إنقلاب مصير رجل الصبر والنفور من الانقلابات

مقابلات مكتوبة 14 فبراير 2006 0

“النهار” تعرض سيرة رفيق الحريري في مرآة اغتياله: شهادات سياسيين ومثقفين (2من2)

أظن ان غالبية اللبنانيين تصالحت مع رفيق الحريري بعد اغتياله. قبل ذلك، أي منذ 1992 وحتى لحظة دوي الانفجار في السان جورج في 14 شباط 2005، كان الحريري مدار اشتباك بين الناس. وهو لم يحقق ما يشبه اجماعا وطنيا عاما ومعقولا على شخصه، الا في لحظات ومناسبات نادرة من حياته السياسية. لكن هذا الاجماع النادر او شبه المفقود او العابر، تحقق أخيرا على نحو غير مسبوق لأي شخصية سياسية لبنانية، ابتداء من لحظة اذاعة نبأ اغتياله وصولا الى نهار 14 آذار 2005. وهكذا انقلبت صورة رفيق الحريري وحضوره السياسي انقلابا مدويا في لحظة غياب الرجل الذي لم يكن يميل الى احداث أي انقلاب طوال حياته السياسية التي طبعها بطابع المساومة والدعوة الى التسويات والحوار.
قد تكون شخصية رجل الاعمال الناجح مصدر هذه الميزة في رفيق الحريري السياسي الذي لم يكن انقلابيا ولا ثأريا في حال من الاحوال، الى حد يمكننا من القول انه في نهجه وسلوكه وشخصيته لا يشبه ما أطلقته حادثة اغتياله وصولا الى 14 آذار.
لا، لم يكن من الاشخاص الذين يقدمون على ما يسمى “قلب الطاولة” في لحظات التأزم والضيق والغضب. فهو لم يكن غضوبا، بل واسع الصدر، وظل يردد كلمات: حوار، حوار، مصلحة الوطن، الوحدة الوطنية، ومثيلاتها من الكلمات والعبارات، حتى في أحلك الظروف، وفيما هو يلمح ان النفي او القتل ماثل وغير بعيد الاحتمال. لذا أجدني اليوم نادما على سعة الصدر التي كان يتحلى بها حيال ما تعرض وتعرضنا له من قهر كان يتحمله ونتحمله من دون ان نفعل شيئا او نرفع الصوت عاليا. وقد يكون ضربا من التوهم الجميل القول ان رفيق الحريري كان سينجو من قدره لو انه تخلى عن صبره وسعة صدره ورفع صوته عاليا. لكنني لن أكون متوهما قط اذا افترضت ان حادثة كبرى وقعت في لبنان وتماثل في ضخامتها حادثة 14 شباط 2005، لأرى رفيق الحريري على قيد الحياة يعمل في أناة وصبر وهدوء على اخراج الجيش السوري من لبنان، لكن من دون انفعال وغضب، وملتزما قرارات الشرعية الدولية.

الصبر والعذاب

قد يكون مضطرا اندفع الى خوض انتخابات نيابية ثأرية في سنة 2000، كأنه دفع دفعا الى ما يخالف خياراته المعتادة. وربما ساعده في ذلك ان نظام حافظ الاسد، الذي بدأ يعيش، منذ 1998، مرحلة انتقالية، كان في قلب لحظة انعدام القرارات الحاسمة مع بدايات تسلم بشار الاسد ومجموعته الحكم في دمشق وامساكهم الملف اللبناني. قبل ذلك، أي منذ 1992 وحتى 1998، كان رفيق الحريري يعرّج مرة في الاسبوع على دمشق، حيث يجمعه غداء او عشاء الى مائدة عبد الحليم خدام أو حكمت الشهابي اللذين كانا ممسكين بالملف اللبناني. ولأنه تعود على الرئيس حافظ الاسد وفريقه الى درجة جعلته يعتقد ان نظامه من بعده قابل للحوار، ظل مقتنعا حتى 2003، ان باب دمشق لم يقفل في وجهه، رغم انه صار يعيش كل نهار من الحوار مع بشار الاسد وفريقه، ابتداء من سنة 2000، وكأنه نهار من التعذيب الطويل.
فقط في اواخر سنة 2003 توصل الى اقتناع حاسم: من المستحيل ان تقوم حياة سياسية لبنانية سوية في ظل استمرار الدور السوري في لبنان. وهو توصل الى هذا الاقتناع بعد سلسلة طويلة من التجارب والاختبارات والمرارات التي لا يتحملها سوى رجل صبور كرفيق الحريري. ذلك ان حدة التوتر والتشنج والكراهية والحقد حياله، كانت قد بلغت ذروتها لدى بشار الاسد وفريقه الذي راحت تخرج من دواوينه شائعات تروج ان الحريري يعمل لمصلحة اميركا ويتواطأ مع صديقه جاك شيراك، وانه مذهبي سني ويعمل لافتعال مشكلة مذهبية… رغم انه ينفر من هذا السلاح، ولم يفكر في استخدامه يوما في حياته السياسية الطويلة.

