“أزمة الحكم والحكومة: المذهبية والتدخل الخارجي” مركز عصام فارس، بيروت

محاضرات 22 فبراير 2011 0

هناك دول في العالم جغرافيتها تقع على خظ الزلازل، تقرأ عنها أو تراها على الخريطة أو تُتابع أخبارها. لبنان واقع على خط زلازل سياسي، وكما هناك خط زلازل جغرافي، هناك خط زلازل سياسية.
بنية لبنان الداخلية ما من شك أنها ضعيفة من جهة وقوية من جهة ثانية، ضعيفة بسبب عدم الإتفاق الشامل بين اللبنانيين وخلافهم المتجدد كل فترة، والذي يعبّرون عنه بضيقهم من آلية النظام وعمله، فكل مرة نرى جهة أو طائفة من الطوائف تُعبّر بهذه الطريقة . وقوته من جهة ثانية كونه الواحة الوحيدة التي رغم كل شكوانا، فيها قدرٌ من الحرية والقدرة من التعبير عن الرأي، في منطقة من الصحراء السياسية التي لا يستطيع أحد أن يُعبّر عن رأيه في أية دولة فيها. من جهة ثالثة العنصر الأكثر قدرة ومناعة رغم كل الكلام عن الخلاف السياسي، هو قدرة اللبنانيين أنفسهم على تجاوز الكثير من الصعاب: فجأةً يظهر كأن كل الأزمات التي مروا بها لم تكن موجودة ويمكن أن ينجحوا بشكل أو بآخر ولأسباب لها علاقة بالمنطقة وبطبيعتهم قبل المنطقة على إيجاد صيغة تعايش لا تعيش كثيراً، ولكن دائماً هناك محاولات لخلق صيغة تعايش مرة أخرى. حدث ذلك تاريخياً مرتين: المرة الاولى سنة 1943 ومهما قلنا عن صيغة 43 ومشاكلها ولكن صيغة 43 بالتأكيد حققت في وقت من الأوقات استقلال لبنان، وحققت في وقت من الأوقات عروبته، رغم الخلافات التي شهدناها في الفترة اللاحقة قبل مرحلة الطائف.
والمرة الثانية التي أظهر فيها اللبنانيون قدرتهم على فعل شيء هي صيغة الطائف الذي أرسى صيغة جديدة للمشاركة في الحكم والإدارة رضي بها المسلمون والمسيحيون، وهي صيغة أعادت تركيب السلطة وفق أسس طائفية أكثر توازنا وعدالة على قدر ما في أية صيغة طائفية من توازن وعدالة.
اتفاق الطائف هو عقد اجتماعي أبرمه المسلمون والمسيحيون من أجل العيش معاً في ظل نظام سياسي توافقوا على أساسياته. قرر المسلمون في هذا العقد الإعتراف بلبنان وطناً نهائياً وأكدوا على ثوابت الوفاق ورفعوا ميثاق العيش المشترك الى مستوى المرجعية التي تعلو حتى على الدستور، بالقول ان لا شرعية لأي سلطة تُناقض ميثاق العيش المشترك.
أهم ما قرره الطائف هو المناصفة في الحكم بين المسلمين والمسيحيين، التي تحقق استقرار وطمأنينة لبعض الجهات وتلغي غبن وخوف وحرمان جهات أخرى، ويحكي ولو شفهياً عن إلغاء الطائفية السياسية، المطلب نفسه الذي ورد أصلاً في البيان الأول لحكومة الإستقلال سنة 1943.
في سنة 1989 كان يمكن تحقيق الطائف بسبب شرطين: الأول وجود ميزان قوى إقليمي دولي أي وجود إجماع دولي وقوة دفع باتجاه وقف الحرب في لبنان، والثاني وجود إجماع داخلي يُشبه القول ان الشعب اللبناني قد صار محصّلة سياسية تقدّس سعيها نحو السلام. بالطبع كان واضحاً ان اللبنانيين تعبوا، ولكن العامل الخارجي كان حاسماً في تحقيق الطائف، كان هناك اجماع سياسي مُلزم بسبب التدخلات، وشعبي بسبب الرضا والتعب من سنوات الحرب التي مرت، ولكن لم يتجسد هذا الأمر بمشروع حقيقي لتجديد الصيغة السياسية، لأن الصيغة السياسية تفترض الحاجة :
أولاً: الى كتلة اجتماعية تاريخية تدّعي ملكية المشروع.
الثاني: الطاقم السياسي المناسب للمرحلة وقوانينها.
الثالث: الإستفادة من ميزان القوى الخارجي.
