الأباتي

مقالات 14 ديسمبر 2005 0

كيف للسنوات ان تمر عليكما طويلاً ولا تبتعدان عن بعضكما البعض، كلما التقيتما تتحدثان عن الأمس وكأن السنوات لا تأخذكما بطريقها.
أنت تتغيّر. هو على حاله، حاد. متهور. صديق. لا تتسع له الحياة. لا يترك منبراً يعتب عليه. لا يترك ساحة للسياسة لا يطأها بعقله.
تلبسه الحداثة كأنه وُلد معها. يسبق العصر كأن لا وقت لديه للانتظار. يذهب الى الأبعد ويعود معه ابتسامته كأن الأبعد مركز لتوزيع الابتسامات.
وتر من العصب لا ينحني. لا يعزف الا ما يحب سماعه، يذهب نحو جمهوره مباشرة معارضا. مقاتلا، مخطئا. صائبا. لا يهمه شكل وقفته طالما انها منتصبة.
مستعجل على كل الأدوار. حتى الموت شهيداً. يأخذك بالحوار الى حيث يقف هو او لا يتزحزح من مكانه.
كيف لا يفعل وهو يقف على الصفحة الأولى من واحد من آخر حصون الحرية في لبنان. “النهار” الأكثر تجربة في معارك الحريات. الأكثر حضوراً في عصب الحياة السياسية اللبنانية. الأكثر صراخاً للإشارة الى حيث المستقبل الحر.
على كتفه شيبة الشيخ الجليل. يختزن في ثنايا شعره الأبيض جزءاً كبيراً من تاريخ البلد. ويختزن أكثر رغبته في حرية مواطنيه أحياءً قبل كل شيء.
كبيرنا وأستاذنا وجليلنا غسان التويني. بوصلة الصحافة العربية منذ نصف قرن، يقف في الكنيسة يتقبل التعازي منحنياً من ثقل التاريخ. بابنه. شهيده قبل الجميع. آخر عضلات قلبه النابض بالحرية.
استعجل جبران الشهادة كما يستعجل كل شيء. لن يغيّر قدره في الساعة الأخيرة. اعتقد ان التعاويذ الدينية وفوقها الديك المنتشرة في كل جيوبه وعلى صدره ويده وما لا يُرى من جسده كافية لحمايته من قرار “الغدر” المأخوذ بحقه.
“الأباتي” لقبه عندي منذ 25 سنة. حين يسمعه يعلم ان الرسالة مني بالفعل. عشير السنوات الطوال من العمل والسفر والمرح. تبدأ حديثك معه واقفاً. ينتهي الحديث وأنت أكثر وقوفاً.
كم من السهل إيجاد مفردات الخصومة معه. كم من الأسهل وجوده صديقا كما الأمس بعد سنوات من الغياب. لا تستطيع ان تقارب حبّ الحياة معه. هو دائما قبلك مهما جرّبت. ومهما حاولت.
ترى هل هذه الصفات لازمة للشهادة؟
سألت جليلنا غسان يوم تشييع العزيز الشهيد سمير قصير. لماذا اخترت نايلة بنت جبران ابن غسان ابن جبران لتلقي كلمة “النهار” في الكنيسة. أجابني وكأنه اسطورة بيزنطية. يهددون جبران بالقتل. أردت ان افهمهم ان “النهار” مستمرة مع نايلة. كانت نايلة تقف في صالون الكنيسة تتقبل العزاء بأعز ما للإبنة من قربى. والدها. شجاعة، نضرة، تتحدث عن شهادة والدها، إنها شجاعة المستقبل وليست نهاية العمل من أجل الحرية. تخاطب شباب لبنان. تقول لهم انا معكم. انا منكم. لا تتركوني ضحية نظام “القتل فوق كل اعتبار”. أنا معكم. ادمون صعب معكم. فرنسوا صعب معكم. سركيس نعوم. الياس الديري. وغيرهم وغيرهم من المسكونين بعفريت حرية لبنان.
العزيزة نايلة. أخجلتني في كلمتك في تشييع سمير قصير. أيقظت الثورة التي في القلوب. هذه المرة أخجلني “الأباتي” جبران. استعجل شهادته. لكنه لم يأخذ معه الحرية. عنواننا جميعا…