أرشد هورموزلو كتب في “الحياة”: “بيروت والطيور المهاجرة

اخترت لكم 03 نوفمبر 2016 0

f9d22e1c7d9c4b5abedbfb8c4687ff9a

كنت أجلس قبالة السياسي اللبناني المخضرم وهو يحدثني عما فعله الإرهاب ببلادنا وعن كيفية التعامل مع هذا الداء. قال إن الإرهاب يمكن أن يتسلل إلى مفاصل المجتمع من دون دعوة أو ترحيب. شأنه في ذلك شأن الطيور المهاجرة التي لا تحتاج إلى تأشيرة دخول عندما تقطع الحدود الجغرافية والسياسية وتحط أينما شاءت.

رأيت لبنان، بعد حقبة طويلة لم أزره فيها، لا يشكو الإرهاب كما يشكو الفراغ الرئاسي والسياسي. وكانت الجامعة الأميركية في بيروت محطة رئيسة في جولتي حيث دعيت إلى إلقاء محاضرة كان عنوانها «تركيا اليوم: التحديات والآفاق». من خريجي هذه الجامعة كان السياسي الذي شبّه الإرهابيين بالطيور المهاجرة. وأقنعني ما رأيته في هذه الجامعة و «معهد عصام فارس» بالنظرية التي تدافع عن أهمية التعليم في التصدي للعلل الاجتماعية وحتى الاتجاه غير العقلاني للإرهاب.

هذه الجامعة تأسست بعد تأسيس جامعة البوسفور التركية بسنوات. وأسس كلتَيهما الأميركيون في زمن غابر، ثم انطلقتا لتصبحا صرحين ثقافيين وطنيين. قال لي مرافقي: «هل ترى القطط التي تسرح في أرجاء الجامعة؟ حتى هذه الظاهرة تشبه الى حد كبير ما تراه في مثيلتها في اسطنبول».

قلت في لقاء تلفزيوني أجرته سيدة محترفة ومطلعة على بواطن الأمور إننا في تركيا والمنطقة عرفنا العالم العربي في العقود الماضية من مصدرين رئيسين هما لبنان ومصر. وفعلاً فقد كانت الثقافة والفن والعلاقات الاجتماعية منهلاً لمن يود الاطلاع على الثقافة العربية، وإذا سألت اليوم أي تركي لا يعرف عن هذين البلدين أو عن العالم العربي إلا النذر اليسير، فهو يعلم بالتأكيد اسمي فيروز وأم كلثوم.

في غداء جمعني بأساطين المال والتجارة في بيروت رأيت أن العلاقات التجارية مع مختلف دول العالم سائرة على قدم وساق، وأعجبني ما قاله بعضهم عن أن البلد سيبقى متعافياً ما دام الاقتصاد حياً ومتجدداً. لكن أكثر ما سمعته في بيروت وطرابلس كان السؤال عن التحديات التي تواجه تركيا.

تحدثنا عن هذا الموضوع في المحاضرة التي نظمت في الجامعة المذكورة في بيروت وكان أن التقينا في لقاء ودي موسّع جمع أعضاء «جمعية الصداقة اللبنانية – التركية» و «دار العلم والعلماء» وجمعيات مماثلة في طرابلس. وقلت في معرض الحديث إننا في تركيا ارتكبنا الكثير من الأخطاء أيضاً. انقطعت مسيرة الديموقراطية لدينا مرات عدة، بل إن في تاريخنا المعاصر لطخة سوداء تمثلت في حكم جائر بالإعدام نُفذ بحق رئيس حكومة منتخب مع اثنين من أبرع الوزراء الذين أنجبتهم تركيا. لكننا وضعنا المرآة أمام وجوهنا وحاولنا أن نستكشف بواطن الخلل ومصادر الخطأ. فلو وضعتم المرآة أمام أعينكم، لعلمتم أين مكمن الخطأ وسهل بذلك علاجه. أما إذا لم تفعلوا ذلك فستتغنون بالأمجاد والفضائل والبطولات إلى أن تكتشفوا أن ما اعتبرتموها بطولات كانت دلالات الإخفاق والتخلف عن ركب الحضارة.

وعندما طرح السؤال المهم: إذاً ما هو الحل؟ قلت يا سيداتي وسادتي، الحل يكمن في الحوار. لقد تقاتل الأوروبيون مئات السنين لأسباب إثنية ومذهبية وأيديولوجية مثلما نفعل الآن في بلداننا ولقي الملايين حتفهم في هذه الحروب، ثم لجأوا إلى الحوار البناء بحيث توصلوا إلى مشروع سلام حقيقي سمّوه الاتحاد الأوروبي، بينما نملك نحن مقومات تربطنا ببعضنا بعضاً أكثر كثيراً مما كانت لديهم.

من هذا المنطلق، قمنا بتأسيس «ملتقى الحوار العربي – التركي» قبل أعوام، وبشّرنا بهذه المهمة في كل محفل حضرناه. لا يمنع ذلك من أن أقول إننا في هذه المنطقة نحتاج إلى حوار عربي – عربي وآخر تركي – تركي أيضاً قبل أن نتجه إلى استنشاق الإيجابيات. ابتسم أحد الحضور قائلاً، وماذا عن علاقات تركيا بالعراق ومصر حالياً. قلت إن الحل يكمن في الحوار، فلو صبغ التشنج بعض العلاقات بين الدول والحكومات فلا مناص من إطلاق جذوة الحوار بين الشعوب والاقتصاديين والبرلمانيين والجامعات والمنظمات الفكرية. وسيخلق ذلك مناخاً مناسباً للكل. أردفت قائلاً إن من يدعو إلى الحوار وإلى الجلوس إلى طاولته أولاً هو الأفضل لدي. وعندما حلقت بي الطائرة متجهة إلى اسطنبول كنت أتساءل: هل سيعي الكل أن الحوار والتفاوض والنقاش تتم بين من لديهم اختلافات أساساً وليس بين من يتشاركون في الرؤى نفسها؟ هل ستكون هناك تجمعات يجرى فيها حوار حضاري يؤدي إلى رفعة شأننا وصلاح أجيالنا وليس إلى كسر العظم وعضّ الأصابع؟ نأمل بذلك.