أول “فرعون” منتخب في تاريخ مصر1 ، الأب والإبن و”الهانم”… في حماية النيل!

مقالات 03 أكتوبر 2005 0

ما بال أهل مصر، يسألون عن لون النيل، ألا يكفيهم انسيابه، شرياناً في القلب، خيره يعمّ البلاد يميناً ويساراً. صباحه الهادئ. مساؤه الاكثر رقة. تتلألأ الاضواء على سطحه كأنها تخرج منه. لا يُسمع له صوت. لا يغضب. يحنو على الجميع محبة وعطفا. يعطي من هوائه اللطيف كل من حاذاه مساء. يغري البعيد بالاقتراب. يترك للشارب منه حق العودة اختياراً. فإذا بشربة ماء منه التزام قربى، عهد وفاء، قدرة على الوصل ليس لغير النيل أن يفعلها.
إذاً لماذا هذا التساؤل الغاضب؟
مصر هبة النيل. هذه المرة قرّر اهلها تحميل نهرهم العظيم مسؤوليته السياسية. طالبوه بالمشاركة في انتخاب رئيسهم. لم يفهم ماذا يقولون. انتخابات رئاسية؟ لم يعرف هذه الكلمة منذ آلاف السنين. كيف يُنتخَب فرعون؟
في اللغة الهيروغليفية لفظ فرعون يعني “البيت العظيم”. لم تكن لدى المصريين الجرأة ولا الإذن بذكر اسم الملك. يلفظون كلمة “القصر” الذي يقيم فيه الملك بديلاً.
لماذا؟
للصلة بين الملك والإله.
تنافس المصريون القدامى على الشمس والنيل لاختيار احدهما رمزاً لاستمرار الملك الإله. فازت الشمس فسُمّي فرعون إلهاً باسمها.
حاكم مصر يأتي دائما من التاريخ. يحكم باسمه يبني له من معابد الحكم ما يليق بمصر الفرعونية. ثم بدأ استيراد الملوك. بعدها جاء الجيش بثورته ليسمّي جمال عبد الناصر. انور السادات، حسني مبارك.
الاول حكم بشرعية القضاء على الملكية. الثاني حكم بشرعية حرب تشرين واستعادة ارض مصر المحتلة من اسرائيل في اول اتفاقية سلام اسرائيلية مصرية. اغتيل الرئيس السادات فجاء نائبه قائد السلاح الجوي المصري حسني مبارك رئيساً.
جدّد ولايته الخامسة 7 سنوات لكل ولاية في الاسبوع الماضي محاولا اضفاء الشرعية الديموقراطية على عملية الانتخابات التي تمت بديلا من الاستفتاء على اسم واحد. فرعون واحد.
الديموقراطية هنا تعني تعديلا لمادة من الدستور تقول بأن اختيار رئيس الجمهورية يتم بالاستفتاء وليس بالانتخاب. الفارق بينهما ان الاستفتاء يستلزم مرشحاً واحداً. اما الانتخاب فيستلزم اكثر من مرشح.
الواحد هنا يرمز الى المطلق. بالتالي وصول المطلق الى السلطة يجعله يتصف بالصفات التي تقال على المطلق. اولها القداسة والامتناع عن نقده.
هذه هي الصيغة الحديثة التي استعملت لفرعون مصر المستفتى عليه بعد قيام الثورة. الآن جاء دور الانتخاب وتعدد المرشحين فهل بقي فرعون هو المنتخب؟
خيمة تضمّ سبعة آلاف شاب وفتاة أداروا عملية التمديد للرئيس حسني مبارك. كانوا يعملون على 54 ألف نقطة انتخابية في كل انحاء مصر.
للمرة الاولى يتولى القطاع الخاص الادارة الانتخابية والاعلامية للرئيس البالغ من العمر 77 سنة. فكوا له ربطة العنق. ابقوا على الجاكتة، قربوه من الناس. كان شعار الحملة “إنه واحد منّا”. يشعر بنا، يهتم بقضايانا. يزورنا في بيوتنا البسيطة. كل الشعارات اللازمة للابتعاد عن “فرعون”. ثلاث جهات شاركت في التخطيط. شركة “غود نيوز” التي يترأسها عماد الدين اديب. شركة اعلانات مصرية متخصصة بتحسين الصورة. مستشار انكليزي شارك في حملات طوني بلير رئيس الحكومة البريطانية الانتخابية.
