إلى الوراء.. دُر..

مقالات 21 أغسطس 2006 0

عاصر الشهيد رفيق الحريري أربع حروب اثنتان منها ضيفاً حاضراً مستمعاً مشاركاً في الحوار بقدر معرفته في ديوان المغفور له الملك فهد بن عبد العزيز.
الأولى الحرب العراقية الايرانية حين كان العاهل السعودي السابق يروي سوالفه مع الرئيس العراقي السابق صدام حسين ويشرف شخصياً على كل ما تحتاجه القيادة العراقية من مختلف أنواع الدعم. ثم يقرأ التقارير العسكرية التي تتحدث عن التقدم في هذه الجهة من الجبهة او تلك ليجد نفسه ممسكاً بالهاتف متحدثا مع صدام حسين مدققا فيما قرأه. مطمئنا الى ما سمعه.
كان الشهيد الحريري ضيفا جديدا على الديوان الملكي لذلك كانت الروايات التي يرويها حول تلك الفترة قليلة ومحصورة بالإعجاب بالادارة الحكيمة. الكريمة. الفاعلة للمغفور له الملك فهد.
الحرب الثانية هي الخطوة المجنونة التي أقدم عليها النظام العراقي السابق باحتلال الكويت. كانت الاحاسيس تتنازع الشهيد الحريري. فهو من ناحية لم يكن يشجع الوجود العسكري الاميركي في منطقة الخليج وخاصة في السعودية تحت عنوان تحرير الكويت من الاحتلال العراقي . ومن ناحية اخرى لم يفهم هذه الخطوة المجنونة من صدام حسين التي كان يمكن لكثير من التسويات أن تعطل حصولها مع قليل من الصبر. كان يقول لو ان الجيش العراقي اكتفى من تقدمه بوضع اليد على المنطقة النفطية الحدودية المختلف عليها فقط لكانت التسويات العربية والدولية سعت إليه كما لم تفعل من قبل.
لازم الشهيد الحريري السعودية ايامها رغم الصواريخ المنهمرة على الرياض بين حين وآخر. والتزم أكثر الحضور يوميا الى الديوان الملكي حيث التضامن في الاوقات الصعبة هو عنوان من يحضر. أما الغائب فله الله بعد انتهاء الحرب.
شهد على كثير من الاحداث في تلك الايام. وحفظ الكثير من الروايات. حتى انه سأل الشيخ سعد العبد الله ولي العهد الكويتي السابق في زيارة رسمية حول عدد من النقاط التي أراد التدقيق في احداثها. وخاصة الوساطة السعودية الاخيرة ما قبل الحرب والتي جرت في جدة بحضور الشيخ سعد ونائب الرئيس العراقي.
الجيش أولى الوقائع
الحرب الثالثة هي العدوان الاسرائيلي على لبنان في العام .93 كانت قد مضت سنة على توليه رئاسة الحكومة وكان يعتقد ان باستطاعته خلق الكثير من الوقائع التي تحرج اسرائيل امام المجتمع الدولي حين تعتدي على لبنان. ويربك حركة المقاومة الاسلامية المحسوبة على سوريا. أولى وقائع هذه المعادلة هي ارسال الجيش اللبناني للتمركز في الجنوب. بالفعل تشاور مع الرئيس الراحل الياس الهراوي والرئيس نبيه بري. واتخذ مجلس الوزراء قراراً بإرسال الجيش جنوباً. فإذا بقائد الجيش آنذاك العماد اميل لحود يتصل بالعماد حكمت الشهابي الرئيس السابق لاركان الجيش السوري سائلا إياه ما إذا كانت القيادة السورية موافقة على هذا القرار.
نفى العماد شهابي معرفته او موافقة قيادته على هذا القرار. طلب من العماد لحود الاتصال بالرئيس الأسد الأب. رفض العماد لحود تنفيذ قرار مجلس الوزراء وفتحت له الطريق عريضة امام رئاسة الجمهورية ولو بعد خمس سنوات. وقع الرؤساء الثلاثة الهراوي، بري، الحريري في فخ قرار إرسال الجيش وصار كل واحد منهم يفتش على حدة عن مخرج لعلاقاته مع دمشق التي اعتبرتهم مشاركين في قرار استراتيجي من هذا الحجم دون العودة الى مركز القرار اي العاصمة السورية.
