أربعة آلاف ستريدا

مقالات 11 أغسطس 2005 0

كثيرون “حكوا” عن ستريدا جعجع منذ أعلنت نفسها شخصية عامة منذ عام أو اكثر بقليل. لكن أحداً لم يكتب عنها.
هل لأنها جميلة وهذا ليس بجديد عليها ولكنه بطبيعته يُربك الكاتب إذا كانت الإمرأة متزوجة.
أم لأنها امرأة المعتقل السياسي بامتياز الدكتور سمير جعجع.
هذا أول ما تراه حين تراها وأول ما تفكر فيه وانت تسمعها. الناس اعتادوا عليها واجهة اجتماعية وسياسية للمعتقل الأشهر في لبنان.
كانت زيارتها في منزلها تستوجب أذوناً أرضيه من حواجز الجيش الممتدة على طريق المنزل. والرقابة على الهاتف. إلا أن هذا لم يمنع كثيرين من إكمال طريقهم نحو المنزل. ليس بالقدر الذي توقعته.
تفهمّت خوف الناس وحساباتهم. واحد يحمي مستقبله والآخر يخفي ماضيه. وثالث لم تثق به قبلاً فلماذا يزورها الآن.
القلّة تكفي. صادقة العواطف؟ ربما والعلم عند الله وخلال صلاتها آخر الليل تشعر بوخزة من العتب على الناس.
وحدها لم تخف. ولم تجعل للحساب قيمة. أربعمائة زيارة إلى مديرية المخابرات في قيادة الجيش. أكثر أو أقل بكثير لا يهُم. ليس بالضرورة أن يكون” مدير البروتوكول” موجودا ليحسن استقبالها. وتأمين لقاء عادي لها مع زوجها. وهو ما لم يحدث.
إن لاقاها “مدير البروتوكول” فيفعل لتعريفها إلى المحقق الذى يريد أن يسألها عن وقائع لم تحدث أو أحداث لن تقع .
لماذا تأتيه بالطعام؟ ألا يُعجبك ما نقدمه؟ هل جربتيه؟
الصحف تضر بتفكير الحكيم. والتلفزيون يعرّض عينيه. ماذا عن ضوء الشمس؟
آه ضوء الشمس مشكلة كبيرة. اسألي الأطباء عن ضررها. استفتينا الشعب اللبناني فلم يوافق. ماذا نفعل؟ نحن لا نخالف إرادة الشعب. الكتب السياسية؟ لا، لا، لا، ما يعرفه يكفيه. لماذا تريدين أن تشوشي تفكيره؟ لم تملّ. اعتبرت الإجابات عادية. جالدت على نفسها أن تكتفي بالقليل جداً من العقل.
هي تنال تعويضها. رسالة يومية من الحكيم.
اغتيل الرئيس رفيق الحريري. انتزعت علم القوات من قاعدته ونزلت إلى ساحة الشهداء. سبقها الكثيرون ولحق بها الكثيرون.
أيضاً لم تتعب. دخلت في تحالفات. تجنّبت الخلافات. امسكت بكتلة نيابية متواضعة العدد. تريد “الحكيم” خارج السجن.
لم ترتح ولم تترك أحداً يرتاح حتى صدور مرسوم قانون العفو في الجريدة الرسمية.
مرة أخرى هي الواجهة السياسية والاجتماعية للمعتقل الأشهر في لبنان. فوق ذلك أصبحت سعادة النائب. انتهت أيام الثياب الجميلة الفرحة التي تناسب عمرها.

الثلاثاء 26 تموز ستريدا جعجع في صالون الشرف في مطار بيروت الدولي.
يرجع شريط الذكريات كله إلى الوراء.
بدت أقوى من الذكريات ومن الجميع حضوراً وغياباً.
تلمس قميص الحكيم مرات ومرات. يكلمها تطأطىء رأسها مستمعة إليه. تدور حوله كمن يفتش عنه. تلتفت اليه حين يتحدث عنها التفاتة القائل لا يحلو الكلام إلا عنك ومنك.

