إيران بين صانع السجاد وبائعه (2): المشروع يتقدم.. الآخرون يعدّون قُطب السجادة!!

بقلمه 19 مارس 2018 0

نهاد المشنوق – السفير، 26-9-2005

في اللغة الفرنسية رواية شفهية عنوانها »بائع السجاد«، تتحدث عنه وكأنه بائع أحلام. يدخل إليه الزبون فيعرض له ما لديه من سجاداته ولكل منها رواية، أصل وفصل: منها الشاب، منها العجوز، منها النادر، منها المتداول. يفتح له السجاد كمن يفتح أوراق دفتر. لا يكلّ. لا يملّ. يحكي للزبون عن الأمهات اللواتي عملن على السجادة لسنوات وأنهينها بطريقة مختلفة عما بدأن به. أردن توقيعاً مختلفاً.
يفتح سجادة أخرى يتحدث عن نبلها، كم عاشت في قصور أمراء وملوك قبل أن تصل إليه.
يخبره عن سجاد القبائل، الفرق بينه وبين سجاد المدن، كلاهما فيه النادر والثمين.
يتحدث عن الأسعار، تبدأ عالية، تنخفض من أجل الزبون: »السجادة التي تسأل عنها أمانة عندي، أصحابها يريدون بيعها بسبب ضيق اليد«.
يتردد الزبون، يفتح له سجادة أخرى: هذه نادرة ألوانها من الطبيعة، كل لون فيها يأتي من زهرة. يتراجع الزبون للنظر إليها من بعيد، يخاف أن يطلب منه بائع السجاد أن يشم رائحة الورود فيها.
»خذها، جرّبها في منزلك، تراها هناك أجمل. قرّر على راحتك، خذ وقتك«.
كم ثمنها؟ يسأل الزبون، يأتيه الجواب عندما تقرر نتحدث في الأسعار.
يخرج الزبون من الدكان دون أن يقرر، ازداد ضياعاً، لكن البائع استطاع أن يقنعه بأن في دكانه ما يريد من سجاد.
يدخل زبون آخر، تتكرر الرواية، مع إضافات وتحسينات، كل زبون له روايته الخاصة.
يعود الزبون الأول بعد أيام، يختار ما يناسبه، يحمل السجاد إلى منزله، مقتنعاً بأنه حقق صفقة رابحة. يحدّث زوجته عن مهارته في اختيار السجاد وشطارته في شرائها بأفضل الأسعار.
هذه هي الرواية الفرنسية التي ترمز إلى قدرة بائع السجاد على رواية الأحلام شعراً إلى القبائل، زيارة إلى المدن، حديثاً عن أنواع الورد، أشكال الأمهات. تؤكد الرواية أيضاً على قدرة بائع السجاد على بيع الأحلام.
لتاجر السجاد سياسة أخرى في الشراء من زبون يريد بيع سجادته أو استبدالها، يقلب الأسطوانة: هذه الأيام لا أشتري سجاداً، مخازني مليئة، السوق هادئ جداً، لا أحد يدخل إلى الدكان، سجادتك جيدة جداً لولا الظروف التي أخبرتك عنها.
ينتهي الحديث بتسليم الزبون بكل ما قاله بائع السجاد. يترك سجادته، يقبض الثمن الذي يعطيه إياه. بطبيعة الحال يقلّ ما قبضه بكثير عن قيمتها الأصلية.
للرواية الفرنسية عن بائع السجاد نسخة أميركية تحكى عن الدكتور هنري كيسنجر وزير الخارجية الأشهر في التاريخ الأميركي الحديث، تقول عنه إنه أنقذ السياسة الأميركية في فيتنام في مفاوضاته مع قادة الثورة الفيتنامية التي عقدت في باريس عن طريق رواية بائع السجاد. قرأها مراراً وتكراراً. فاوض الفيتناميين على طريقة بائع السجاد لمدة أربع سنوات.
فرش لهم سجاد الدهاء السياسي في السنة الأولى.
عرض عليهم سجاد الدبلوماسية القادرة في السنة الثانية.
تصرّف على أنه لا يريد البيع أو الشراء في السنة الثالثة.
حصل منهم على شروط حسنة مقارنة بالوضع العسكري الأميركي في فيتنام في السنة الرابعة عندما حدّثهم عن عدد »القُطب« في السنتيمتر الواحد من السجاد، تتدرّج من عشر قطب إلى مئة قطبة.
وزراء خارجية بريطانيا وفرنسا وألمانيا بدأوا منذ سنتين مفاوضات مكثفة مع الحكومة الإيرانية حول مسألة التخصيب النووي الذي تقوم به إيران.
