أي مرجعية تقرر للبنانيين مستقبلهم؟

مقالات 24 أكتوبر 2005 0

تفتحت الزهور البيضاء على ضريح الرئيس رفيق الحريري صباح الجمعة الماضي. بقيت ساهرة كل الليل حتى الصباح تنتظر تقرير اللجنة الدولية للتحقيق في اغتيال صاحب الزهور. تتنقل من محطة تلفزيونية الى اخرى. تتابع المستجدات في عواصم العالم. تلتصق استماعاً بالانباء الآتية من نيويورك عاصمة مجلس الأمن الدولي والعالم هذه الأيام.
تفرجت على صورة القاضي الالماني ديتليف ميليس يسلّم التقرير الى الامين العام للأمم المتحدة كوفي انان، لم تنتظر الزهور. استعملت كل مفاتيحها لكي تأتي بالتقرير بنصه الاصلي الى الضريح. هو وحده يستطيع ترجمة ما جاء فيه سياسياً. قانونياً. جنائياً.
لو توفر هاتف دولي لكان أيقظ كل اصدقائه في مختلف عواصم العالم وهم كثر. يسأل، يستفسر، يدقّق. لا يرتاح إلا وهو متأكد من فهمه لكل سطر ورد في التقرير. أسبابه. موجباته. لماذا استُعمل تعبير بدل آخر. اين باقي المستندات. الادلة. الوقائع. لماذا غابت عن سطور التقرير. يحصل على الاجوبة. يرتاح.
هذا لم يتحقق، لأن كل المتداخلين والمتدخلين في التحقيق الجنائي للجنة الدولية يعرف جزءاً من الأجوبة. لا احد يملك كل الاجوبة إلا القاضي ميليس.
يترك جزءاً منها لاستعماله في مناقشات مجلس الأمن غداً. سوف تكثر عليه الاسئلة المتضاربة. المندوب الاميركي يتزعم حملة فرض عقوبات صارمة على سوريا المتهمة بشكل واضح في التقرير. المندوب الفرنسي أشد صلابة في دعم الموقف الاميركي. المندوب الالماني سيأخذ في الاعتبار جنسية القاضي وبالتالي لا بد من تبني تقريره وإجاباته بالكامل. المندوب الروسي يدعو الى قراءة متأنية للتقرير قبل اتخاذ اي قرار ويسأل ميليس عمّا لديه من أدلة وقرائن لم ترد في التقرير. يحاول قدر المستطاع إدارة حوار عقلاني مدقق في مضمون التقرير. الصين تعتمد نفس السياسة. كلاهما لا ينجح. وإذا نجحا ففي تأجيل فرض العقوبات. مما يعني اعطاء سوريا “فترة سماح” لكي تظهر تعاونا كاملا غير مشروط مع لجنة التحقيق.
هل يُفتح الباب امام “فترة السماح”؟
مصادر في لجنة التحقيق الدولية وافقتها مصادر التحقيق اللبناني تقول ان التقرير عدّل واجتزئ منه ثلاث مرات لثلاثة أسباب.
الاجتزاء الاول سببه عدم اكتمال التحقيق في نقاط واردة على جدول اعمال التحقيق. شهود لم تكتمل شهادتهم. ادلة بحاجة الى تدقيق. مشبوهون لم يجر توقيفهم بعد. طلبات الى السلطات السورية لم تلبَّ. مثل على ذلك ان الشاهد محمد زهير الصديق الذي تحول بسبب التناقض في إفاداته الى مشتبه فيه ومرتكب مشارك في الجريمة أتى على ذكر اللواء المنتحر غازي كنعان وزير الداخلية السوري في شهادته. التقرير لم يأت على ذكر هذا الموضوع لا من قريب ولا من بعيد. أكثر من ذلك. لم يقل التقرير ان لجنة التحقيق الدولية طلبت من السلطات السورية المشاركة مباشرة في التحقيق في وفاة الوزير كنعان بما في ذلك تشريح جثته لتبيان اسباب وفاته.
التعديل الثاني تعمد إخفاء اي اشارة تظهر هوية الشاهدين الآخرين غير الصديق.
التعديلان الاولان حصلا في مونتفردي حيث المقر اللبناني للجنة التحقيق. حيث بقي فريق عمل القاضي ميليس يعمل حتى منتصف ليل الاربعاء بتوقيت بيروت.
التعديل الثالث حصل في نيويورك بعد تسلّم الامين العام للتقرير من رئيس لجنة التحقيق. الرواية المتداولة تقول ان انان وزّع نسخا من التقرير كما تسلمه الى الدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن. وان النسخة البريطانية وصلت صحيفة “الواشنطن بوست” الاميركية.
النسخة الاولى الموزعة تتضمن أسماء كبار الضباط السوريين. رئيس المخابرات العسكرية اللواء آصف شوكت زوج شقيقة الرئيس بشار الأسد. العقيد ماهر الأسد مسؤول الحرس الجمهوري وشقيق الرئيس الأسد. اللواء بهجت سليمان المسؤول حتى فترة قريبة عن الفرع الداخلي في المخابرات العامة. اللواء حسن خليل الرئيس السابق للمخابرات العسكرية.