الفجيعة السنية

المرأة التي شاهدها اللبنانيون في واحد من كليبات تلفزيون “المستقبل” ترتمي ارضا بين جمع من الناس المتحلقين حول ضريح رفيق الحريري، صارخة في تفجع غاضب وهي تخاطب صاحب الضريح قائلة: “قوم يا رفيق وقول مين قتلك، قوم”، ان هذه المرأة التي قيل لي انها بيروتية، كانت تطلق ما في صدور كثير من اهل بيروت من غضب والم ومرارة وحقد… منذ لحظة مشاهدتهم صور رفيق الحريري محترقا ورفاقه امام فندق السان جورج.
حين سألت عن هذه المرأة قيل لي انها جاءت الى الضريح فور وصولها من باريس، حيث كانت تعالج ابنتها الصغيرة من مرض عضال، على نفقة رفيق الحريري الذي لا رآها ولا رأته قط.
في تقديري ان هذه المرأة تشكل نموذجا صارخا لفجيعة اهل بيروت والسنّة في لبنان برفيق الحريري. فالسنّة اللبنانيون المحرومون، منذ سنة 1975، من زعامة تمثلهم تمثيلا فاعلا، يعيشون اليوم تجربة حادة وثأرية للمرة الاولى في تاريخهم السياسي الحديث. ذلك انهم، رغم ما حدث وساهموا في حدوثه، يعتبرون ان دم رفيق الحريري لا يزال مسفوحا على الارض في انتظار جلاء حقيقة من قتل الرجل الذي لم يكتمل اجماعهم عليه قبل سنة 2000. فطوال الحروب في لبنان حُرم السنّة المدينيون خصوصا، من زعامة تناسب نمط حياتهم الاجتماعية، فيما كانت الطوائف والجماعات الاخرى في حال من صعود زعامات عسكرية عضوية. لقد ملأ رفيق الحريري القادم رجل اعمال ناجحا من هجرته في السعودية، الفراغ الزعامي في الوسط السني المديني، على نحو بطيء وهادىء وسلمي. وما ان تحقق حلمهم فيه وعبره كمجدد لنمط الزعامة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ومضمونها، حتى جرى اغتياله على نحو وحشي ومشهدي فاجع. ومن علامات توقهم الى ملء الفراغ الزعامي في اجتماعهم الاهلي السياسي، انهم ظلوا يقولون “المفتي”، قاصدين المفتي حسن خالد، طوال سنوات كثيرة اعقبت اغتياله، لأنه كان يعبر، في وصفه مشروع زعيم سياسي، عن رفضه ورفضهم لتهميشهم وتهميش رجالات السياسة المدنيين في اجتماعهم.
وها هم اليوم يعتبرون ان ما حدث للمفتي حسن خالد، تكرر حدوثه لرفيق الحريري الذي انتظروه طويلا فاغتيل وهو في ريعان وعده اياهم بانصرام عهد زعامتهم المفقودة. لكن هناك شخصية سعد الحريري والواعدة، والتي قد تكون ظروفه السياسية أصعب من ظروف والده.

شريك الخسارة

نستطيع ان نحمل ما حدث بعد 14 شباط وصولا الى 14 آذار 2005 ما نريد ونرغب. فما حدث في مناسبة مرور شهر على اغتيال الحريري يشبه قوس قزح يحوي كثيرا من الالوان والاطياف. ورغم كثرة المساهمات والتعبيرات والاستنتاجات، استطيع ان اسجل ان المحرض، والمدبر الرئيسي للعملية السياسية ما بعد 14 شباط، كان وليد جنبلاط الذي لم يترك وسيلة وتحالفات واستنفارات الا واستعملها منذ لحظة الاغتيال وحتى 14 آذار. ويمكنني هنا ان اقول ان الزعيم الدرزي، لمح في لحظة اغتيال رفيق الحريري طيف والده او استعاده، وفتح ذلك الجرح الغائر والمندمل في موضع ما من نفسه. ثم علينا الا ننسى ان وليد جنبلاط كان يعتبر انه شريك رفيق الحريري في الخسارة جراء التغير الذي حدث في دمشق منذ سنة 1998. وهو رغم تجاوزه اغتيال والده وصبره على الوصاية السورية، تعرض للتشهير والتخوين والاهانة… لكنه على خلاف رفيق الحريري، نفد صبره باكرا، واعلن اعلانا صريحا ضيقه بتلك الوصاية المهينة.
لا ادري ان كان في استطاعتي ان اقول ان نفاد صبر وليد جنبلاط، القليل الصبر اصلا، وانتهاجه اخيرا سبل العلانية الصريحة حيال نظام المخابرات قد وضعه على سكة النجاة من الاغتيال، بينما وضع الصبر الطويل وسعة الصدر والصمت، شريكه في الخسارة على تلك السكة الفاجعة.
اما المسيحيون اللبنانيون الذين حطمهم نظام الوصاية السورية، فماذا كان يسعهم ان يفعلوا غير ما فعلوه بعد اغتيال رفيق الحريري الذي، رغم حيرتهم حياله واختلافهم والتقائهم معه بحسب الظروف، وجدوا فيه،وخصوصا في لحظة اغتياله الفاجع، رجلا لبنانيا وثيق الصلة بالحداثة والعصر والتقدم والاقتصاد العالمي، واذا اضفنا الى هذا كله شعورهم ان شريط صور رفيق الحريري مع رؤساء دول العالم، يظهره شخصية لبنانية اكيدة، لا زعيما سياسيا مسلما فحسب، نعلم لماذا حوله المسيحيون ايقونة لبنانية رفعوها لتحرير لبنان من الوصاية السورية الخانقة حتى الموت او القتل
(ن) مستشار سابق للرئيس الحريري