إيران بين صانع السجاد وبائعه (1 ) انتهت الثورة. قامت الدولة. عاش “المشروع”

الأخبار 19 سبتمبر 2005 0

اصطحبني الرئيس رفيق الحريري في زيارته الأولى إلى طهران. في العام 1997، كان الرئيس محمد خاتمي المنتخب حديثاً مالئ الدنيا وشاغل الناس، لا بسبب شخصيته الحديثة، بالقول والفعل، في بلد مثل إيران، بل بسبب النسبة العالية من الأصوات التي نالها في الانتخابات.
دخلنا على الرئيس خاتمي في قصر الرئاسة البسيط، البعيد كل البعد عن بهرجة القصور. سّلمنا عليه برعاية محمد علي أبطحي مدير مكتبه في ذلك الحين، مراسل وكالة الانباء الايرانية قبل ذلك في بيروت، المتحدث بالعربية كما اللبنانيين.
نجم اللقاء كان “مولانا” الدكتور رضوان السيد. لم يؤكد الرئيس خاتمي معرفته به واهتمامه الخاص بموقع جلوسه فقط، بل إنه حدّثه بوصفه من متابعي كتاباته ومؤلفاته في الفكر السياسي الاسلامي وآخرها “الأمة والجماعة والسلطة”.
انسحب الوفد اللبناني بعد دقائق من تبادل كلمات الترحيب والتوجيب بين الرئيسين تاركين لهما الخلوة في الحديث.
كان واضحاً ان هناك أكثر من الإعجاب بين الاثنين. ربما التعبير الأصح هو “الانبهار”. انبهار الرئيس الحريري للنسبة الأعلى التي يمكن لرئيس الحصول عليها من الشعب الايراني.
و”الانبهار” من الرئيس الايراني بما للرئيس الحريري من حضور شعبي لبناني ومن سعة في العلاقات العربية والدولية. الصحن الرئيسي في الحديث كما تبيّن لاحقاً هو العلاقات السعودية الايرانية.
ودّعنا الرئيس خاتمي. أعاد كرّة أخرى الإعجاب “بمولانا” الدكتور السيد، كذلك فعل مدير مكتبه أبطحي.
في الصورة التقليدية ابتعد “مولانا” عن الرئيس خاتمي خوفاً من الحسد من الوفد اللبناني جماعة لا فرادى فقط.
عدنا الى قصر الإقامة. ما هي إلا دقائق حتى استدعانا الرئيس الحريري إلى غرفته، الدكتور رضوان وأنا. ما رأيكما؟
الدكتور رضوان يعرف انبهار “ولي الأمر” بالرئيس خاتمي. كعلاّمة استند إلى هذا الاعتبار وقال ان خاتمي سيكون الرئيس الأبرز في تاريخ إيران. من يملك ثقة الشعب بهذه النسبة يستطع ان يفعل ما يريد. وهو يريد التقدم والحداثة لشعبه.
من المفيد تمتين العلاقة معه. يساعدنا في الانفتاح على العرب وخاصة السعودية ومصر.
انتظرت ان يكتفي الرئيس الحريري بجواب “مولانا” لكنه لم يفعل. وجّه إليّ نظره أولاً. ثم قال: “لم أسمع رأيك”.
خاتمي: ابتسامة صدق
اتكلت على الله وأجبت: الرئيس خاتمي لن يستطيع حكم إيران بالطريقة التي ترونه بها. هو ليس حاكماً لدولة من العالم الثالث. هو حاكم لدولة من العالم الأول أو الثاني في أحسن الأحوال. شكله عصري رغم عمامة “السيّاد” على رأسه.
صفة دماثة الخلق ابتكرت من أجله. اتساع في الأفق يصل الى درجة العالمية.
يعرفها دون القدرة على المشاركة فيها إقداماً ومبادرة. غزارة في الثقافة تستخلص استنتاجات كلامية لا تنفيذية. ابتسامة دائمة فيها الكثير من الصدق. هذا معادٍ لأطباع الحكاّم. يخدمه الاستفتاء مرة واحدة مثل عود الكبريت. لا يستطيع استعماله مرةً ثانية. إلا إذا كان انقلابياً وهو ليس كذلك. على الاقل من النظرة الأولى.
لم يعجبهما حديثي. أخرجنا عنوة رضوان وأنا من غرفة الرئيس الحريري. يريد ان ينام.