للرئيسين الاول والثاني شفاعة تدخل في حساب الاخذ والعطاء بينهما وبين دمشق. اما القابع في الرئاسة الثالثة فلا شفاعة له. فكيف إذا كان هو صاحب المبادرة ومسوّق القرار؟
كنّا في صيدا برفقة الرئيس الشهيد لزيارة والديه رحمهما الله. فإذا به يقرر أن يزور ثكنة الجيش في صيدا متجاوزاً ومتجاهلا اجواء التوتر العاصفة بينه وبين قيادة الجيش. ذهب ضابط من المرافقة لابلاغ قائد الثكنة ان رئيس مجلس الوزراء سيزور الثكنة بعد ساعة. وصلنا الى الثكنة فإذا بالعسكري الواقف على الباب يتمهل في فتحه وكأنه لا يريد دخولنا. توقفت السيارات امام مبنى صغير يضم مكاتب القيادة. ضابط من رتبة متدنية ليستقبل الرئيس الشهيد. الجنود والضباط حولنا منصرفون الى اعمالهم وكأن لا زائر كبيرا لديهم. قائد الثكنة في مكتبه يطلب لنا الشاي دون استعمال اي من كلمات الترحيب. انتهت الزيارة خلال دقائق مع نسبة أعلى من التوتر في العلاقات بين الطرفين. الاول في صيدا والثاني في وزارة الدفاع في بعبدا.
الحرب الرابعة هي العدوان الاسرائيلي على لبنان في العام .96 كان الرئيس الشهيد في غاية التوتر والتأهب فهو يرى احلامه في العمران تنهار امامه واحدا بعد الآخر. تماسك الى حد الصلابة وقام بجولة المحطة الاساسية فيها هي باريس. كان واضحا ان الرئيس الفرنسي جاك شيراك يدعم موقف صديقه اللبناني رفيق الحريري الى حد التفرغ لدعمه في وقف اطلاق النار بين حزب الله والجيش الاسرائيلي.
الثلاثي الأسد
الحريري شيراك
هناك الكثير مما يقال حول الجهود الاخرى التي بذلت لكن كان من الواضح ان الثلاثي، الرئيس حافظ الأسد، الرئيس رفيق الحريري، الرئيس الفرنسي يمسكون بإدارة المفاوضات التي اثمرت اتفاق نيسان برعاية وزير الخارجية الاميركي وارن كريستوفر. الاتفاق ينص ببساطة على حصر الحرب بين العسكريين وتحييد المدنيين، إنما دون وجود للجيش هذه المرة في جنوب لبنان.
جاء التحرير من الاحتلال الاسرائيلي في العام .2000 لينتهي بعد طول معاناة الى ارسال قوة مشتركة من الجيش وقوى الأمن الداخلي الى الجنوب تتبع إمرتها لوزير الداخلية. فإذا بها فولكلورية الدور. تراقب دون ان تفعل. حتى جاء ما حدث في الاسبوع الماضي في ثكنة مرجعيون ليكشف مدى هشاشة هذه القوة وقائدها الذي مارس ببساطة دور العلاقات العامة حين دخل الجيش الاسرائيلي الى مكتبه في الثكنة، منسحبا أي الاسرائيلي من معركة في سهل الخيام حيث أنزلت فيه المقاومة خلالها خسائر كبيرة.
لماذا الجيش في الجنوب؟
صورة الدولة على الحدود
كان الرئيس الشهيد يعتقد وبإصرار ان وجود الجيش اللبناني على الحدود مع اسرائيل ينزع صفة التمرد او التطرف عن الدولة اللبنانية في حال تعرضها لمواجهة دولية دبلوماسية بعد اي اعتداء اسرائيلي. إذ ان وجود العلم اللبناني في صورة المواجهة مع اسرائيل يخفف كثيرا من القدرة الاسرائيلية على المزيد من الاذى العسكري. والمجتمع الدولي الممثل بمجلس الأمن يرى صورة النزاع بعين مختلفة حين يكون الجيش اللبناني في الواجهة. إذ ان اعلان النزاع دائما على انه بين جهة متطرفة من وجهة النظر الدولية مثل حزب الله ولو كان تحت شعار تحرير ارض محتلة مختلفا على هويتها يضعف وجهة النظر الرسمية اللبنانية في الحوار مع الخارج.
بدأ الجيش اللبناني في الاسبوع الماضي بالتمركز في المناطق التي ينسحب منها الجيش الاسرائيلي. بهدوء ودون انفعال ومع إحساس أكيد بالمسؤولية.
