إلا المحكمة يا “دولة الرئيس”..

مقالات 20 نوفمبر 2006 0

يعرف الرئيس الحرّيف نبيه بري بين ما يعرف من القواعد الأساسية للإدارة السياسية للطائفة الشيعية ان ليس لتمثيل هذه الطائفة السياسي القدرة على المشاركة حضوراً او تصويتاً او تأييداً للمحكمة ذات الطابع الدولي المخصصة لجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
ليس رفضاً من هذه الطائفة لعنوان المحكمة، إذ ان العدل مطلب كل الطوائف. وليس تجنباً لاسم الرئيس الحريري ولا هرباً من الاشتباك السني الشيعي السياسي المفتعل من كل الأطراف. ولا طمعاً بحصة مضافة في الشراكة الحكومية كما ينادي قادة حزب الله .
ولا حرصاً على التحالف مع التيار الوطني الحر المستحق لتمثيله الحكومي بمعزل عن اللغة السياسية غير اللائقة التي استعملها العماد ميشال عون في وصفه للرئيس فؤاد السنيورة او لآخرين ممن استحل شتمهم.
العنصر الأساس في رفض الشراكة في المحكمة ذات الطابع الدولي من الإدارة السياسية للطائفة الشيعية هو العلاقات التاريخية بين النهضة السياسية لهذه الطائفة وبين النظام السوري منذ عام 1970 وحتى اليوم.
يعرف الرئيس بري كما يعرف غيره من قياديي حركة أمل طبيعة هذه العلاقة بين الإمام المغيّب موسى الصدر وبين الرئيس الراحل حافظ الأسد والمستمرة حتى الآن عبر قنوات مختلفة ومصالح مشتبكة ورموز جديدة.
لا يندرج هذا الأمر على الطائفة الشيعية بمعنى مجموع المنتمين إليها. بل هي علاقة حصرية بين القيادة السياسية الشيعية وبين القيادة في دمشق. لذلك فإن شخصيات عامة، سياسية واقتصادية ودينية لا تقبل بهذه الصيغة وتعمل على عكسها، بصرف النظر عن أحجام هذه الشخصيات او قدرتها على التأثير.
يعرف المحامي بري ان المشاركة ليست العنوان السياسي لهذه المرحلة، سواء أكانت في ثلث الحكومة او أكثر او أقل.
ويعرف الزعيم الشعبي بحسّه المرهف سياسياً ان التعبئة تحت هذا العنوان لا تصبو الى تحقيق هذا الهدف المعلن. ولا تحقق شيئاً من الاستقرار الذي يريده لجمهوره ثم لوطنه.
وبالتأكيد يسمع الصديق الرئيس بري الكثير من التساؤلات القلقة. المرتبكة. الخائفة على مصير افراد وعلى مستقبل وطن من مراجعين او مجاورين او مريدين. العنوان الأساسي للعمل السياسي هذه الأيام هو المحكمة ذات الطابع الدولي والتي تحاول القيادة السياسية السورية بأي شكل من الأشكال عرقلة إتمام إنشائها في لبنان بعد عودة المسودة الى بيروت من مجلس الأمن الدولي في نيويورك هذا الأسبوع. إذ يفترض قانوناً إقرارها في مجلس الوزراء وإحالتها الى رئاسة الجمهورية كمشروع قانون قبل أن يحيلها بدوره بعد التوقيع عليها الى مجلس النواب لإقرارها والبدء في تشكيلها.
لن يكون مفاجئاً عدم توقيع رئيس الجمهورية بعد مرور الخمسة عشر يوماً الذي يمنحه إياها الدستور للتوقيع. لكن المخرج الدستوري هو توقيع 30 نائباً لمشروع قانون بالنص الذي أقرته الحكومة. مما يلزم الرئيس بري بحسب النظام الداخلي للمجلس عقد جلسة عامة يدرج الاقتراح النيابي في جدول أعمالها. فهل يفعل؟
بري: حفظ المقاومة ودم الحريري
أستطيع القول من موقع المحاور للرئيس بري إنه ملتزم بأمرين، الأول هو حفظ المقاومة والثاني هو الوفاء لصداقته مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
في الأمر الأول مارس الرئيس بري قناعته في المفاوضات السياسية التي خاض غمارها في حرب تموز الإسرائيلية على لبنان وحقق بالشراكة مع الرئيس السنيورة نجاحاً تعترف المقاومة له به بينما تمنع الاعتراف نفسه عن رئيس الوزراء. بل إنه ضبط نفسه ورغبته بالانفجار من حجم المصاعب التي ظهرت في طريقه الى حد الاعتزال من أي كان واللجوء الى مقر إقامة مختلف عن إقامته الرسمية منعا لخطأ قد يرتكبه في الوقت غير المناسب.