لم يكن الرئيس مبارك بحاجة الى الكثير لتظهر صورته الشعبية البسيطة القريبة الى الناس. فهو في ظهوره العلني يبدو دائما انه مصري طبيعي لا تأخذه الاحلام ولا يسكنه التاريخ.
الحزب الوطني الحاكم هو الذي كان بحاجة الى رسم صورة جديدة له، تحسّن من نظرة الناس إليه كمصدر للسلطة وللفساد ايضا. هذا امر يحتاج الى سنوات من الجهد الصادق. لا يصدقه احد من المصريين حتى لو اقسم كل اعضاء الحزب على ذلك.
هو امتداد للحزب الحاكم منذ قيام الثورة في العام 1952. تغيّر المنتسبون إليه. تغيّر اسمه. لكنه بقي الاساس لكل ما يشكو منه المواطن المصري.
حين ارادوا تجديد شبابه، اتوا له بجمال مبارك نجل الرئيس، امينا للجنة السياسات العليا. بدأ الحديث عن الوراثة بدلا من ان يبدأ التجديد.
جمال مبارك في أوائل الاربعينيات من عمره درس الاقتصاد في الجامعة الاميركية في القاهرة. عمل في بنك اوف اميركا لفترة تدريبية ثم انتقل الى لندن للعمل في المصرف نفسه.
يقول عنه رفاقه في الجامعة انه من النوع الجريء الذي يهتم بدراسته ورياضته فقط لا غير. لا يتذكرون له هواية اخرى. مثل المشاركة في إلقاء النكت مثلا، او المشاركة في اي عمل اجتماعي له علاقة بالجامعة او برفاقه. يحمل كتبه. يلقي التحية من بعيد على رفاقه. يتوجه الى الصف او الى المنزل.
على عكسه تماماً شقيقه علاء الملقب بالكابتن تحبباً من معارفه ورفاقه الكثر. المحب للحياة الاجتماعية والاختلاط.
لا يوحي ما هو متداول عن جمال مبارك انه يستطيع التأثير في غيره خارج دائرة القرار. لكنه جدي وابن الرئيس. هذا كاف حتى الآن. خاصة وان لجنة السياسات العليا التي يترأسها داخل الحزب استطاعت ان تعطي انطباعا محدوداً عن قدرتها على الحداثة السياسية والانتخابية.
يتصرّف جمال وكأنه المسؤول عن الصورة الجديدة لوالده. يهتم بأدق التفاصيل. لم تكن لقيادة الحزب التقليدية اية علاقة بالخيمة الانتخابية إلا من باب الزيارة ويوم الانتخاب فقط لا غير.
والدته السيدة سوزان ثابت والدها طبيب. من عائلة متوسطة. شقيقها منير طيار حربي. يصطحب معه مدربه حسني مبارك الى نادي هليوبوليس. يعرّفه الى عائلته. تستمر العلاقة العائلية حتى يبلغ حسني مبارك الثلاثين من عمره. فيتزوّجان.
“الهانم” كما تلقب بالمصرية شخصية قوية. قوية الظهور. تهتم بجمعيات خيرية على عادة زوجات الرؤساء. تقول عن زوجها في حديث مسجل “جذاب مهندم. معتد بنفسه “عظمة”. بالتعبير المصري العامي.
الجديد في “الهانم” انها اصبحت تشكل مركز ثقل جدي في مجالات الحياة العامة. في الحزب. في الحكومة. تقف وراء جمال مثل الصخرة لا تتزحزح. المهارة في حركتها ان احداً لا يستطيع تأكيد حصولها.
سلّم جمال أحمد عز احد مساعديه الرئيسيين، رئيس لجنة العضوية في الحزب، رجل الاعمال الناجح، سلّمه آلية الحملة الانتخابية الرئاسية. اخذ عماد الدين اديب الرئيس مبارك في مشوار على التلفزيون المصري استمر ستّ ساعات على حلقات، ابرز في كل حلقة جانباً من شخصية الرئيس. اهمها انه الضابط الطيار القائد الذي لا يُشقّ له غبار.