المر: الثقة والراحة
لم تكن هي المرة الاولى التي يدلي فيها الياس المر بحديث الى الزميل مارسيل غانم في L.B.C ولم تكن هي المرة الاولى التي يكون فيها المر وزيراً أمنيا اذ سبق له ان تولى الداخلية قبل الدفاع. لكن من استمع إليه في الاسبوع الماضي اكتشف فيه شيئا جديدا. لقد كان قادرا على منح الثقة لمن يسمع عن مسؤولية الجيش في المناطق التي انتشر فيها. وكان مقداما بهدوء كلامه وتعبيراته الى درجة الشعور بالراحة لمن يسمعه. مهما قيل عن الوجود المستتر لسلاح حزب الله في المنطقة الممتدة من الحدود حتى نهر الليطاني، فإن صورة الجيش اللبناني حيث هو الآن لا تعني إلا أن حق الامرة للجيش حيث يكون وبرضا حزب الله وموافقته. إذ ان الجيش العائد الى الجنوب بعد 37 سنة بدعم دولي وعربي ولبناني واضح لا يمكن له ان ينتظر ساعة انسحابه بقرار من غيره.
ما تضمنه القرار 1701 ليس اعلانا لنهاية الحرب في المنطقة ووصول التسوية السياسية على الحصان الاميركي بصرف النظر عن لونه. بل إن مضمون القرار وتدّرج تنفيذه يفسر الرغبة في استتباب الأمن على الحدود اللبنانية الاسرائيلية الى حين انتهاء المفاوضات بين جميع القوى المعنية بالنزاع العربي الاسرائيلي ولو احتاجت هذه المفاوضات إلى وقت طويل.
جديد التاريخ العربي
لقد دفع لبنان ما عليه في 33 يوماً حققت خلالها المقاومة طبعة جديدة من الصمود العربي. ليست جديدة فقط بل مختلفة عن كل ما تعوّدت أسماعنا سماعه وأبصارنا رؤيته منذ نشوء النزاع العربي الاسرائيلي.
اعادت هذه الايام الى الكرامة العربية غداً افتقدته وقوة اشتهتها وحزما لم تعرفه منذ زمن بعيد. بدا أنه يمكن لعربي ان يكون مدّربا، منظما، مؤمنا، مقاتلا، جاهزا، عارفا للعلم وقادرا على استعماله لخدمة قضيته. تتقدمه عمّة سوداء اختار صاحبها ايام التوتر ليهدأ والتأزم ليزداد هدوءاً.
تصرف السيد حسن نصر الله تجاه قرار مجلس الأمن الدولي 1701 على انه حقيقة لا يريد مخالفتها. إذ أنه حقق الاسطورة التي يريدها لسمعة الحزب. أزمة في إسرائيل عسكرية وسياسية. توتر عربي في الصف الرافض للمغامرات غير المحسوبة ولكن مع اعتراف أكيد بما للمقاومة من قدرة لا يمكن تجاهلها وتأييد داخل الدول العربية لا يجوز عدم رؤيته. وسعي حثيثا نحو اعادة صياغة مشاريع السلام العربي الاسرائيلي.
من هنا. حلحلت الموافقة على نشر الجيش. إذ ان السيد نصر الله يعرف من بين ما يعرفه ما يعني نزوح مليون مواطن من بيوتهم وأرزاقهم وعاداتهم. ومهما كانت التعويضات المادية والغذائية كافية للصمود فإنها ليست أسلوب حياة ولا قدرة للصمود يمكن استعمالها تكرارا. وإذا كان مجلس الأمن الدولي تقبّل دون اعلان بقاء سلاح حزب الله حيث هو إلى حين حل قضيتي مزارع شبعا والاسرى اللبنانيين، فإن الحزب تقبّل ايضا دون اعلان العمل على تسوية شاملة للنزاع العربي الإسرائيلي. شرط ان تستطيع الدول المعنية بها تحقيقها.
الحرب اللبنانية الأخيرة
هل يمكن المغامرة بالقول انها الحرب اللبنانية الأخيرة؟
محوران يتحكمان بالمنطقة هذه الأيام. الأول يضم فرنسا والولايات المتحدة والسعودية ومصر والأردن. كل الوقائع تدلّ على ان العدوان الإسرائيلي تم بالتكليف والتنسيق مع الإدارة الأميركية مما جعل باقي الدول تشعر بالإحراج قبل الانتصار فكيف بعده؟
نقطة الضعف الرئيسية في هذا المحور أنه لم يستطع لأسباب أميركية بالطبع أن يمنع حصول الحرب على لبنان ولم يستطع حتى الحؤول دون استمرارها. في الوقت الذي ينظر فيه الكثير من اللبنانيين والعرب طبعا الى هذا المحور على انه المعني والمسؤول والملزم بإنقاذهم من أزماتهم فإذا بالعكس يتحقق.
