إنَّما النصرُ صبرُ ساعة (4) “حديث شريف” الاعتدال التركي يستوعب الفوضى الإيرانية ..

مقالات 05 فبراير 2007 0

كما هي العادة حين تحتل “المؤامرة” وظيفة العقل، وتسود القراءة المذهبية للكلمات من أي جهة أتت، وتفقد الناس القدرة على التمييز بين مصلحتها العامة ومذهبها الخاص… لكل هذه الأسباب وغيرها أكثر منها، أساء البعض تقدير المقصود من العنوان الذي تصدّر مقالة يوم الاثنين الماضي حول القمر التركي .
البعض انتصر به اعتقاداً بأن المقصود منه نصرة جهة على جهة أخرى، وتقوية استفزاز على استفزاز آخر. وكأن الدول الإقليمية الكبرى تبحث عن دور تلعبه في ملعب الاستفزازات.
آخرون تخوفوا منه باعتباره يمثل مذهباً واحداً معادياً للمذاهب الأخرى. وهو أي القمر التركي ينتظر فرصة سانحة لكي يتقدم بمذهبه على مذاهب الآخرين.
الحقيقة هي لا هذا ولا ذاك من المتخوفين مقصود بما كتبته في الأسبوع الماضي.
كل ما في الأمر وهو تفسير لا تراجع أنني اعتمدت الجغرافيا مقياسا لاختيار قوة إقليمية كبرى قادرة على تصور تسوية للأوضاع في المناطق الملتهبة من الشرق الأوسط. فلم أجد إلا واحدة من ثلاث قوى: الأولى إسرائيل وهي معطلة بسبب الصراع العربي التاريخي معها وبما استجد من نزاعات فلسطينية إسرائيلية عسكريا وسياسيا.
الثانية هي إيران، وهي قوة إقليمية صاحبة مشروع سياسي إقليمي يبدأ باستغلال ما يسمّى سوء الوضع الشيعي في الدول العربية، باعتبارهم من رعايا ولاية الفقيه، وكأن أوضاع الطوائف الأخرى أفضل. ولا ينتهي هذا الدور من دون رفع لواء فلسطين كقوة بديلة عن القوى العربية في الدور وفي الفعل.
لا يغيّر اجتماع السعودية في الأسبوع الحالي بين قادة حماس ورئيس السلطة الوطنية الفلسطينية من هذا التقييم الواقعي للمشروع الإيراني. مع التأكيد بأن الدور السعودي فاعل ومؤثر لكنه لا يستطيع دون تحالفات إقليمية كبرى أن يقرّر الاستقرار حيث الاشتباك ولا السكينة حيث تزداد ضجة الحساسيات ولا الأمن حيث لم يعد هناك أمان.
ليس لأن السعودية استعادت هذا الدور منذ أشهر فقط، بل لأن ما تشهده المنطقة ليس اشتباكا بين سياسات بل حروب بين مشروعين أولهما أي الأميركي يعتمد عنوان اعتقل أو اقتل للطبعة الثانية من حركته العسكرية في العراق ويعمل على تزويد السلطة الوطنية بالسلاح لحل المشاكل السياسية.
فكيف لمن يعتبر السلاح حواره وعقيدته أن يتسبب بغير التدمير والمزيد من الضحايا أينما حل مشروعه؟
المشروع الثاني أي الإيراني يريد أن يدخل نادي الكبار المتخصصين في التخصيب النووي سلمياً في البداية على الأقل. وفوق ذلك يسعى للانتشار حيث للمسلمين صلاة ومسجد، مشجعاً على إحياء الصراع العربي الإسرائيلي عسكرياً ومخالفاً بذلك الدول العربية مجتمعة.
تحتاج الدولة الإيرانية لا المشروع الى الدور السعودي. بسبب قدرته على الاتصال الدولي، وقد فعل الكثير الأمير بندر بن سلطان في هذا الاتجاه متجاوزا كل المعهود من الحركة الدبلوماسية. إذ ان الأمين العام لمجلس الأمن الوطني السعودي تصرف على أنه يعالج أزمة طارئة تحتاج الى حال من الاستنفار لا تعترف بالأعراف والتقاليد الدبلوماسية الهادئة.