كذلك حذف اسما اللواء جميل السيد والعميد مصطفى حمدان من رواية الشاهد الثاني حول ذهابهما الى دمشق ومشاركتهما في اجتماعات عقدت في فندق ميريديان وأخرى في مكتب مسؤول أمني كبير سوري يقصد به اللواء شوكت ايضا.
لا شك في ان ظهور النسخة المعدلة شكل إحراجا كبيرا للامين العام ولرئيس لجنة التحقيق. فهل يصح القول ان ما حدث هو خطأ تقني؟
أولاً يتضح من مراجعة النسخة المعدلة على حد وصف قاض كبير ان التعديل جرى بسرعة فائقة أفقدت النص الاصلي تماسكه لغة ووقائع وأسماء. بالتالي فإن هناك قراراً كبيراً بحذف هذه الاسماء في “فترة السماح” على الاقل.
هذا القرار ينبع من الصياغة المصرية لكيفية التعامل مع النظام السوري في هذه المرحلة. الرئيس حسني مبارك الذي التقى الرئيس الأسد في القاهرة ثم اتصل بالرئيس الفرنسي جاك شيراك. بعدها زار السعودية للقاء الملك عبد الله. من هناك بدأ الحوار مع الادارة الاميركية حول صياغته. السيناريو المصري يقول بقراءة متأنية اولاً للتقرير. ثانيا تأجيل تسمية المسؤولين العسكريين الكبار في النظام السوري الآن. ثالثا اعتماد فترة التحقيق المستمرة حتى 15 كانون الاول كفترة سماح لجلب الرئيس الأسد الى دائرة القبول بقرارات المجتمع الدولي. وإلا فليتحمل كل واحد مسووليته.
يستند هذا السيناريو من وجهة نظر الرئيس مبارك إلى ضرورة تجنب فوضى جديدة في المنطقة تضاف الى فوضى العراق بأي شكل من الاشكال.
حركة الرئيس المصري المتأنية والهادئة والمحتوية للموقف السوري المتمرد سهلت نجاحه في مسعاه حتى داخل مكتب الامين العام للأمم المتحدة. فجاء النص الجديد المعتمد لمناقشة مجلس الأمن متفهما للصياغة المصرية.
وزير لبناني يقول ان مفاوضات بعيدة عن الشاشة تجري بين واشنطن ودمشق عبر الجانب المصري. وان رئيس المخابرات المصرية اللواء عمر سليمان زار دمشق منذ ايام حاملاً اسئلة محددة وعاد بإجابات محددة. ايجابية ام سلبية؟ لا يجيب الوزير لكنه يوضح ان التعديلات التي اجريت على التقرير توحي بإيجابية محدودة في الاجابات السورية.
هل هذا يعني تسييس التقرير على طريقة وصف المسؤولين السوريين لعمل لجنة التحقيق؟
جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري جريمة سياسية من الدرجة الاولى. لم يقتل الرئيس الحريري ومن معه لأسباب شخصية. بل بسبب حجمه وقدراته السياسية. الجديد في نظريات القتل السياسي ان من يُغتال يكون لمنعه من دور مستقبلي وليس ثأراً من ماض كما كانت العادات القديمة.
التحقيق في جريمة الاغتيال جنائي تقوم به لجنة محترفة من المحققين والقضاة الدوليين. يساندهم في ذلك القضاء اللبناني الذي اختلفت حركته تماماً بعد التعيينات الاخيرة التي حدثت في مواقعه الرئيسية.
النتيجة بطبيعة الحال سياسية وليست مسيّسة. سياسية لأنها تطال نظاماً مقرراً للجريمة في سوريا ومشاركاً فيها، ونظاماً كان قائما في لبنان وبقي منه الرئيس العماد إميل لحود.
فريقه الأمني في السجن. فريقه السياسي اختفى عن ساحة التأثير في المتغيرات. اعتقل متصل به قبل دقائق من الانفجار الذي أودى بحياة الرئيس الحريري ورفاقه. هو من تنظيم “الأحباش” الذي أشير إليه وكأنه صاحب دور ما في ترتيبات الاغتيال. جاء ذلك في تقرير لجنة التحقيق الدولية. المحققون الرئيسيون في اللجنة طلبوا موعدا من رئيس الجمهورية للاستماع إليه بصفة شاهد. هكذا تبدأ التحقيقات دائما بانتظار تغيير الصفة من شاهد الى مشتبه فيه.
بانتظار ذلك كيف يمكن لمن يسكن في قصر بعبدا الرئاسي ان يكون رئيسا لجمهورية لبنان؟
الجواب على طريقة الأواني المستطرقة التي كلما تحركت واحدة منها تتحرك كلها. السؤال عن رئيس الجمهورية يجر الى سؤال آخر. من هي المرجعية السياسية للبنانيين في تقرير شؤونهم؟
تصرف اللبنانيون، ومنهم السياسيون، على أنهم يعيشون فترة انتقالية يذهبون بعدها الى الثوابت في مواقعهم ومواقفهم واختياراتهم. إذا بهم يقعون في الفراغ. كل زعيم من زعماء طوائفهم يقف على زاوية من وطنهم لمنع الآخر من الاقتراب من قلب الساحة الوطن.