استلحق “مولانا” نفسه في الخارج شاهراً عليّ سلاح “العلاّمة”. قال لي: ما زلت على رأيي. ولكنني سأوضح لك أمراً لا تعرفه. الرئيس خاتمي ابن المؤسسة الدينية الحاكمة في إيران. هي التي أتت به. من ينقلب على مؤسسته؟ هذا سلاحه للوصول إلى الرئاسة. وهو مقتله إن اختلف مع المؤسسة.
الموعد الثاني مع الشيخ هاشمي رفسنجاني رئيس الجمهورية السابق. رئيس مصلحة تشخيص النظام. المؤتمن على الحق والباطل في التشخيص كما الاطباء. يخطئ الاطباء لكن هو لا يخطئ.
لماذا؟ لأنه كبير تجّار الجمهورية الايرانية. الشاهبندر. مؤسس في الثورة. يشخّص قليلاً ويحكم كثيراً.
يدخل الرئيس الحريري إلى قصر “المرايا”: أحد القصور الأكثر شهرة في تاريخ الشاه السابق. هناك ترى شهوة السلطة مقيمة أرضاً وسقفاً وجدراناً.
رفسنجاني: شاهبندر التجار
يداوم رفسنجاني في مكتب الشاه. يبتسم ابتسامة حاكم لضيوفه. يحدثهم كرجل اعمال كبير. يتذكر في منتصف الحديث أنه احد اعمدة الثورة فيأتي على سيرة الإمام الخميني من باب الاستشهاد برأي له أو موقف.
انتهت الزيارة بعد كثير من اللقاءات الوزارية. أكملها الرئيس الحريري اندفاعاً كعادته في اتجاه السعودية أولاً ومصر ثانياً. حقق تقدماً جدياً في العاصمتين الرياض والقاهرة. وعاد ليرتاح في بيروت، تحضيراً لزيارة ثانية للقاء صديقه الرئيس محمد خاتمي.
لم تستطع المؤسسة الحاكمة ان تغامر بمرشح يمثل تطلعاتها في نهاية ولاية خاتمي الأولى التي استمرت اربع سنوات، فالشعب الايراني كان لا يزال على أمله في البرنامج الاصلاحي التحديثي للرئيس خاتمي.
كذلك أدّت مواجهات الرئيس خاتمي مع القوى الأمنية والمخابرات الى إعطاء الانطباع بأن هناك صراعاً ينتصر فيه هذا الطرف مرة، وذاك الطرف مرة أخرى. زاد ذلك من رغبة الايرانيين في دعم التوجه الديموقراطي ولو كان شكلياً لدى الرئيس خاتمي.
الولاية الثانية: صدام الأمن مع الحداثة
انتخب الرئيس خاتمي ولاية ثانية دون تحقيق أي تقدم جدي على صعيد مشروعه التحديثي. استطاع فقط ان يعطي دوراً قوياً وفاعلاً لممثلي الطبقة الوسطى. حاول قدر المستطاع أن يستفيد من الجانب الاقتصادي في خطته. حقق نجاحات محدودة أبقت على عشرة ملايين إيراني تحت خط الفقر.
هذه هي الحكاية المختصرة لرئاسة استمرت ثماني سنوات، اعطت إيران إجمل ما في وجهها خارجيا. اخرجت قوى التغيير والاصلاح من مخابئها. اصبحت صورهم على الصفحات الاولى من الصحف العالمية خارجين من السجن او داخلين إليه بشجاعة.
كانت صورة الرئيس خاتمي تظهر حين يتمرد لساعات أو لأيام على قرارات المحاكم الدينية او السلطات الامنية. صحف تصدر. اخرى تغلق. أصبح الصحافيون الاصلاحيون نجوماً في مجتمعهم. تذكر اسماءهم وكالات الانباء الاجنبية ترشيحاً لاعتقال او للسوق الى المحاكمة.
لكن هذا لم يغيّر من حقيقة السلطة شيئاً وهي أنها تقيم في مكان آخر عند آية الله علي خامنئي المرشد العام للثورة الايرانية. “الرهبر” كما تقال بالفارسية. البعض يقول ان الترجمة الدقيقة للكلمة هي “القائد”. من يتعمق في الشأن الايراني يعرف أن الترجمة تعبر عن الواقع. استعمال لقب المرشد تستوجبه السلطة الدينية التي توجه شعبها لما فيه “خير العباد”.
