية مصيرهم.
***
اعتبر الرئيس بري قبل حديثه التلفزيوني وبعده انه عبّر عن رؤيته للوضع اللبناني باعتماد الحوار وسيلة للتفاهم. وأنه تجاوز قدرته حين قرر الاعتماد على حدسه السياسي بدل الوقائع الأكيدة. وضع خلفه كل الكلام الذي يقال عن هوية مبادرته حين طلب الى الأمين العام للأمم المتحدة مشاركة مستشاره القانوني نيكولا ميشال في مؤتمر الحوار. كذلك سعد الحريري الذي لا يقدر على الدفاع عن حواره ما لم يكن مطمئنا الى معرفته بالتعديلات المقترحة على قانون انشاء المحكمة. وما لم يكن ضامنا لتوقيع رئيس الجمهورية الذي يعتبره توقيعاً سورياً على مرسومي توسيع الحكومة وقانون انشاء المحكمة. في الوقت الذي لا يستطيع معه ضمان الوقائع السياسية المستجدة على المنطقة. ولا ضمان مشاعر القلق التي تنتابه كلما مر يوم عليه، لا يرى فيه المحكمة حقيقة أمام ضميره.
ذهبت المحكمة الى الشرعية الدولية. ودخل لبنان مرحلة الحصار. بعد سوريا طبعا. لبنان من الداخل وسوريا من الخارج… بانتظار انقشاع الضباب في البحر الأميركي الايراني.