ردّ عليه محمد حسنين هيكل كبير الاساتذة من قناة “الجزيرة” قبل الانتخابات بساعتين ليقول ان الضابط حسني مبارك كان يقوم بوظيفته وليس اكثر. اكمل نقده بأن ما يجري ليس بداية تغيير. أن ما يجري هو خطوة خجولة لديموقراطية وليدة.
المطلوب قبل تعديل الدستور جمعية تأسيسية وطنية تناقش كل المواضيع وتصوبها نحو الأحسن.
حمل نفسه عماد الى قناة “الاوربت” بعد غياب ليقول ان الدستور المصري تعدّل او تغير سبع مرات في عهدي الرئيسين عبد الناصر وانور السادات. وان في التغيير الأخير مدلولات كبيرة لم تظهر بعد.
لقد تعهّد الرئيس مبارك في خطاب له في مركز قريته شبين الكوم تعديل خمسة بنود في الدستور: اولها إلغاء حالة الطوارئ، ثانيها تعزيز الصلاحيات التنفيذية والتشريعية، ثالثها إلغاء نسبة الخمسين في المئة من العمال والفلاحين الملزم بعضويتهم مجلس الشعب، رابعها تشجيع الشباب والمرأة على المشاركة في الحياة السياسية. خامسها محاربة الإرهاب.
توقف النقاش هنا بين الاثنين لكن الحوار حوله لا يزال قائما حتى الآن. هل ما حدث من تعديل للمادة 76 من الدستور هو بداية تغيير أم حديث انتخابي ينتهي بانتهائها؟
اخطر ما في التعديل الدستوري انه لم يعد حتميا ان يكون رئيس مصر المقبل عسكرياً. فالجيش لا يقترع. اللعبة السياسية ذهبت الى ملعب مجلس الشعب والحزب. بذلك انتهت ثورة 23 يوليو تموز.
الحقيقة الثانية ان لعبة الوراثة اصبحت اقرب من السابق. نسبة الترشيح من اعضاء مجلسي الشورى والشعب والمجالس المحلية متوفرة لجمال مبارك فما الذي يمنعه حين يحين الوقت من ترشيح نفسه؟
الحقيقة الثالثة أن تعديل الدستور خلق حيوية سياسية اهلية سلمية لا سابق لها في مصر.
المرشح الرئاسي ايمن نور نال سبعة بالمئة من أصوات المقترعين البالغة 22 بالمئة فقط. وفدي سابق سُجن وهو تلميذ. انتسب الى حزب الوفد. صحافي سابق. انتُخب منذ عشر سنوات عضوا في مجلس الشعب. وقف على كرسيه ولم يجلس منذ ذلك الحين. انشقّ عن الوفد. شكل حزب الغد، لا احد ينكر انه الحزب الليبرالي الوحيد في مصر. اخذ معه الكثير من رفاقه الوفديين الى حزبه الجديد. يحاكم الآن بتهمة تزوير مستندات الترشيح. كالعادة يعتقد الأمنيون انهم سيسقطونه في الانتخابات البرلمانية المقبلة في نوفمبر تشرين الثاني بهذه الطريقة.
الحركة الاهلية الاخرى “كفاية” المختلطة من كل الاتجاهات من اقصى اليمين الى اقصى اليسار. استطاع اعضاء الحركة ان يثبتوا وجودهم الاعلامي المكثف المحلي والدولي في حركة اعتراض على توريث جمال مبارك للرئاسة. اصبحت الحركة رمزاً لتجمعات اهلية مدنية محترمة في المجتمع المصري الساعي الى الديموقراطي.
الكاتب الكبير اسامة انور عكاشة لا يوافق على هذه المتغيرات. يقول إن المتغيرات والانتخابات الرئاسية لم تفتح الباب امام معركة فكرية موازية للمعارك الانتخابية التي تدور حول محاور سياسية محضة. كل ما حدث هو مقالات “انفرادية” يتحدث بعضها من خلال “المونولوج” عن قضايا اكاديمية باردة تدور كلها حول “آلية عمل الدساتير”.