خامنئي: حجة إسلام الأخوان المسلمين
السيد علي خامنئي المولود في العام 1939 درس على يدي آية الله الخميني عام 1964، وآية الله الميلاني. برع في الجمع بين نشاطه السياسي وحبه للموسيقى والشعر. لذلك اختار “الاخوان المسلمون” عنواناً لرسالته لنيل درجة حجة الإسلام. فضّل هذا الموضوع على أي موضوع فقهي آخر. مارس السياسة مبكراً. اعتقل ست مرات. نفي مرتين من البلاد. انتخب عضواً في مجلس قيادة الثورة فور تشكيله في العام 79. عرف طريقه من البداية. لا الفقه ولا الشعر، بل القوى المسلحة حيث مّثل مجلس قيادة الثورة. صّفى جنرالات. اختار آخرين الى جانبه. شكل قيادات الجيش الاولى والوسطى. اصبحت ذراعه في القرار قوية جداً. لم يكتف بذلك بل سعى لتعيينه قائداً للحرس الثوري.
تسلم منصبه الجديد وبدأ بصياغة قيادات الحرس الثوري بالطريقة نفسها التي عمل بها في الجيش. كررّ الموازين ذاتها. قويت يداه الاثنتان سلطة واقتداراً.
عندما حان وقت تسمية آية الله العظمى البديلة لآية الله العظمى الخميني، اعلى المراجع الدينية والفقهية والسياسية ايضاً، أخرج السيد علي خامنئي أسلحته كلها لتسلم المركز.
هو يعلم انه لا يملك المواصفات اللازمة لتسلم هذا المنصب وأولها ان يكون مرجعاً دينياً. فكيف لولاية الفقيه ان تعطى لمن ليس له صفة المرجعية الدينية؟ كان واضحاً لكل المعترضين من العلماء أن ذراعه الامنية قوية جداً. لكنهم لم يترددوا في رفض تسميته. ذهب الى السياسة تحالف مع الشاهبندر هاشمي رفسنجاني في اتجاهين.
الاول إقناع أحمد الخميني نجل آية الله العظمى بتسميته خليفة لوالده. نجح في ذلك.
الاتجاه الثاني تعديل تأسيسي في مبدأ ولاية الفقيه وهو عدم إلزامية ان يكون الولي مرجعاً. نجح في ذلك أيضاً في العام 1989.
تعود الوزارات الايرانية السيادية كلها في قراراتها وتراتبيتها الادارية الى المرجع. وهو تقليد مكتوب منذ نجاح الثورة الايرانية بإسقاط الشاه.
لم يستطع السيد خامنئي رد الجميل لهاشمي رفسنجاني. فالانتخابات الاخيرة أظهرت ان مرشح خامنئي أحمدي نجاد لا يتمتع فقط بدعمه وتأييده، بل ان الناخبين الايرانيين يتذكرون تجربة رفسنجاني في رئاسة الجمهورية قبل الانتخاب الاول لخاتمي. وهي تجربة لا تشجعهم اولاً بسبب حكايات الفساد التي سادت ولايته، وثانياً بسبب تراجع الوضع الاقتصادي الى حدوده الدنيا في ايامه.
الهجوم المدني على السلطة
جاء انتخاب مجلس الشورى في نهاية ولاية السيد خاتمي الثانية. تشكلت كتلة من 70 نائباً من قدامى قيادات الحرس الميدانية والاستخباراتية. اكتملت عدة الولاية المطلقة للسيد خامنئي. بدأت النجوم المدنية تستلم مفاتيح السلطة بدلاً من العمائم الموافقة على ولاية خامنئي على مضض.
انتخب حداد عادل رئيساً لمجلس الشورى، المدني الاول منذ بداية الثورة في هذا المنصب. تربطه علاقة مصاهرة بآل الخامنئي.
عيّن العقيد محمودي من قيادات الحرس رئيساً لاستخبارات السلطة القضائية.
عيّن الحاج عزة ضرغامي مديراً للإذاعة والتلفزيون وهو من المناصب القيادية في الثورة ثم الدولة الايرانية.
وزير الثقافة والارشاد حسين حرندي بدأ حياته العملية ضابطاً ثم مفتشاً في استخبارات الحرس.
وزير الدفاع مصطفى محمد نجار ضابط في الحرس الثوري وأحد قادة فيلق القدس الأهم تجهيزاً وتسليحاً.
وزير الاستخبارات حسين محسني أجدئي أمضى حياته العملية كلها في الامن. عمل مدعياً عاماً لمحكمة رجال الدين. اصدر حكماً على رئيس بلدية طهران غلام حسين كرباستشي ادى الى خروجه من سباق الرئاسة.
