احتفال اقامة نصب تذكاري للعميد ريمون اده في جبيل: كم كنت على حق يا عميد الوطنية

كلمات 09 سبتمبر 2015 0

لو لم يكن ريمون إدة من جبيل لوجب على المدينة أن  تتبناه وأن تمنحه الإنتماء اليها، مسقِطاً للرأس ومرتعاً للأحلام والهوى

فجبيل التي تخصص بلديتُها إحدى أحلى جاداتها لتحمل إسم المحتفى به واقامة نصب تذكاري له هي لبنان العميق الذي يعود الى أكثر من سبعة الاف سنة. لبنان الاول. البذرة المباركة للتجربة الحضارية والثقافية. للرسالة التي اسمها لبنان.

والعميد هو من طينة هذه البذرة. تحمل تجربته المعنى العميق “للبنانوية” كإنتماء وهوية وتجربة ورسالة، والتي ظل العميد أميناً لها حتى الرمق الاخير من حياته.

وهو والمدينة صنوان. هي المصنفة “ثروة ثقافية إنسانية” من قِبل الأونسكو، وهو المصنف “ثروة ثقافية وانسانية” من قبل كل لبناني يتطلع الى المعاني النبيلة التي مثلتها تجربة ريمون إدة.  المحامي اللامع الذي انحاز دوماً الى قيم العدالة وحكم القانون، والنائب المشرّع الذي ندين له بمعظم ما هو حديث وليبرالي في التجربة التشريعية اللبنانية، والسياسي الوطني المناضل لا ينازعه أحد في صلابة الانتماء الى لبنان وسيادته وحريته واستقلاله.

يحار المرء من أين يبدأ معك يا حضرة العميد أمن السطر الاول، للطفل المولود في المنفى في الاسكندرية بتهمة إنتماء عائلته لوطنية لبنانية صلبة، أم من السطر الأخير “للشهيد”” نعم الشهيد في المنفى الباريسي بالتهمة نفسها، التي هي ارث عائلته!! فأي قدر هذا الذي يولد المرء فيه منفياً ويموت منفياً، يسكنه وطن مستحيل ووطنية ممنوعة؟

“هنا يرقد ريمون إدة الذي كان على حق”. إخترت هذه الجملة لتُكتب على ضريحك، وها أنا اعترف أمام ذكراك وفي حضرة روحك النبيلة: كم كنت على حق.

كم كنت على حق، حين رفضت بعناد إتفاق القاهرة عام ١٩٦٩، وهو الاتفاق الذي شرّع البلاد أمام تجربة السلاح الفلسطيني، وأنا من جيل ينتمي الى هذه الخطيئة بحق لبنان واللبنانيين.

كم نحتاج صلابتك ورؤيويتك لتهدئة أهل السلاح اليوم. ما يستخدم منه في حرائق الاقليم لا سيما في سوريا وما يستخدم وهجه في الداخل لتعطيل الدولة وأخذها رهينة، من دون اي رفة جفن حيال كل الانهيار الحاصل الآن!

كم كنت على حق، وأنا اللبنانيُ البيروتيُ السنيُ الحريريُ، كم كنت على حق يوم حذّرت من تحويل إتفاق الطائف الى وسيلة لأسر لبنان في قبضة الوصاية السورية فرفضت الدعوة الى المشاركة في اعمال النواب اللبنانيين في مدينة الطائف في ايلول ١٩٨٩.

لم يكن رفضك للمشاركة في مداولات الطائف يومها نابعاً من رغبتك في استمرار الحرب، او لاوهام واطماع شخصية، ولا حقداً على الشركاء في الوطن او تنصلاً من الشراكة وأنت سليل البيت الذي رشح الشيخ محمد الجسر، المسلم السني، لانتخابات رئاسة الجمهورية عام 1932 تجسيداً لتلك الشراكة.
لكن عزَّ على لبنانيتك أن يرضخ نواب الامة لموجبات الامر الواقع وميزان القوة ويقبلوا بصياغات حول تنظيم للعلاقات اللبنانية – السورية تنتهك سيادة لبنان.
نعتذر منك الآن لأن أحلامك كانت أكبر من طاقة اللبنانيين على الاحتمال.
كم كنت على حق، وكم كان مؤلماً لنا هذا الاكتشاف ظهيرة الرابع عشر من شباط ٢٠٠٥ حين انفجرت كل سبل التعايش مع النظام القاتل في موكب الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي احب لبنان بقدر ما أحببت.