نقطة الضعف الثانية أن هذا المحور مسؤول عن ملف السلام في المنطقة بينما هو يحقق الخسائر الواحدة تلو الأخرى من العراق الى فلسطين الى لبنان. فكيف يمكن المراهنة عليه للنجاح في صيغة سلام شامل؟
خبر صغير لمفعول كبير
خبر صغير في صحف الأسبوع الماضي يعطي فكرة عن آثار حرب لبنان. طائرة إيرانية متوجهة الى دمشق عن طريق الأجواء العراقية. تمنعها السلطات العراقية من عبور أجوائها بعد ان ثبت بآلات التصوير الأميركية المتطورة أنها تحمل منصتي صواريخ و12 صندوق ذخيرة صاروخية. تحاول الطائرة العبور من الأجواء التركية. تُبلغها السلطات التركية انها تستطيع العبور بعد الهبوط في مطار عسكري لتفتيشها. تعود الطائرة من حيث أتت.
هل هذه الطائرة هي الأولى منذ احتلال القوات الأميركية للعراق؟ هل هي الأولى منذ صدور القرار 1559؟
بالطبع لا. لذلك فإن الوعي الأميركي للحلف الآخر الإيراني السوري حزب الله حماس جاء متأخرا جدا ولحق به العرب بدل أن يتنبّهوا له مبكرا ما داموا يعتبرونه خطرا عليهم.
الغريب انه فيما كان الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد يلقي خطابا ثأريا عن عداواته مع اللبنانيين، كان وزير الخارجية الإيراني محمد علي متكي يزور تركيا ومصر واليمن داعيا رؤساءها الى تفهّم حزب الله وسلاحه.
خطاب الرئيس السوري أغلق الباب أمام انعقاد قمة مكة التي تعمل السعودية على عقدها، ولو مؤقتا. إذ ان نهاية هذا الشهر الموعد المحدد للمهلة المعطاة لإيران من قبل مجلس الأمن الدولي لوقف التخصيب النووي قبل أي مفاوضات. والحادي عشر من الشهر المقبل هو موعد انتهاء مهلة الشهر التي اعطيت للأمين العام للأمم المتحدة للتفاوض مع بيروت ودمشق وطهران وتل أبيب حول تنفيذ القرار .1701 ومنتصف الشهر المقبل هو موعد التقرير الثالث لرئيس لجنة التحقيق الدولية سيرج برامرتس المقيم ولجنته في قبرص.
لن تذهب هذه التواريخ الثلاثة بنشوة النصر الذي حققته المقاومة. بائع السجاد الإيراني سيبتكر صيغة لإعادة الحياة الى مفاوضاته مع الاتحاد الأوروبي حول ملفه النووي ولو اضطره ذلك الى الظهور بمظهر منكسر الخاطر في سعر سجادته النووية. برغم كل الكلام عن الاهداف الايرانية التي تنتظر القصف الاميركي في ظل استحالة استعمال ذراع حزب الله حيث يقال ان له خلايا نائمة.
التوتر السوري ليس جديدا لا في الشكل ولا في المضمون وإمكان الادعاء بأن هناك قوى لبنانية تتآمر على نظامه انتهى مفعوله قبل انتصار حزب الله فكيف بعده؟ إلا ان السياسة السورية لا تستطيع الاستفادة من الانتصار اللبناني لتحقيق تقدم في سياستها. ليس بسبب الحصار المفروض على البلدين بل لأن البحث في الحل الشامل يجعل السوري شريكا ملزما بالبحث في الصيغة المقبولة منه اولا. وإذا ما بدا ان هناك انقطاعا سعوديا مصريا مع دمشق بعد خطاب الرئيس الأسد فإنه ليس الانقطاع الأول ولن يدوم طويلا. وزيارة الأمين العام للأمم المتحدة الى دمشق في الأسبوع المقبل ستظهر أن الحل الشامل هو المجال الوحيد المتاح أمام تقدم السياسة السلمية في المنطقة. ما دام يطال فلسطين وسوريا ولبنان.
لقد عانت سوريا طويلا من منطق الحلول المتفردة الذي اتبعته مصر أولا ثم الأردن. لذلك فهي لا يمكن ان تقبل ولو عنفا احتمال تكرار ذلك في أي بلد عربي. ولا يمكن ان تترك فرصة يُفتح فيها الباب امام الحل الشامل دون ان تسرع اليها.
لكل هذه الأسباب ستبقى صورة الجيش في الجنوب على ما هي من جدية وفاعلية ولن يستعمل احد مع الجيش التعبير العسكري إلى الوراء.. در.. .