مصطفى بور محمدي وزير الداخلية، كان مستشاراً لشؤون الامن في مكتب السيد خامنئي.
وزير الخارجية منوشهر متقي، عمل مسؤولاً في لجان الثورة. ثم الى الخارجية فسفيراً لإيران في تركيا. افتعل ازمة مع السلطات التركية لرفضه وضع إكليل الزهر التقليدي على ضريح اتاتورك. فرض على الصحافيات التركيات والاجنبيات وضع غطاء على رؤوسهن في مؤتمراته الصحافية. اهم ما في رصيده انه على علاقة وثيقة وقديمة بأصغر حجازي مسؤول الامن في مكتب السيد خامنئي.
علي لاريجاني مسؤول الملف النووي، مثل السيد خامنئي لسنوات في المجلس الاعلى للأمن القومي.
كل هذه المفاصل في الدولة لم تجعل السيد خامنئي يتخلى عن “حكومة الظل” التي كانت تدير البلاد في الفترة الخاتمية. أبقى على اركانها بصفة مساعدين في مكتبه يشرفون مباشرة على رجالهم في السلطة.
بين رجال السلطة في الموقعين، موقع المرشد العام للثورة الاسلامية والمواقع الوزارية والتشريعية يأتي انتخاب احمدي نجاد طبيعيا، اذ انه استكمال لزملائه في الحرس الثوري. الآن اصبح رئيساً للجمهورية.
نجاد: الأمني الأول رئيساً
من هو أحمدي نجاد؟
الانطباع الاول الذي تأخذه من صوره المبتسمة دائماً انه سيأخذ وقتاً طويلاً قبل ان تلبسه بذلة الرئاسة، هذا إذا قبلها. يقول دبلوماسي فرنسي عمل في طهران لسنوات إن الشكل الذي يعتمده الرئيس نجادي لنفسه هو نظام عمل اكثر مما هو طبيعة يفرضها التقشف. فهو لا يوحي انه كان ضابطاً في الحرس الثوري. لا يريد ترك الانطباع بأنه احد المشاركين في عمليات التسلل الى داخل العراق خلال الحرب. لا يجاهر بأنه شارك في إعداد وتجهيز “قوات بدر” الأكثر تنظيماً وتسليحاً بين المجموعات الشيعية في العراق، وأن هادي العامري، القائد الميداني لفيلق بدر، يعتبر نفسه ابناً روحياً له.
ما اشتهر به أنه كان عضواً في التنظيم الطلابي في بداية الثورة. ما سمي آنذاك “طلاب الإمام”. نفى ان يكون من بين الطلاب الذين احتلوا السفارة الاميركية في بداية الثورة. عيّن محافظاً في ثلاث محافظات تعاني من مشاكل امنية. نجح في تهدئتها. ثم سمي نائباً لوزير الثقافة والإرشاد. أخيراً قبل الرئاسة انتخب رئيساً لبلدية طهران. برز بسرعة بسبب طريقة عمله “الشعبوية”.
ينزل الى الشارع مع العمال. يحتفظ بسيارته القديمة. بثيابه الاقدم.
تحالف الأمن والعقيدة
المهم أن عقيدته هي الامر المتجدد فيه.
ما هي هذه العقيدة؟
الاغلبية ممن انتخبوه رئيساً للجمهورية يرون ثورة إسلامية ثانية، افتقدوها بعد انتقال الثورة الاولى الى منطق الدولة، وانتقال الدولة بين رؤساء لم يحققوا لهم ما حلموا به. لا ثورة تنتشر ولا يسر في الحياة اليومية يلبي حاجاتهم الاقتصادية الملحة.
هل يجيب الرئيس نجاد عن اسئلة ناخبيه عملياً لا وعوداً كما كانت الحال دائماً في السابق؟
الجواب عند السيد علي خامنئي صاحب الولاية المطلقة الآن. اكتمل عقد السلطة بين يديه في الاغلب من مفاتيح السلطة. في الجيش. في الامن. في الحكومة. في مجلس الشورى. في الرئاسة اخيراً وليس آخراً. هل يذهب بهذا كله نحو الداخل إصلاحاً، أم يحمل ما بين يديه نحو ما سمّاه الملك عبد الله الثاني “الهلال الشيعي”، أو ما يمكن ان يسمى باللغة الحديثة “المشروع الايراني”.
إذا اجتمعت العقيدة مع الامن لا تجد نفسها إلا في مشروع اكبر بكثير من حاجات الناس.
للحديث صلة…