ففي الوقت الذي كان يستعمل قدرته على فتح أبواب الحوار مع واشنطن، كان نائبه يقيم في طهران يستمع الى ما يبلغه إياه وينقل ما هو ضروري الى سكرتير مجلس الأمن الوطني الإيراني علي لاريجاني، وينتظر الجواب الإيراني ليحمله الى رئيسه.
****
هناك الكثير من المراهنات العربية والدولية على التغييرات التي سيحدثها غياب المرجع الأعلى آية الله علي خامنئي. وهو ما تتوقعه دوائر غربية بسبب إصابته بمرض السرطان الممتد من كبده الى حلقه.
من هذه المراهنات أن هاشمي رفسنجاني رئيس مصلحة تشخيص النظام الآن سيحل مكان خامنئي في منصب المرجعية الأعلى، بينما يتولى الرئيس السابق للجمهورية محمد خاتمي منصب رئاسة مصلحة تشخيص النظام. وهذان الأمران اللذان يبرران التقارب الحاصل بين رفسنجاني وخاتمي.
المراهنة الأبرز أن هذين الحليفين سيعملان على تقصير الولاية الدستورية لرئيس الجمهورية أحمدي نجاد وانتخاب رئيس جديد للجمهورية لا يرغب بطبيعته في تناول العلاقات الإيرانية مع الغرب أو العرب بالمفردات التي يستعملها الرئيس نجاد، رغم احتماء الأخير بالقول إنه يعبّر عن سياسة المرجع الأعلى.
لا تقول السعودية إنها قادرة على استيعاب تطورات المشروع الإيراني لا في ذهابه ولا في إيابه. وتعتبر حركتها انتعاشا إيجابيا. إذ ان الجزء الآخر الجديد من الدبلوماسية السعودية هو التمييز بين المسعى وبين الموقف.
يستمر المسعى في حركة الأمير بندر بن سلطان على أسس الواقعية السياسية، بينما يصرح العاهل السعودي الى السياسة الكويتية أن جهود نشر المذهب الشيعي في العالم العربي ستبوء بالفشل. لأن هناك استغلالا للدين وتأجيجا للصراع المذهبي .
لذلك كله تبدو الحاجة الى دور إقليمي لتركيا في منطقة الشرق الأوسط أكثر من ملحة وطبيعية. ليس من أجل الأسباب الآنفة الذكر، بل لأن مكونات هذا الدور لا تتوافر إلا في الدولة التركية، أولها القدرة على الاستيعاب.
في الشهر العاشر من شهر تشرين الأول في العام 1998 افتتح رئيس الجمهورية التركية سليمان ديميريل، الأسطورة السياسية، دورة البرلمان بكلمة قال فيها إن صبرنا قد نفد في إشارة الى الدور الذي يلعبه النظام السوري في دعم حزب العمال الكردستاني التركي والمحرّض على إقامة دولة في المناطق الكردية من تركيا.
لم يأخذ الأمر أكثر من أسابيع مرنة من المفاوضات حتى كان عبد الله أوجلان الزعيم التاريخي لحزب العمال قد خرج من سوريا التي عاش فيها سنوات طويلة متنقلا بين دمشق والبقاع اللبناني حيث معسكرات تدريب حزبه.
ذهب أوجلان وهي كلمة تعني الثأر بالتركية الى موسكو محتمياً بالأكراد حيثما وجدوا وبالسفارات اليونانية أينما توفرت.
ما هي إلا أسابيع حتى تم تسليمه الى الأتراك أثناء نقله من السفارة اليونانية في كينيا الى مطار نيروبي.
كان الرئيس حافظ الأسد في بداية تدهور حالته الصحية، ولم يرد أن يترك لنجله الدكتور بشار أزمة في العلاقات مع الجارة الأكبر. فما كان منه إلا أن اتخذ قرارا واقعيا بالتخلص من هذا الملف المؤذي للعلاقات التركية السورية.
لم يكن هذا هو السبب الوحيد لقرار الرئيس حافظ الأسد. فقد كان يعلم من جهة أخرى أهمية سلاح الأنهار المائية التي تنبع من الأراضي التركية والتي تمر في سوريا نحو العراق وأهمها نهر الفرات. ويعلم أيضا أن قدرته على القتال في حالات التعنت التركي على الحصص في المياه محدودة. إذ ان تركيا لا تعير اهتماما كبيرا للاتفاقات الدولية التي تحدد نسب الاستفادة من المياه من النبع الى المصب. في الوقت الذي تعتمد فيه سوريا بنسبة كبيرة في زراعتها على المياه القادمة من الأراضي التركية.