المشكلة أن الوزراء الثلاثة لا يعرفون حكاية بائع السجاد، الذي سيتقدم إليهم كل يوم بعرض بينما المشروع الأساسي للحكومة الإيرانية يتقدم ولو ببطء. مَن قال إن البطء ليس مطلباً إيرانياً؟
تحضير الجو السياسي المحيط بتقدم المشروع النووي الإيراني هو الأهم، هو الحماية، هو القدرة على النفاذ من قرارات مجلس الأمن الدولي.
أبدت إيران في بداية المفاوضات كل التعاون المطلوب لمجيء خبراء وكالة الطاقة الدولية وعلى رأسهم الدكتور محمد البرادعي. بعد طول تفتيش وزيارات عدة لخبراء الوكالة تبيّن أن هؤلاء الخبراء لم يجدوا دليلاً قاطعاً على أن إيران تعد الآن لإنتاج قنبلة نووية، ثم ارتفعت التهديدات الأميركية والاعتراضات الأوروبية.
في الوقت المناسب أوقفت إيران عملية التخصيب. وفي الوقت المناسب أيضاً أعادت العمل على المشروع. أنهت انتخاباتها (والانتخابات العراقية). أمسكت مجموعة موحدة بالسلطة داخل إيران. ذهب رئيس الجمهورية المنتخب الى الأمم المتحدة في نيويورك ليلقي الخطاب الدولي الأول له منذ انتخابه.
كانت الأنباء تأتي قبل الخطاب وكأن العالم بقواه العظمى ينتظر أنباء سارة في كلام الرئيس أحمدي نجاد، والرئيس الإيراني يبتسم لهم مطمئناً أن »سجادته« النووية ليست معادية للحضارة الغربية.
صعد إلى المنبر ليتقدم بعرض لا يستطيع أن يقبله المعنيون من بين المستمعين. قال إن الجمهورية الإيرانية مستعدة للدخول في شراكة جدية مع القطاعين العام والخاص في بلدان أخرى لتنفيذ برنامج التخصيب النووي في إيران.
أُسقط في يد وزراء خارجية الدول الأوروبية المكلفة بالتفاوض مع إيران.
إلا أن الترجمة الفعلية لموقفهم هي العودة إلى المفاوضات. الحديث عن تحويل الملف الإيراني من الوكالة الدولية للطاقة إلى مجلس الأمن بدا شكلياً أكثر مما هو واقع سياسي. وزير الخارجية البريطاني جاك سترو أعرب عن تأييده للخيار الدبلوماسي للخروج من الأزمة النووية الايرانية: »لن يحل بالوسائل العسكرية« مؤكداً وضوح موقفه بهذا الشأن.
وزيرة الخارجية الأميركية المشهورة بتصلّبها بدت أكثر مرونة من زميلها البريطاني بالقول »هناك وقت للدبلوماسية ولكن على ايران أن تختار حالياً العودة الى المفاوضات«.
بدا للحظة من حديث رايس أن خيار العودة الى المفاوضات هو بيد الايرانيين لا الأوروبيين.
هنا ظهر الرئيس نجاد انه حقق النقطة الأهم من ظهوره على منبر الأمم المتحدة، وهو ان القرار الآن في يد إيران.
أكمل ذلك الى حد الاستخفاف بتحويل الملف الملف الايراني الى مجلس الأمن: من يستطيع أن يفعل ذلك إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يجد أن ايران تتعاون »بشكل كاف« مع المنظمات الدولية، أكثر من ذلك قال ان فرض عقوبات على ايران سيؤدي الى مشاكل أكثر وقد يؤدي الى طريق مسدود.
اتضحت دقة حسابات بائع السجاد الايراني. المحطة الوحيدة النووية التي تبنى الآن هي محطة بوشهر. التكنولوجيا المستعملة فيها روسية. للطمأنة المبدئية يقول الروس انهم لن يقوموا بتشغيل هذه المحطة إلا بوقودهم النووي.
الصادرات الروسية الى ايران تفوق البليون دولار سنوياً، في الوقت الذي منعت الادارة الاميركية الاتحاد الاوروبي من توقيع اتفاقية تعاون تجاري مع طهران.
هذا آخر الاسباب. أولها ان ايران تقع على تقاطع طرق بين أوروبا وآسيا. شمال جنوب الخط الكهربائي الذي افتتح العام الماضي ويصل بين الهند وروسيا وغرب أوروبا يمر بإيران.