العامل الداخلي ما من شك لم يكن متوفراً ولا مرة منذ توقيع الطائف، العامل الخارجي كان مشكلة لأنه كان هناك ترجمة سورية من سنة 1990 حتى 2005 للطائف تأخذ بعين الإعتبار مصلحة النظام السوري من جهة، ومصلحة استمرار الدور السوري في لبنان من جهة أخرى، مرة عبر ما يتفق عليه الرؤساء، ومرة ما يتفق عليه النظام المجلسي، ومرة ما يتفق عليه مجلس الوزراء، ومرة ما يتفق عليه ناس لا توجد نصوص تُلزمهم بالإتفاق غير نوايا طيبة لا تكفي بالقرار السياسي عندما تصل الأمور الى مفاصل جدية.
هناك محاولة واحدة حصلت وتعثّرت كثيراً هي المحاولة التي قام بها الرئيس الشهيد رفيق الحريري، محاولة فيها الكثير من الإندفاع، قليل من القدرة على التحقيق، ولكن مع ذلك أظهرت انه مازالت عند اللبنانيين مناعة المحاور، وبأنهم لم يستسلموا بعد كلياً لهذا اليأس وأن يحاولوا تسيير الأمور بالقدر الممكن.
طبعاً الوقائع التي سبق وحُكِي عنها بأن التوازن الإقليمي والدولي كان داعماً للطائف انهارت بدءاً من غزو العراق للكويت وسقوط النظام الإقليمي العربي، والتفرّد السوري والتفويض الأميركي بتطبيق الطائف، الذي أعادنا من وجهة نظري الى صيغة الإتفاق الثلاثي التي تمّت سنة 1985 في دمشق وأسقطتها بشكل أو بآخر جهات لبنانية كانت تُعبّر في حينها فعلاً عن رأي اللبنانيين.
هذا التفرّد كرّس معادلة فيها غالب ومغلوب مرة على ان المسلمين انتصروا على المسيحيين، ومرة ثانية بأن هناك انتصار للمسيحيين، ومرة بأن هناك انتصار شيعي في السنوات الأربع الأولى من 92 الى 96 على بقية اللبنانيين، والمسلمين بشكل عام صاروا مرتهنين أو مُلزمين بمحاولتين: محاولة الرئيس الحريري المُتعثّرة رغم ما قيل عن دعم عربي ودولي له، ولكن دائماً كان هذا الدعم يُفسّر على إنه مواجهة لسوريا أو لدور سوريا في لبنان، والمحاولة الثانية عبر ما سُمي بالنهوض السياسي الشيعي الذي كان يتجه تدريجياً إلى تكريس الأمر الذي وصلنا إليه اليوم.
إذاً عندنا الشيعية السياسية التي تختلف سماتها عن المارونية السياسية التقليدية لعدّة أسباب: فالمارونية السياسية ورثت دولة حديثة كانت تحتضنها فرنسا وعندها إدارة شبه كفوءة في محيطها، والظرف الإقليمي والدولي في ذلك الحين ساعد على تطورها الإقتصادي والنمو الإجتماعي، والنظام العربي الرسمي أعطى شرعية لدور لبنان في محيطه وثقافة حديثة وديموقراطية ليبيرالية بفضل التعدد الطائفي.
أنا أذكر القول الشهير للرئيس تقي الدين الصلح، رحمه الله، كان دائماً يقول لي “ان الإستقلال مسؤولية المسيحيين” فكنت أسأله لماذا؟ فيُجيب “لأننا نحن كلما كان هناك مشروع وحدة عربية نذهب ونركض باتجاهها فيردّنا المسيحيون ويسلم البلد ونحن نهدأ”.
المسلمون مسؤوليتهم عملياً الديموقراطية، لأن التنوّع هو الذي فرض عدم وجود نظام من جهة واحدة أو من طرف واحد يستطيع أن يفرض على كل اللبنانيين خياره الإلزامي سواء بالسلاح أو بالقدرة على تطبيق نظام لا يتحمله اللبنانيون.
في اللحظة الراهنة وصلنا بتقديري إلى أنه أمامنا واقعتان:
الواقعة الأولى: ان الطوائف الرئيسية الثلاث في لبنان أصبحت رهينة لعناوين لا تستطيع الخروج منها حتى الآن.
سوف أبدأ بالسُنة، السنية السياسية نشأت فعلياً بتقديري بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وليس أثناء وجود الرئيس الحريري في الحكم، لأن عملية الإغتيال خلقت نوع من التعاطف والعصبية غير الطبيعية وغير المسبوقة وغير المتوقعة، ولكن هذه العصبية والعاطفة غير المسبوقة أصبحت رهينة الإغتيال.