عند انتهاء الحرب أنصف شراكته السياسية بالإعلان من مدينة صور ان هذه الحكومة هي حكومة المقاومة السياسية.
لم يخف الرئيس بري فرحته من وقف إطلاق النار في الجنوب. ولم يخف تقديره لعظمة العائدين الى قراهم يسابقون الساعة الثامنة من يوم وقف إطلاق النار. ولم يتجنب تبنيه للنقاط السبع الصادرة عن الحكومة اللبنانية ولا للقرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن الدولي.
حرص الرئيس بري حتى الأمس أن يكون ميزان العدل الوطني بين مجموعات سياسية متشابكة تستدرج الأوهام في حركتها بدل ان تعالج الوقائع. حتى انه يمكن القول انه يريد لأيام قديمة ملأى بالمعارك أن تنساه ولصفحات من التاريخ مكتوبة بقسوة وحدّة أن ينساها.
جاءه المأزق الأخير الذي يعتبر الأعقد في تاريخ رئاسته للمجلس النيابي ليجعله يخرج عن مساره المقرر حديثاً الذي يريده الرئيس بري لنفسه أكثر مما يريده المؤيدون له. فما الذي دفعه الى القول أن هناك مجلس قيادة عسكرياً يحكم البلد؟
من حيث الوصف يجوز على كلامه صفة الاعتداء السياسي المماثل لما يقوله الآخرون بحق بعضهم البعض. ومن حيث المكان فطهران مدينة متطلبة سياسياً ولا يمكن اعتبار ما قاله هناك استجابة مرضية لما قد يكون قد سمعه في المجالس الخاصة. مع العلم انه نادراً ما يفصح الإيرانيون عن مكنوناتهم السياسية بصراحة ووضوح حتى لو كان الزائر صديقاً ورئيساً للمجلس النيابي اللبناني. لكنه ليس حليفاً. وإن كان يعترف بالدور الإيراني الضروري لتسوية أزمات المنطقة وليس لبنان فقط.
المقداد في الرياض: بداية ناعمة
في الزيارة الوحيدة التي قامت بها وزيرة الخارجية الأميركية كوندليسا رايس الى مقر الرئاسة الثانية في عين التينة، سألها الرئيس بري بهدوء الذي يريد أن يبعث برسالة لا ان يحصل على جواب، هل هناك اتصالات بينكم وبين طهران. جاءه الجواب سريعاً بالنفي مع تأكيد الوزيرة الأميركية على انقطاع الاتصالات مع الحكومة الإيرانية. الرئيس بري الباحث عن الوقائع. الرافض لاستدراج الأوهام يفترض أن يكون قد سأل باعثاً برسالة لا منتظراً للجواب. يفترض انه سأل المسؤولين الإيرانيين الذين قابلهم عن مسار العلاقات السعودية الإيرانية متحدثاً عن مدى قدرة هذه العلاقات على إشاعة جو إيجابي في العالم العربي. ويفترض ايضا انه سأل عن ملابسات العلاقات السعودية السورية وكأنه لا يعلم. وشارحاً لتاريخية هذه العلاقات وأهميتها للمنطقة العربية وللبنان خاصة.
بالتأكيد لم يسمع الرئيس بري الجواب. لكنه سمع أوله من نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد الذي وصل الى السعودية للمشاركة في مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية.
هل يمكن اعتبار هذه الزيارة بداية ناعمة لترطيب الأجواء بين الرياض ودمشق؟ لا يمكن الجزم حتى الآن. إذ أن الانفعال السوري منذ الحرب الإسرائيلية على لبنان وحتى الآن. لا يترك مجالاً واسعاً للتفاؤل. فكيف إذا اضيفت الى القراءة السورية لظروف الحرب على لبنان، المحكمة ذات الطابع الدولي التي تعتبرها دمشق سيفاً مصلتاً عليها في يد الإدارة الأميركية.