السبب الثاني وهو الأهم ان ايران تمددت تجارياً واقتصادياً عبر آسيا الوسطى وشمال القوقاز، ولا تريد روسيا أي تغيير للوضع في ايران يؤثر على مصالح روسيا في المناطق التي تحيط بها.
لذلك كان واضحاً ان الرئيس أحمدي نجاد يتحدث من على قاعدة صلبة في الأمم المتحدة، ومن ثم الاستخفاف بتحويل ملف بلاده النووي الى مجلس الأمن، إذ ان الفيتو الروسي موجود، وان كان الرئيس بوتين لا يتحدث عنه قبل أوانه.
نقطة القوة الثانية في حديث الرئيس نجاد وإن كان لا يقولها ان الاعتداء العسكري الأميركي على ايران ممكن ولكن بكلفة عالية جداً، والأهم انه لن يصيب ما يسمى بالمفاعل النووي. من يتحمل وقف ضخ النفط الايراني؟
تقول نشرة عسكرية استراتيجية انه جرى البحث في واشنطن بشكل غير رسمي بين عسكريين أميركيين ووفد عسكري إسرائيلي حول هذا الموضوع، أظهر الاسرائيليون حماسة لضربة عسكرية موجعة على الطريقة الليبية التي أدت الى تسليم الليبيين كل ما لديهم من آثار نووية.
استمع الاميركيون، ظهر أنه ليس لدى الطرفين معلومات موثوقة عن مكان وجود اليورانيوم. أكثر من ذلك جرى بناء نماذج خراسانية للمفاعل النووي في عشرات المناطق الايرانية. أين تضرب؟ لا جواب.
إذاً، لا بد من العودة الى السياسة عبر الاتحاد الاوروبي. مع من؟ مع تاجر السجاد النووي الايراني.
لا شك في أن طهران أعطت في أماكن أخرى وفي وقت سابق ما يجعلها تطمئن قليلاً الى ضرورتها لدى الولايات المتحدة، إذا تعقّلت الإدارة:
أولا تسهيلات لدخول القوات الأميركية الى أفغانستان وإنهاء حكم طالبان، الآن تفتخر الإدارة الأميركة بأنها أشرفت على أول انتخابات نيابية حرة في أفغانستان.
ثانيا ضمنت ايران منذ اللحظة الأولى نجاح المعارضة العراقية في عقد مؤتمرها في لندن في 2002، ولو من دون حضور عراقيين سنّة، بطلب من الولايات المتحدة التي كانت تريد غطاء سياسياً بأي ثمن على حربها لإسقاط نظام صدام حسين، لا تستطيع انتظار السنّة، وليس عندها وقت لضمان عروبة الاجتماع ومن بعده النظام المقبل، هذا دون الحديث عن تسهيلات معلوماتية للجانب الأميركي غير مؤكدة وغير موثوقة النتائج، كالقول ان أحمد الجلبي هو الذي تولى التنسيق عن بعد بين وزارة الدفاع الأميركية والأجهزة الأمنية الإيرانية، والذي أدى الى إضعاف المشروع الأميركي.
مؤتمر المعارضة في لندن الأول في تاريخ العراقيين الذي يتحدث عن الفدرالية وعن الأكثرية الشيعية، الآن تحقق الأمران وبشكل غير بنّاء لا للعراق ولا لأبنائه من مختلف الطوائف. سقطت عروبة العراق تحت ضربات التحالف الكردي الشيعي، والفدرالية تتحقق على تعثر.
هنا ظهر أن أميركا نفذت المشروع الايراني في العراق، إذ ان ايران دربت وجهّزت ثم انها تموّل الاحزاب العراقية الشيعية على اختلاف ميولها وآرائها. »حزب الدعوة حاكماً« متحالفاً مع القوات الأميركية و»الصدريين« معارضين، و»المجلس الأعلى للثورة« الممثل عسكرياً ب»فيلق بدر« القادم من طهران مقاتلاً سياسياً للصدريين.
من وجهة نظر طهران ثمة ضرورة لأن يلعب كل طرف من هذه الاطراف دوراً في المشروع. الانتصار الأكبر تحقق في الانتخابات العراقية التي جرت على قاعدة التكليف الشرعي بمباركة آية الله السيستاني المرجع الشيعي الاساسي في النجف، بعد أن تمهل في الموافقة. غاب السنّة. بدت نتائج الانتخابات النيابية وكأنها مقدمة اشتباك دائم أكثر مما هي مظهر وحدة.
بدأ التقدم من العراق ببطء سياسياً لحماية الحليف السوري و»حزب الله« في لبنان.
تحركت الادارة الاميركية لتقول بعزل لبنان وسوريا عن العراق وبالتالي منع نتائج الانتخابات العراقية من التأثير في هذين البلدين.