الشيعية السياسية أصبحت رهينة السلاح باعتبار ان السلاح هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق ما يعتقدونه إنه من حقهم في السلطة أو المظلومية في سلطة لا تحتمل مثل هذا النوع من المظلومية.
المسيحيون هم رهينة صلاحيات الرئاسة الأولى والحنين الى فترة النظام الرئاسي السابق، وبالتالي أنت أمام نظام مأزوم بثلاثة مذاهب رئيسية مُرتهنة لثلاثة عناوين.
عملياً ما العمل الآن؟ ببساطة وبرأيي البسيط والمُبسّط جداً ان اتفاق الطائف لن يُنفذ، وبالتالي لا يجوز الدخول في بحثه أو مناقشته أو فوائده أو سلبياته قبل تنفيذه كاملاً من جهة ، وإجراء انتخابات نيابية على قاعدة ما جاء في الدستور، وبعدها المجلس النيابي المُنتخب يُقرر أين توجد ثغرات ممكن مناقشتها، وأين هناك نقاط ضعف في حال وُجدت ممكن معالجتها.
الكلام عن أي تعديلات سواءً بالتجاوز أو بالغلبة العسكرية أو بالتفاهم الإقليمي أو بالإنتصار بالخارج هو مشروع مواجهة جديد وليس مشروع بناء جديد.
هناك مسار مبدئي يتعلق بالدستور هو الوحيد المتوافق عليه بين اللبنانيين ولا بد من تطبيقه بدون استنسابية كما جاء في الكتاب، وعندما نقوم بهذه التجربة لسنة أو سنتين أو ثلاث سيظهر لك ان هناك نقاط ضعف أو ثغرات وتُجري انتخابات نيابية على قاعدته وبشكل عاقل، ولن أقول عادل، لأن العدل كلمة كبيرة في هذا المجال يمكن عندها أن تفتح أمامك آفاق الحوار بالتفاهم والرضا على التعديلات الممكن إجراؤها.
نحن أجرينا خمس دورات انتخابية: 92- 96- 2000- 2005- 2009 وفق قوانين ليس لها علاقة لا بالدستور ولا بإمكانية التفاهم ولا بإنتاج سلطة نيابية وتشريعية تكون طبيعية عابرة للطوائف، وتكون إمكانية تلاقيها أكبر من إمكانية انقسامها ومواجهتها لبعضها البعض.
في الدورات الخمس كل مرة كان هناك سبب إما إقليمي وإما داخلي لخوض الإنتخابات وفق قوانين آخرها يرجع الى العام 1960 الذي كان يُقال عنه في العام 1960 بأن هذا القانون متخلف عن ركب التطور والحداثة التي حدثت في العالم، وها نحن عدنا وأجرينا الإنتخابات على أساسه في العام 2009.
عندما يكون بلد مثل لبنان على خط الزلازل، أمر طبيعي أن يتأثر بالخارج، زائد تركيبته الداخلية، ولكن هناك فرق بين أن تكون متأثراً بالخارج وبين أن تكون ملتزماً بالخارج..
نحن أمضينا سنوات طويلة ملتزمين بالخارج بسبب فقدان التوازن العربي بغياب مصر، والتخلي السعودي الكامل الى حدٍ ما عن الدور الى ىسوريا حتى لا أسمّي دولاً عربية أخرى، لأن العراق كان في موقع المواجهة مع سوريا، ولم يكن في موقع الصداقة، في ظل غياب توازن إقليمي عربي، وغياب تفكير دولي بإيجاد صيغة قادرة على الحياة والإستمرار في لبنان، وبالترجمة السورية التي سبق وتحدثت عنها، وصلنا الى ما يُشبه الأفق المسدود.
في العام 2005 اغتيل الرئيس الحريري، وعنوان المحكمة الدولية هو فعلاً موضع انقسام بين اللبنانيين، ولا يمكن لأحد أن ينكر هذا الأمر. ولكن لبنان شهد منذ العام 1943 حتى آخر اغتيال 220 عملية اغتيال سياسي، ولم يُحاسَب ولا مرة واحد من القتلة على ما فعله أياً كانت هذه الجهة أو هذا الشخص. عملياُ هناك خلاف حول روايات الإغتيال وأسبابها ومبرراتها ومن يقف وراءها، يعني الشخص الذي أُعدم ليس بالضرورة أن يكون هو يُعبّر تماماً عن القرار باغتيال شخص مثل رياض الصلح.