من هنا كان الاتفاق شاملا في الأمن وفي السياسة. وانتهى ملف لواء الإسكندرون الذي كان يوصف في الكتب المدرسية والخرائط باللواء السليب، باعتباره، أي اللواء، أرضا تركية وتم اعتماد هذا الأمر في الخرائط والكتب المدرسية.
لم يحتج الأمر في ذلك الحين إلا الى استنفار للجيش التركي على الحدود السورية. فكان الرئيس حافظ الأسد مفاجئا للجميع بقدرته على استيعاب الأزمة مع الجار القادر مائيا وعسكريا.
***
تسلم الرئيس السوري الشاب الحكم في دمشق في العام 2000 وتسلم معه ملفا نظيفا للعلاقات بين البلدين. رغم ذلك ألغى زيارة رسمية كان سيقوم بها في العام 2004 دون تبريرات معلنة.
الفارق بين العام 1998 واليوم، ان سوريا كانت تحتمي بعلاقاتها الممتازة مع السعودية ومصر، بينما كان النظام التركي يؤسس لعلاقات مع اسرائيل عسكرية وسياسية تعزز مطالبته بالانضمام إلى أوروبا وهو مطلب تركي ملح.
اليوم العلاقات التركية الاسرائيلية تتدهور برغم اعتراض جنرالات الجيش على هذه السياسة، بينما تشهد العلاقات التركية مع مصر والسعودية تحسناً مضطردا بحيث ان الطرفين يتعاملان مع ازمات المنطقة بنفس الاتجاه.
اما النظام السوري فهو يذهب في صراعه مع الادارة الاميركية الى حد الانقطاع الفعلي عن السعودية ومصر، مقابل الانفتاح في عز الحرب الاسرائيلية على لبنان في تموز الماضي، على مفاوضات غير مباشرة مع الاسرائيليين بواسطة رجل اعمال اميركي من اصل سوري ومدير عام سابق لوزارة الخارجية الاسرائيلية.
لكن هذا لم يمنع رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان من زيارة دمشق وبيروت منذ شهرين والاستماع الى الرئيس الأسد ومناقشته في مسألة المحكمة ذات الطابع الدولي المختصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري. كانت المرة الاولى التي يسلم فيها الرئيس السوري بوجود المحكمة من خلال المطالبة بتعديل بندين في قانون إنشاء المحكمة المُقَر في مجلس الأمن الدولي.
إذاً، الدور التركي يذهب الى دمشق ودوداً، صديقاً، لكنه يخفي وراء ظهره سياسته العربية المتحالفة مع الاعتدال، وسلاح المياه الذي يمكن بواسطته توجيه ضربات في الصميم لاقتصاد اي بلد يعتمد الزراعة مصدراً هاماً له كسوريا.
****
على الجانب الآخر من تركيا، يقع العراق. الأمر هنا مختلف. اذ ان لتركيا مصالح مباشرة في العراق لم تعلنها إلا منذ اسابيع حين وجدت الخطة الامنية الاميركية تذهب الى مزيد من التدهور.
اعلن مجلس الأمن القومي التركي الذي يضم القادة السياسيين والعسكريين الممسكين بالحكم، انه لن يقبل بتغيير هوية مدينة كركوك التي تضم الاقلية التركمانية تاريخيا، فضلا عن حقول النفط.
وبدا على مجلس النواب التركي انه نادم على رفضه الدخول مع الاميركيين الى العراق، في الوقت الذي تزداد فيه رغبات الاستقلال عند الاكراد في شمال العراق. وما زاد في عناصر الندم ان المجلس نفسه وافق على المشاركة في قوات اليونيفيل في جنوب لبنان بألف عسكري تركي وصلوا براً عن طريق سوريا.
ومن المنتظر ان يزداد الاتجاه القائل بضرورة الحركة في اتجاه العراق، رغم معارضة جنرالات الجيش لهذا الدور. وهي معارضة لا بد من ان تتراجع في وجه الحاجة الوطنية التركية والرغبة الاميركية المقبلة، في حال اعتماد الادارة الاميركية مبدأ الحرب على ايران.