ما جرى في الامم المتحدة وفي اجتماعات فيينا لا يوحي بأن هذا الامر يمكن تحقيقه بخسائر أقل من الخسائر في العراق.
اذاً، المشروع يتمحور في ثلاثة اتجاهات: التخصيب النووي يعطي ايران اليد الأعلى في منطقة الخليج العربي دون أن تتحرك من مكانها، التمسك بالنفوذ في سوريا ولبنان، التحالف مع روسيا في آسيا الوسطى.
يقول أحمد سلامتيان في »لوموند دبلوماتيك« إن الشيعة يطالبون بتصحيح وضعهم في البحرين والسعودية ولبنان بعد العراق طبعاً.
ويضيف أن نصاً أضيف الى الدستور الايراني بعد الثورة جعل المرجعية مصدر تقليد للمؤمنين، تمثل الإمام المغيّب، تجسد الدولة بكل مظاهرها، تتمتع بإجماع كل التابعين لها، تمارس سلطتها بواسطة أشخاص من رجال الدين والحوزة، مما يعني مسؤولية المرجعية عملياً وواقعياً عن الشيعة حيث هم.
مايكل روبن أحد نجوم »المحافظين الجدد« والشاب الوحيد فيهم، يقول في مقال له بعنوان: »هل تدعم واشنطن الديموقراطية في ايران«، نقل عن رسميين في إدارة الرئيس بوش: الخطر ليس باستعمال الجمهورية الاسلامية الايرانية للسلاح النووي ضد الولايات المتحدة، ولكن وقوع سلاح من هذا النوع في يد نظام ايديولوجي سيزيد من خطر الإرهاب في الشرق الاوسط وأوروبا.
في ما يتعلق بالاحتماء بالتحالف مع روسيا فهو على قدم وساق اقتصادياً وجغرافياً، كلاهما يحتاج الآخر.
أين العرب المعنيون من هذه الخريطة؟
أول المنبّهين لهذا المشروع الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى منذ سنتين. لم يرد عليه أحد من الدول العربية. أوقفته السياسة الأميركية عند حدود توافق السياسة العربية على تأييد السياسة الأميركية في العراق.
الملك الاردني عبد الله الثاني يقول في حديث الى »واشنطن بوست«: »إذا ذهب العراق الى الجمهورية الاسلامية، نكون قد فتحنا على أنفسنا مجموعة من المشاكل لا تنتهي عند الحدود العراقية. حتى السعودية ليست محصنة في وجه هذا النوع من الاضطراب«.
رفع عبد الله الثاني العلم الاحمر.
مصر تعتقد على لسان أحد مسؤوليها الكبار أن تحييد سوريا ولبنان من هذا المشروع سيفقده زخمه العربي. يقول الرئيس حسني مبارك انه حاول مرات عدة ولم ينجح في هذا المسعى.
مصر »تقاعدت« عند حدود الموضوع الفلسطيني منذ العام 1982. الأن تقف على حدود غزة.
السعودية كعادتها تتمهل حذراً، تجس الأرض قبل أن تتقدم، بعد غياب طويل »عن السمع« خاطب الأمير سعود الفيصل الاميركيين »عن تزايد التدخل الايراني في العراق، الدستور الجديد قد يؤدي إلى تقسيم العراق، إن حرباً أهلية ستدمر العراق إلى الأبد وتدفع بالمنطقة، بما فيها العرب، الى كارثة«.
التعليق الادق على المشروع الايراني جاء من كمران ترمي أستاذ العلوم السياسية في جامعة طهران.
يقول: هل تريد ايران مشروعها، الجواب بالتأكيد نعم.
هل هذا المشروع ممكن التنفيذ؟
يجيب ان لا شك بأن الشيعية العراقية الحديثة ستشجع الآخرين في البحرين والسعودية والكويت على دور سياسي ما، لكن هذا الدور لن يتجاوز أبداً الدور السني الحاكم.
»ربما ستتحقق بعض الحريات السياسية، الدينية، الاقتصادية بالحصول على حصة أكبر من التنمية في مناطقهم.
في الشرق الاوسط سينضم العراق من وجهة نظر ترمي الى التحالف بين طهران بيروت دمشق. ويضيف الى الدعم السياسي والمالي الايراني الى سوريا دعم العراق«.
فقط؟
من سيرفع العلم الأحمر بعد ملك الاردن ووزير الخارجية السعودي؟
الجواب عند من يقدر على عد القطب في السنتيمتر المربع الواحد من سجادة المشروع الايراني، وبالنظر فقطٌّ!!