بدون الدخول في التصوّرات الأمنية لتلك المرحلة، هناك 220 اغتيال سياسي، كل الناس وكلنا تصرّفنا على قاعدة القبول بالواقع، ونسيناهم، ولكن يتبيّن بعد وقت بأن الناس لم تنسَ ولا غفرت وتتجه الى المزيد من التأزم السياسي الذي تُعبّر عنه بطريقة أو بأخرى. كل فترة لها ظروفها ولها شكلها، لذلك المحكمة الدولية لم تكن الخيار بمعنى إنه أمامنا وسيلة أخرى جدية ولم نسلكها، مع العلم بأني في تلك الفترة بين 2005 و2008 تقريباً لم اكن من المجموعة السياسية المعني بأمرها الآن، والتي أُمثلها، ولكن بمراجعة موضوعية وواقعية ومعرفة بقليل من التفاصيل، لم يكن هناك خيار آخر سوى المحكمة الدولية التي تسبّبت بكل ما تسبّبت به، ولكن لم يكن بالإمكان ترك عملية اغتيال بهذا الحجم وأن نمشي ونقول ان هذا الموضوع انتهى هنا ولنبدأ من جديد، على الأقل كان هناك أعداد كبيرة جداً من اللبنانيين لا توافق على ان هذه الطريقة ستوصل الى مكان اتفاق لبناء دولة قائمة على المسامحة والغفران عن الإغتيال السياسي.
الآن كيف نواجه؟ ما يحدث في تونس وفي مصر وربما في غيرها من بلدان العالم العربي الذي تحدث في داخله تغيّرات لأول مرة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، لا توجد سابقة انه حصلت حركة بهذا الحجم بعد انهيارالإتحاد السوفياتي. وهاتان أول حركتين جديتين سيظهر بعد وقت قصير توجههما واتجاههما الفعلي والنهائي، وإن كان الانطباع الاول الآن ان الثورتين في مصر وتونس يقوم بهما الشعبان، ولا أريد استباق الأمور وإعطاء صياغة نهائية، ولكني أعتقد ان ما يحدث يُبشّر بتوازن إقليمي قادم وليس العكس، بمعنى انبثاق القوى الناشئة في مصر، الدولة المركزية الرئيسية التي كانت دائماً ما تشكّل عنصر التوازن في العالم العربي. كل الحركة السياسية القائمة أقرب لمنطق إقامة توازن بالعلاقات العربية- العربية من جهة، وبالعلاقات العربية- الدولية من جهة أخرى، لأن المصريين على ما نراهم على الشاشة أو تعرفهم شخصياً اعتراضهم قائم على ثلاثة عناوين:
العنوان الأول: هو التوريث وهي الفكرة المُدانة بأساسها.
العنوان الثاني: هو البطالة والفقر والحاجة الى العناصر الرئيسية في الحياة.
العنوان الثالث: هو سياسة الدولة المصرية تجاه إسرائيل، هذا النظام المُتعنت الذي تبيّن مع الوقت ان أكثر ما يمكن أن يفعله هو سحب المزيد من رصيد الكرامة المصرية التي هي عنصر التوازن في العالم العربي، وبالتالي نحن مقبلون في تصوري على قيام نظام إقليمي أكثر توازنا وأكثر تأكيداً على الإستقرار في المنطقة، وأعتقد انه مع الوقت سيعوّض حالة الخلل الجديدة التي تسبّب فيها ما حدث في العراق، بصرف النظر عن إدانة النظام السابق أو عدم إدانته.
فالموضوع الاساسي هو ان هناك نظام إقليمي نشأ في العراق وهو يُخالف التاريخ الكبير لدولة العراق، وغير مُنسجم بحركته السياسية المرتبكة حتى الآن، لأن ما نراه في العراق حتى اليوم هو المزيد من الأعراق أكثر مما هو استقرار عميق يُعبّر عن صورة واضحة وظاهرة وثابتة للتصرف السياسي للدولة.
أنا أتوقع بإننا مقبلون خلال فترة سنة أو ربما سنتين كحد الأقصى، على استعادة جزء جدي من التوازن العربي الذي يؤكد مرة أخرى بأنه يفتح أمام اللبنانيين المجال بأن يتصرفوا على إنهم جزء من هذا الإستقرار وجزء من هذا التوازن، ولا أعتقد انهم في ذلك الوقت سيكونون أقل رغبة بأن يتّبعوا وسائل طبيعية على الأقل لمناقشة نظامهم والتفاهم على إمكانية استمرار آلية هذا النظام بعيداً عن السلاح وتاثيره على النظام، وبعيداً عن الإغتيال وتأثيره على الحياة السياسية، وبعيداً عن الرهينة الأخيرة المتعلقة بالصلاحيات الرئاسية عند المسيحيين.
========