من يتحمل مسؤولية عرقلة المحكمة؟
قرار إنشاء المحكمة ذات الطابع الدولي مماثل من حيث الأهمية للقرار 1701 الذي تم بموجبه نشر تسعة الاف وخمسمئة جندي دولي في جنوب لبنان. وسيعتبر مجلس الأمن الدولي الذي سيُصدر بقرار او بيان رئاسي صيغة المسودة الأخيرة هذا الأسبوع، سيعتبر مجلس الأمن أن عرقلة إنشاء المحكمة بمثابة اعتداء في مجلس الأمن. فمن يتحمل مسؤولية هذا الاعتداء ؟
لبنان دولة صغيرة في المنطقة وليس من طبيعة الدولة فيها الاشتباك السياسي مع قوى دولية. بل إن انتشار علاقاتها مع عواصم العالم يقوم على شخصية الدولة التصالحية مع المفهوم الدولي لعلاقات الدول ببعضها البعض.
هذا من حيث المبدأ. أما من حيث التفاصيل المملّة فإن الحكومة اللبنانية هي التي طالبت بإنشاء هذه المحكمة بإجماع الحاضرين لجلستها وغياب وزراء حزب الله وحركة أمل لاعتراضهم على بحثها قبل الوقت اللازم لدراستها.
هذه المرة تكرر السيناريو مع نسبة أعلى من الاندفاع أي استقالة الوزراء. إذ أن السبب المعلن لرفض إقرار المحكمة هو إسراع رئيس الوزراء لوضعها على جدول الأعمال والموافقة عليها دون إعطاء القوى السياسية المعترضة عليها الوقت الكافي لدراستها.
دراسة ماذا؟
النص الذي وصل الى بيروت من مجلس الأمن هو نفسه المنشور في الصحف قبل شهرين. مع إضافة سطر واحد ينص على عدم صلاحية هذه المحكمة لمحاكمة الرؤساء. وهو اختصار التعديلات الروسية التي وصل عددها المعلن الى أحد عشر تعديلاً.
ليس هذا هو التعديل الوحيد في السياسة الروسية. إذ أن روسيا التي تبني المفاعل النووي الإيراني اقترحت نقل التخصيب النووي الإيراني السلمي الى الأراضي الروسية بعد ان كانت تدعم الحليف الإيراني طوال الأشهر العشرة الماضية من المفاوضات. الثمن المعلن هو موافقة الولايات المتحدة الأميركية على دخول روسيا الى منظمة التجارة العالمية. مما يعطي الصناعة والتجارة الروسية دفعاً كبيراً في جميع أنحاء العالم. ويجعلها تستفيد من الإعفاءات الممنوحة للدول الأعضاء في المنظمة الدولية.
البند الآخر غير المعلن هو انه مع انحسار الدور الآحادي الأميركي في العالم والعودة الى الاعتراف بالمجموعة الأوروبية اولاً سيفضي الى الاعتراف بدور تريده روسيا في منطقة الشرق الأوسط ولا تستطيع القيام به إلا وهي على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة.
من يرغب في مواجهة تفاهم روسي، أميركي، أوروبي؟
لا الحكومة اللبنانية بوزرائها المستقيلين او بدونهم قادرة على هذه المواجهة ولا راغبة بها بطبيعة الحال. ولا ميزان القوى الداخلي يشجع أحد الأطراف على انقلاب بهذا الحجم. إذ أن ما يبدأ في بيروت حيث مقر مجلس الوزراء الذي سيقر إنشاء المحكمة، ينتهي في الناقورة حيث انتشار قوات الطوارئ الدولية.
لذلك تبدو المعركة الحالية وكأن من لا يستحق يطلب ممن لا يملك.
السنيورة: مفرط جداً في الايجابية
يستوعب الرئيس السنيورة هذه الوقائع في خريطته السياسية. إذ ما ان ينهي مكالمة مع وزيرة الخارجية الأميركية حتى يتلقى اتصالا من زعيم أوروبي.
لا تسمع من كلامه إلا الإصرار على استكمال تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي في جنوب لبنان. يوازي بين عمله في الداخل حيث الاتهامات الموجهة إليه لا تدخل عميقا في نفسه. وبين الإصرار في كل حديث على تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة أي مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. ووقف الاختراقات الإسرائيلية براً وبحراً وجواً.
يبدو عليه التوتر حين يتحدث عن الخروقات الجوية الإسرائيلية. ويتوتر أكثر حين تسأله كيف للأمم المتحدة أن تنهي قضية المزارع في الوقت الذي تعرقل فيه إسرائيل قضية الانسحاب من قرية الغجر؟ يؤكد أن اتصالاته وجهوده كلها في هذا الاتجاه. وهو يعمل على هذه الملفات بشكل يومي.