وإذا كانت الواقعية في هذه البقعة من الارض هي ما تصنع السياسة ودوامها وتبنى الاوطان على علاتها والدول على ضعفها وهشاشتها، فإن الحالمين مثلك هم من يصونون وجدان الامم ويفتحون روحها على أفاق المجد. وأحسب أن ما زرعته يا ايها العميد اده في وعي اللبنانين ووجدانهم وعقلهم هو الخميرة التي دفعتهم للثورة في الرابع عشر من آذار ٢٠٠٥، فكانوا ثواراً في مدرستك التي أُسست على صخر الصلابة والايمان بلبنان.

كم كنت على حق وكم نحتاج الى وطنيتك اليوم التي ما غادرت يوماً قواعد الشراكة ولا غلبت الاحقاد على التسوية في أزمنة المحن وما أكثرها في أيامك وأيامنا.

تحملني الذاكرة عشر سنوات الى الوراء، يوم كرمت الجامعة اليسوعية المحتفى به، وكان لا يزال بيننا كاهن النهار الراحل غسان تويني الذي ارتجل يومها مداخلة استعاد فيها من ارشيفه جملة حوادث واخبار اروي منها اثنتين اليوم. روى تويني يومها أنه كان في طليعة من حاولوا ثني العميد اده عن الترشح ضد اللواء فؤاد شهاب في الانتخابات الرئاسية في العام 1958، مشددا على ضرورة أن يكون إنتخاب شهاب بالإجماع. فما كان من إده الا أن رد على تويني ساخراً “يا عيني عليك شو بتفهم بالديموقراطية” وأوضح له أنه على يقين من فوز شهاب لكنه يترشح حتى يثبت في المحيط العسكريتاري العربي، ان قائد الجيش اللبناني يترشح في المجلس بدل القيام بانقلاب، وان ثمة نواباً لا تزال لهم حرية الاقتراع ضد ترشيحه، ولو كانت ثمة أكثرية تؤيد هذا الترشيح الذي جاء وليد توافق دولي – اقليمي”.

البقية تعرفونها. ولمن لا يعرف لم ينل الرئيس شهاب الاكثرية النيابية المطلوبة في الدورة الأولى، وأجريت دورة اقتراع ثانية فاز بنتيجتها اللواء شهاب بأكثرية النصف زائداً واحداً وليس بأكثرية الثلثين.

هذا الموقف لم يمنع اده من السعي لدى الرئيس شهاب بمبادرة انقاذية تجاوز فيها الخلاف مع الرئيس، والخلاف الاعمق مع الشهابية التي لطالما اعتبوها ادة امتدادا للكتلة الدستورية التي ناصبت والده اميل ادة خصومة سياسية قاسية.

تجاوز العميد ريمون اده كل ذلك حين تعثر تأليف الحكومة الشهابية الأولى وقيام “الثورة المضادة” بقيادة الكتائب اللبنانية آنذاك. يروي تويني ان ادة اتصل بالرئيس شهاب مساء وقال له انه قادم الى الاجتماع به لانه “عنده حل” للأزمة الحكومية. وبالفعل عرض عليه حلاً على قاعدة تشكيل حكومة رباعية مبدياً استعداده للمشاركة فيها كوزير للداخلية. وكانت عبقرية الحل التي تنم عن رحابة الفكر والممارسة الديموقراطيين عند العميد إده اقتراحه أن يكون الوزير الماروني الثاني بيار الجميل وان يبقى في رئاسة الحكومة الرئيس المكلف رشيد كرامي ويضاف اليه وزير مسلم آخر هو الحاج حسين العويني. وكان ما اقترحه اده درساً في دروس الانقاذ الوطني التي أحوج ما نكون اليها اليوم.

حين نكرّم العميد ريمون إده، فإننا نكرم الجميل فينا. وحين نستعيده نستعيد النقي في بياض سيرتنا. وحين نمر على درب ذكراك فنحن كمن يتلو فعل الندامة على مذبحك.

كم كنت على حق يا عميد الوطنية. كم ستظل على حق.

عشتم، عاشت جبيل وعاش لبنان