وكما حدث في افغانستان حيث كانت الحاجة الى التحالف اللوجستي والعسكري مع باكستان، كذلك في ايران حيث لا تحتاج واشنطن من دول العالم سوى الى الدعم السياسي من مجلس الأمن، والدعم الأمني من اوروبا ومنطقة الخليج. لكنها بالتأكيد ستحتاج الى ارض تركيا وقواعدها الجوية وقدرتها التموينية وعمقها الاستراتيجي.
حتى قبل ذلك، لا تستطيع الادارة الاميركية تجاهل الحاجة الى الدور التركي في العراق، حين سيظهر ان الخطة الأمنية الاميركية لم تستطع ايجاد تفاهم سياسي مستقر وطبيعي في العراق.
لن يكون من السهل على الادارة الاميركية المطالبة بهذا الدور من تركيا. اذ ان العلاقات الاميركية تتراجع منذ سيطرة حزب العدالة والتنمية على مجلس النواب والحكومة. ورفض الحكومة التركية التنسيق مع الجيش الاميركي في عملية اجتياح العراق، وعدم السماح باستعمال القواعد العسكرية التركية، مما جعل الخارجية الاميركية لا تعترف بشراكة تركيا في اي خطوة اميركية في الشرق الاوسط. مهمة السفير الاميركي الحالي في انقرة تنتهي في الصيف المقبل. ويقال في واشنطن ان تسمية سفير جديد لن تتم قبل وقت طويل.
القيادة العسكرية الاميركية ترفض هذه الاستنتاجات وتقول ان هناك طريقتين للحفاظ على الحليف التركي: الاولى ان تحتفظ به، والثانية ان تحتفظ به ايضا.
على الجانب الآخر، ينتقد الاتراك بحدة السياسة الاميركية في الشرق الاوسط، ويعتبرون ان التحالف الاميركي مع اكراد الشمال في العراق يفتح جروح المجتمع التركي التي لم تندمل من الحرب مع حزب العمال الكردستاني، خاصة ان الادارة الاميركية لا تشجع وهي قادرة على اقفال معسكرات التدريب لحزب العمال في شمال العراق.
مدير برنامج الدراسات التركية في مؤسسة واشنطن لدراسات الشرق الادنى سونر كاغابتي قال ان الادارة الاميركية ستكون غبية في حال عدم ترميم العلاقات الاميركية التركية في وقت تتراجع فيه كل القيم الاميركية في الشرق الاوسط. رجب طيب اردوغان رئيس الحكومة التركية، والزعيم الشاب لحزب العدالة والتنمية، يحاول من دون كلل اعطاء الانضباع بأن حزبه ليس إسلامياً، لان الاحزاب تخطئ والدين براء من الاخطاء.
ويركز اردوغان على حداثة حزبه وديموقراطيته في محاولة للتخفيف من غلواء دول السوق الاوروبية المشتركة في رفض انضمام تركيا إليها. فهل ينجح؟
****
كل المعطيات في منطقة الشرق الاوسط تؤكد فقدان التوازن وبالتالي غياب الاستقرار عن نتائج المشروعين الاميركي والايراني.
لن يقوم هذا التوازن على قاعدة المزيد من الاحتلال الاميركي للعراق او حتى لغيره من الدول. ولن يتأمن الاستقرار من خلال تنسيق سعودي ايراني مشترك. فمهما كانت الظروف التي تجعل من طهران تنفتح على من يخالف سياستها في المنطقة، الا انها لن تستمر على هذه السياسة. ولو استمرت فهي ليست حقيقية.
قال الملك عبد الله بن عبد العزيز انه ابدى امام علي لاريجاني استنكاره للتمدد الايراني في دول عربية في الوقت الذي لا يتدخل العرب في شؤون احد. لم يرو العاهل السعودي لضيفه اللبناني بماذا اجاب لاريجاني. لكن الضيف اللبناني يعلم ان للجواب الايراني ترجمات عديدة لا يكفي وقته مع الملك لشرحها. الرئيس فؤاد السنيورة بحث في الدور التركي مع وزيرة الخارجية الاميركية خلال لقائهما على هامش باريس 3 . ابدت المسؤولة الاميركية استغرابها لتلبية تركيا لهذا الدور، بعد ان رفضت التدخل العسكري في العراق، لكنها وعدت ببحث هذه المسألة جدياً.
حين ستفعل يستطيع اردوغان ان يقول للجنرالات وللعلمانيين ما رأيكم في ما تطلبه الادارة الاميركية منا؟
سيترددون في الاجابة، لكنهم سيشاركونه في الدور.