قراءته للخريطة الدولية تشجعه على القيام بزيارة روسيا بعد ان تحدث هاتفياً مع الرئيس فلاديمير بوتين مرتين تجاوزت المكالمة منهما عشرين دقيقة.
لا تأخذه السياسية المحلية من الذهاب نحو الجنوب بنظره. يتصرف برزانة ورصانة قدر الإمكان تجاه الاتهامات التي توجه له. يعتبرها اتهامات سياسية متجاوزاً المعنى الشخصي منها. يحرص على العلاقة مع الرئيس بري ولا يأتي على سيرة قيادة حزب الله لا من قريب ولا من بعيد. يحسب حساباً كبيراً للحوار ويترك الباب مفتوحاً أمام كل الاقتراحات. لا يبدي رفضاً او قبولاً لأي اقتراح جديد على مسيرته. بل يخّزنه في ذاكرته حتى تنضج ظروفه. لا يعطيك الانطباع بأنه يصرف من مخزون العصبية المستجدة له في المدينة. بل يحرص على التصرّف بهذا المخزون في إطاره الإيجابي لاستعماله في مجال إعطاء الآخرين وليس الأخذ منهم.
يعتبر قرار المحكمة ذات الطابع الدولي نهائياً ولا عودة عنه. لكنه يريد ويحاول ان يتم هذا الأمر بالرضى والتوافق الوطني الذي سبق ان طالب به الرئيس بري.
خلف وجهه المرتاح في فترة الغداء تضجّ أسئلة كثيرة لا يقولها ولا يبدو أن إجاباتها الأكيدة ملك يديه.
هل يتملّكه القلق؟
حين تستعرض أمامه ارتباط قرار المحكمة بالقرار 1701 يشير بإصبعين ثابتين ويقول إنهما متوازيين، في إشارة الى تلازمهما.
سعد يروي حكاية الاقتحام
في قريطم المبنى المنزل الجديد لا يخفي سعد الحريري فرحته بقرار إنشاء المحكمة ذات الطابع الدولي. يقول إنها ليست ثأراً لمن اغتيلوا وكبيرهم والده. بل هي قرار يحفظ من تبقّى ويضع الاستقرار اللبناني في إطاره الثابت والدائم. فلا يعود أحد يستسهل الاغتيال والقتل والتفجير.
يبدو الحريري مرتاحاً الى سير أمور القرار الدولي. متجاوزاً الاتهامات التي وجهها باسم قوى الرابع عشر من آذار الى سوريا وإيران. ينفي الحريري الرواية التي تقول إنه دخل على الرئيس بري في خلوته مع النائب محمد رعد في الجلسة ما قبل الأخيرة للتشاور ووافق على المقايضة تحت عنوان حكومة الوحدة مقابل المحكمة. ويروي انه بحث الأمر ولكنه استمهل للتشاور مع رفاقه في السياسة الذين لم يوافقوا على هذا الطرح. وبالتالي فإنه حريص على الرئيس بري وعلى دوره الوفاقي اللبناني.
لا يبدو عليه القلق من التطورات بل يرمي بثقلها كلها على أكتاف الرئيس بري.
بدا قريطم المنزل المبنى الجديد ليل الإثنين الماضي وكأن الحياة عادت إليه من جديد.
هل تتحمل أكتاف الرئيس بري ما يرمى عليها؟
الرئيس بري يعلم بالتأكيد ان التوافق العربي، وعلى الأخص السعودي السوري، هو المخرج المناسب والممكن للمأزق الذي يعيشه لبنان. ويمكن القول إن ايران لا تعارض هذا التوجه حتى لا يقال انها تعمل عليه. هذا في السياسة الواقعية صحيح.
والصحيح ايضاً ان رئيس اللجنة الدولية للتحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الحريري سيرج برامرتز سيقدم تقريره الأخير الى مجلس الأمن الدولي في الخامس عشر من الشهر المقبل.
تطورات تشكيل المحكمة ستطبع التقرير إما بالجديد من المعلومات التي ستذاع للمرة الأولى، وإما بالتقنيات التي سبق ان قرأنا منها الكثير.
لكن هذا لا يغير من الحقيقة الممسكة بالسياسة اللبنانية منذ اغتيال الرئيس الحريري. وهي ان جمهور رفيق الحريري الممتد على كل الأراضي اللبنانية لا يزال يتصرف على أن دمه ما زال على الأرض. لا تلمّه إلا المحكمة.
إلا المحكمة يا دولة الرئيس … فتكون كتبت تاريخك من جديد…