كيف استطاعت هذه المرأة أن تجمع بين صلابتها وضحكة الفتاة الصغيرة التي لم تفرح بعريسها. وبين نعومة حركتها وإعطائها أوامر تنظيمية واضحة للجميع.
تعرّفه بالجدد. تذكره بمن غاب طويلاً. تفتش عن أي سبب لكي تبقى إلى جانبه.
لم يبق أحد في المدينة يوم الثلاثاء إلا وتحدث عنها.
هي التي تستحق أن تقول أنها خرجت من سجن الزيارات الأربعمائة.
ترى هل صحيح ما يُقال إن المرآة التي تحب تستطيع أن تكون زوجة وعشيقة وممرضة ومديرة حياة ومنظمة انتفاضة وعيون طفلة صغيرة، عصب الوالدة وحنان الشقيقة وفخر الأهل كلهم. وفوق ذلك عصرية في الشكل وفي المضمون.
هذا كثير لكنه ممكن معها.
كأن هذه القدرات مدوّنة في عقد زواجها ومختومة بالشمع الأحمر.
أبحث لنفسي عن مكان في هذه الزاوية وأتذكر..

عرفت “أميرة” تفوقها قدرة وحب.
لكل حسابه أليس كذلك؟ لا أنا السجين الاشهر ولا هي زوجتي.
تنقل الجبل بأصبعها. تجعلك تصدق ان البحيرة المجمدة أمامك هي من البحر المتوسط. فيها رائحته ألا تشمها؟
تغرق وإياها في بحر من الشتاء الأوروبي حتى لا تستطيع بعدها السير. لا مكان تحتمي فيه من غضبة السماء. تخبرك عن دراسة قرأتها مؤخراً عن فائدة الشتاء للصحة. تضحك هي وانت تصّدق. لا خيار لك .
تصف الاشياء بجمالها فقط. هي ليست كذلك. لكنك تراها بعينيها. تستسلم .
تجعل من المنفى نزهة. لا تستعجل العودة أنا قادمة.
تفعل .
خصصت لك رقم هاتف لا يعرفه أحد ولا يتوقف عنك يومياً. تقرأ الصحف بعينيك تسمع الاخبار بأذنيك. تعرف تماماً ما يهمّك.
فوق كل ذلك أخر نميمة في البلد.
تخبرك كم ان مكانك لا يملأه احد في البلد. قبل ذلك لم يخلق من يأخذ حصتك عندها.
تغار بالاشارة. لا تتحدث عنها.
تسكت عن مرضها. تعرف انت صدفةً. تريد شراء شيء من الصيدلية في اسفل الشانزليزيه.

كنت منفياً لسنوات ثلاث في باريس المدينة الأجمل في العالم ولا أرى جمالها.
أتمسك بأحلام “الاميرة” افتقد كلامها. ضحكتها. حدقات عينيها. كلامها الذي لا يتوقف. عرض كتفيها.
القادرة على نقل جبل لا تستصعب خطف أحلام رجل؟
هي ذهبت.. احتفظت انا بالأحلام…
ألست أنا الرجل المتزوج؟

أعود إلى ستريدا التي قال لها كبير قريتها بشري قبلان عيسى الخوري يوم زارته في منزله بعد الانتخابات هذة هي السيدة التي حفظت نفسها وحفظت زوجها إحدى عشرة سنة. وهذا يكفي لتستحق المقعد النيابي.
كل نساء المدينة تحسدك. ليس على المقعد النيابي ولا على “الحكيم”. لا تخافي. كل منهن كُتب اسمها مرات.
إلا أنت كُتب اسمك أربعة الاف مرة، هي عدد الرسائل التي كتبها لك.
أين تحتفظين بها ؟
نهاد..