أمير وأربعون شاعرا….

مقالات 19 فبراير 2008 0

يشقّ المركب ليلا مياه النيل، فيجد النهر مسترخيا لتسعد به اشكال الوصل. هو الوصل الذي لو قيّض له أن يخرج صوره والمضيء الدافىء من كلمات شعره ونوتات موسيقاه وآهات وجده لفاض النهر على مصر والسودان باعتبارهما مملكة موّحدة مائيا ولأصاب ليبيا.
القبطان العجوز بعمامته وجلبابه يقودنا من دون بوصلة الا عينا الصقر في وجهه العارف لكل قطرة ماء من نهره. ولكل عشبة نبتت منذ مئات السنين. ولحجر قابع هناك منذ ان كان لأحجار الماء شكل معروف.
القاهرة أجمل كما هي في كل ليلة. كأن السهر لها والنهار لغيرها من المدن.
ينتحي الشاب البهي الطلعة، الأبيض الملامح، بذقنه الصغيرة الدقيقة الأنيقة، ينتحي زاوية من المركب ليدندن بين خلاّنه قولا ولحنا. يمسك بعوده على تردّد من دون احتراف. يذهب بنظره الى أعمق ما في مياه النيل من رقّة. يلحق به خلاّنه فلا يتركونه “لسرحانه” الى ما يريد الوصل به من قول ولحن وبشر.
على الجانب الآخر من المركب تدندن السيدة أصالة ايضا بقدرة صوتها على الحضور حتى وهي تهمس غناء. منتعشة بنسائم النيل ورذاذ مياهه.
في الوسط يتابع عماد الدين أديب الذوّاق في وفائه والمبتكر في صداقته، بخطيئة شهيته ـ والتعبير له ـ أطباق الطعام لضيوفه. والحاجة هالة ـ زوجته ـ تسوّي حجابها بعشقها لله فتجعل منه علم استقبالها لضيوفها.
كانت المرة الأولى التي التقي فيها “الشاب” السعودي مدندنا، بعد ان قرأت له اسطرا من الشعر والنثر على صفحات “كل الناس” المطبوعة الاجتماعية. مرة يظهر عشقه ومرّات يظهر اعتراضه السياسي أو الاجتماعي بطرافة الساخر.
تعرّفت اليه في لقاء لاحق في “شتاد”، المنتجع الشتوي السويسري، انما في الصيف حين تكون السماء ناصعة الوضوح والهواء النقي يوقظ فينا مسام المزيد من اليقظة. كان واضحا من عشرات الاشخاص المحيطين به أنه الأعلى صوتا والأقوى نبرة والأكثر استمتاعا بما حوله. يستمع أحيانا الى الصوت الخفيض اللائق لعبد اللطيف آل الشيخ صديقه، ثم يعود الى جرّ النقاش الى السياسة العامة لبلده بعد اظهار أكبر قدر ممكن من الاهتمام بالصورة العامة لمضيفنا ابن عمّه. تمرّ بيوت أشعاره كالحدّ القاطع بين آرائنا. يطعّمها بالحديث الشريف ويحسمها بآية من البيّنات. ويتركك لحيرتك بعد أن يضحك كثيرا. فينضمّ الى ضحكته سعد الحريري حين كانت الفرحة تملأ وجهه قبل ان تحتفل الهموم به وبنا يوما بعد يوم منذ اغتيال والده قبل ثلاث سنوات .
تمرّ الرحلة على كثير من الودّ للشاعر ولصديقه اللائق الخفيض الصوت ولعماد أديب فقط لا غير…
اللقاء الثالث في قراءة شعريّة له على مسرح قاهري. هناك ظهر الشاب السعودي على حقيقته. خطيبا تهتزّ له المشاعر. ترتجّ له المنابر حتى وهو يداري في شعره كبار قومه. أعطى “امرأة” الشاعر فيه أحنّ الكلمات. وصعد بصوته الى الأعلى لتختلط السياسة، بالشعر، بالموقف، فما عاد باستطاعة جمهوره وداعا له الا التصفيق الحاد وقوفا.