جاء التقرير الأولي للجنة التحقيق الدولية ليضع الجميع امام خيارات واضحة ومحددة لا مجال للالتباس فيها أو الدوران حولها. انتهت المرحلة الانتقالية. الفراغ مكلف للجميع. على القادة ان يأخذوا خيارهم. هذا إذا صح مضمون القيادة عليهم.
هم معنيون الآن بمستقبل النظامين اللبناني بمعنى “العقبة” الرئيس لحود، والسوري بما يتصل بموقفهم من النظام المتهم باغتيال الرئيس الحريري. المبادر الأول كان سعد الحريري بصفتيه الشخصية لكونه نجل الشهيد، والعامة بصفته وريثه السياسي والمسؤول عن الكتلة النيابية الأكبر في المجلس. جاء نصه السياسي الأول في منتهى الدقة والمسؤولية. ترفّع عن مشاعر الغضب وهذا ليس بسهل عليه. دافع عن مشروع إنقاذ لبنان واسترداد سيادته وحريته. التفّ مع الشعب اللبناني على شعار الحقيقة. تبنى نتائج التحقيق المبدئية الدولية. دعا الى صون عروبة لبنان.
قرأ بعين رجل الدولة “لن نقبل ان تكون نتائج لجنة التحقيق وسيلة للاقتصاص السياسي او غير السياسي في ساحات اخرى”.
أخرج نفسه من ساحة الثأر الى منطق النجاح. ذكّر بحقائق التاريخ المشترك مع الشعب السوري شقيقا وعزيزا.
تجنب كل المواضيع الخلافية اللبنانية. بدا في كلامه أنه أعلن نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة من عمله السياسي.
الرئيس نبيه بري يتمهل في التعليق. يريد التشاور مع حلفائه في “حزب الله” قبل اعلان أي موقف. “حزب الله” يتأنى أكثر من غيره. المطلوب منه حماية حلفائه في دمشق وفي بعبدا. ماذا يفعل بحلفائه الآخرين الذين يلتفون حوله حماية لمقاومته؟ خاصة أن المطروح على بساط البحث هو تقرير دولي عن اغتيال الرئيس الحريري. لا ينقص السيد حسن نصر الله الحكمة ولا الوعي القيادي لدقة المرحلة وخطورتها. كلما تأنى في تقريره وقرارته حفظ مقاومته ووطنه.
العماد ميشال عون يتحدث عن مسؤولية سوريا في عملية الاغتيال. ويترك موضوع الرئاسة للمفاوضات. مع من؟
وليد بك القابع في المختارة يزداد حكمة وحذرا. القلق في الاساس لا ينقصه. ترك مصطلحات الانتخابات وصراعاتها إلا مع العماد عون. يؤجل المفاوضات مع العماد عون ويترك لحليفه سعد الحريري استمرار حواره مع العماد عون. الى متى؟ لا هو يعلم. ولا يترك للآخرين ان يحددوا التوقيت. هذا لا يمنع من أنه قال أمس كلاما مكتوبا دقيقا ومسؤولا وقلقا عن تقرير اللجنة الدولية وعن العلاقات مع سوريا.
إذاً المرجعية مؤجلة على الجانب اللبناني.
ماذا عن دمشق؟
استعمل الدبلوماسيون السوريون في دمشق ونيويورك وواشنطن كل مفردات اللغة “الخشبية” التي مضى عليها الزمن. ولم يعد يتقبلها حتى قائلوها. أما الاذاعة السورية فلم تجد موضوعا لتعليقها غير سعد الحريري “مجرد نائب يتحدث عن سيادة واستقلال لبنان”. وكأن سيادة واستقلال لبنان حق حصري لغير النواب في الحديث. أم انه سها عن بال المعلق ان سعد الحريري يمثل أوسع كتلة بشرية وجغرافية من اللبنانيين.
متى ينتهي مخزون الخشب في لغة دمشق الدبلوماسية؟ يحكى في مصر ان رجلاً أراد شراء قميص جديد له، دخل الى أحد المحلات. طلب من البائع قميصاً أبيض. أرسله البائع الى الطابق الاول حيث القمصان البيض. صعد الى الطابق الاول يسأل عن قميص ابيض مخطط من نفس اللون. المخطط في الطابق الثاني. يصعد الى الطابق الثاني. يطلب قميصاً مخططاً من قياسه. قياسك في الطابق الثالث. يكمل صعوده. قياسك غير متوافر في هذا الطابق. اذهب الى الطابق الرابع. يفعل. يجد صاحب المحل في استقباله. هاشّاً. باشّاً. يقول له أهلاً وسهلاً بك. نحن لا نبيع قمصاناً. إنما إيه رأيك في النظام؟.
هذه هي حكاية النظام السوري مع المجتمع الدولي. ليس عنده شيء يعطيه. لكنه يريد منهم أن يصعدوا طوابقه ليروا النظام. ألا يكفي ما صعده اللبنانيون من طوابق.