يضيف ان الاصطلاح المتداول هو “العقد الاجتماعي”. هذا غير صحيح. العقد السياسي الذي يتنازل بمقتضاه “المواطن” عن جزء من حريته يتم تحديده او الاتفاق عليه دستوريا للحكومة او الحاكم مقابل ان يتولى حمايته وتوفير متطلباته. وهذا لم يحدث.
الصحف المصرية رغم تغيير قياداتها لا تزال تجيب على السؤال نفسه بأجوبة مختلفة. في اليوم ذاته تتحدث “الأخبار” في عنوانها الرئيسي عن “تشغيل الشباب اهم الموضوعات في مؤتمر الحزب”.
“الاهرام” تنقل من واشنطن. الدور المصري اسهم في نجاح الانسحاب الاسرائيلي من غزة.
“عالم اليوم” الصحيفة الخاصة تنقل عن وزير المالية نية الحكومة بيع اغلب الاصول المملوكة من الدولة.
صحف المعارضة ذهبت نحو السماء في التعرض للرئيس مبارك ولنجله ولوزرائه بالاسم والصورة ومضبطة الاتهام ايضا.
“صوت الأمة” الصحيفة المعارضة تنشر صورة القيادات الشابة والقديمة للحزب الحاكم كانهم مطلوبون للعدالة.
جمال مبارك دخل على الموضوع من جانب آخر. اتى بنجاحات القطاع الخاص الى الحكومة الاخيرة. اخذ من التجربة نتائج ايجابية. ليس لانهم من القطاع الخاص فقط. بل لان شبابهم. حركتهم الدائمة. تجربتهم الناجحة في اعمالهم، جعلتهم يصممون على الفوز بسمعة رسمية مماثلة لسمعتهم الخاصة.
فوق ذلك كلهم حزبيون. وزير الاستثمار محمود محي الدين، رشيد محمد رشيد وزير الصناعة والتجارة. احمد مغربي وزير السياحة. د. يوسف بطرس غالي وزير المال. د. أحمد نظيف رئيساً للوزراء. غلاة المحافظين في الحزب لم يستطيعوا الا الاعتراف بكفاءة الشباب الجدد ونجاحهم.
كالعادة يبدأ الحديث عن المقاتلين القدامى والمقاتلين الجدد في الحزب. لكن التمعن في شخصية كل منهم تجعلك تكتشف ان الخلاف في وجهات النظر بين الجدد وارد. كذلك بين القدامى الذين أتعبت السنوات وجهة نظرهم. كمال الشاذلي نائب منذ العام 1963، وزير دولة لشؤون مجلس الشعب امين عام مساعد للحزب الوطني، متخصص في الألاعيب البرلمانية.
فتحي سرور رئيس مجلس الشعب، عمل وزيراً للتربية، رجل قانون محترم ورصين.
صفوت الشريف ضابط مخابرات سابق وزير إعلام لعشرات السنوات، رئيس مجلس الشورى حالياً والأمين العام للحزب.
مَن يصدّق أن الرئيس حسني مبارك حكم بواسطة هؤلاء وغيرهم لمدة 23 سنة زاد خلالها تعداد الشعب المصري ثلاثين مليون نسمة دون اضطرابات جدية؟
الاجابة في النيل وخيره وجريانه نحو كل مصري.
الجواب من الناحية العاطفية النظرية صحيح. انما على الصعيد العملي فإنك تجد على طاولة الحكومة برنامجا اصلاحيا يسعى لتحقيق نسبة نمو تصل الى 6 في المئة خلال السنة المقبلة.
التوجه الرئيسي يذهب الى اهداف عدة: خفض العجز في الميزانية، الاصلاحات الضريبية والجمركية، خفض الانفاق، الخصخصة لمزيد من شركات القطاع العام. قبل كل ذلك وبعده الاهتمام بتحسين أوضاع الفقراء ومحدودي الدخل،
نائب وزيرة الخارجية الاميركية روبرت زوليك وصف الفريق المصري الاقتصادي الشاب بفريق الأحلام -Dream team-.
هل يكفي التقدم الاقتصادي او الحديث الاميركي عنه حلاً؟ للحديث صلة.