اللقاء الرابع في حديقة منزله في الرياض. خلع عباءة الشعر عن كتفيه وأبقى على خفّة دم لقطاته في الكلام. ثم عقد جبينه عاكفا على قضايا بلده وأمّته. فاذا به متابعا دقيقا لكل ما أعتقد انني خبير محلّف فيه، من باب الاحتراف على الاقل.
منذ أسابيع التقيته صدفة في باريس. يهدهد بأدنى صوته أنه صار في الاربعين من عمره. يفتّش عن كلمات تتناغم مع ما يعتقد أنه العتيّ من العمر من دون الاعتراف بأعباء الاثقال التي أضافها الى وزنه.
تحدّث في كل شيء الا الشعر. لبنان. سوريا. فلسطين. سعد الحريري. وطبعا السعوديّة. فهو أولا وآخرا أمير من العائلة المالكة. يبقي على حواسه السياسية مستنفرة مهما طال عليه ليل الشعر.
لم أقتنع أن الشاعر في عبد الرحمن بن مساعد قد نام ولو لقيلولة. أفتيت لنفسي بالخديعة للإستعارة المؤقتة من غيره لقصيدته الأولى من شعره الاربعيني. فوجدت في حنايا أبياتها أنه وضع حقائقه الأكيدة كلها أمامه من دون ان يستسلم لها.
قال بداية “قدّ همّ الكون حالي”. سلّم أمره للّه، “لي إله جلّ شأنه… عندما أكون في رحابه… في ركوعي وفي سجودي… أصعد في قمة نزولي…”أنهى صلاته لينتسب الى جدّه “معجزٌ، دين وعزوم وصلابة” . ثم لوالده “كل زهد غير زهده… مفتعل. وهمي. وصولي”. ووالدته “آه يمّا كم احبّك… في شراييني تجولي” وشقيقه “لي شقيق ماني أقوى… نبرة الحزن في عتابه” وإبن عمّه “شفت له في كل لحظة فزعة، موقف رجولي”. معترفا لأميرته ـ زوجته “لي حبيبة مستديمة… ما لي فصول ومواسم… وحدها هي فصولي… أم قلبين بجوفي… هم بعد كل القرابة”
لم تنج صداقات الشاعر عبد الرحمن بن مساعد من سنواته الأربعين فخاطب الزمان عاتبا: “يا زمان قبل غدرك. كنت أقول الدنيا غابة. أربعين من تجارب. أربعين من غرابة. الكبر أردى الخطايا. ما تجبّه استتابة”. ولحق بالسياسة الى حدّها الاصعب معبّرا “النفاق أكبر رموزه. كان في عهد الصحابة. الرضوخ أصبح فضيلة. وقولنا أصبح دعابة. كل حق دون قوّة. زاهق وثابت ذهابه. يكتب التاريخ ناصع… للقوي ولو هو مغولي”.
لمع في رأسي وأنا أسمع القصيدة للمرة الأولى، مستعجلا نهايتها، أن طبع “المتنبّي” فيها غاب. فلا غرور ولا تعالٍ ولا سباحة في السماء العالية للكلمات. فإذا بي وأنا أسمعها ثانية أجد أنه استعجل تمرير “متنبّيه” في الأسطر الاولى قبل الاعتراف بجمع الأهل، تاريخهم منه وأحدثه. “لي مكان في الكواكب… ذا طموحي لست آبه… نجم عالي ذا مكاني… علّ موتي هو أفولي”.
بالطبع لا يشبه جمال الكلمات قراءتها مكتوبة. اذ انها تأتي بصوته وهو يقولها “منغّمة” أجمل بكثير، محتدّة المعنى. لكنه لا يجيب على الشوق لشعره ديوانا أو تسجيلا. يبحث منذ سنوات عن ناشر شاب يمضي نصف عمره الأول بانتظار الشاعر والنصف الآخر في انتظار الشعر العزيز على صاحبه حتى اخفاءه عن العامة وجعل استماعه حقا حصريا لنخبة انزل الله بها سلطان شعره.
هذا حين كان أميرا وشاعرا في شاب واحد، فكيف بعد أن كشفت قصيدته الاحتفالية بذكرى مولده، من كثرة حدّتها الصادقة، انه صار أميرا واحدا وأربعين شاعراً. كل منهم يبحث عن ناشره المنتظر؟
نهاد..