أبطـال كثـر لروايـة واحـدة …

مقالات 27 فبراير 2008 0

يعتب عليّ أصدقاء وأحبّاء لأنني لم أكتب مذكّراتي عن السنوات التي “عشتها” مع رفيق الحريري الانسان قبل أن يكون سياسيا.
أجبتهم وأنا أجاهد في الكلمات أنني عاصرت الرئيس الحريري في وقت كانت فيه السياسة تقرّر في دمشق في أحسن الاحوال وفي أصعبها ايضا. أما بين الأحسن والأصعب فالقرار لا يتجاوز قرية عنجر البقاعية حيث كان اللواء غازي كنعان الصورة الظالمة لكل حقيقة.
صحيح أن الرئيس الحريري واجه دون انقطاع ومنذ الاسبوع الاول لرئاسته الوزارة هذا الواقع فنجح قليلا وتراجع كثيرا عن محاولاته. لكن هذا لا ينفي الواقع السوري المهيمن على السياسة اللبنانية في تلك السنوات. فمن أين لي أن أروي سيرة الأحداث بين العام 88 والعام 99 ، والناس في غالبيتهم كانوا على غير حقيقتهم ومغلوبين على أمرهم في قولهم وفعلهم وضعفهم وقوّتهم. مع الاشارة الى ان القوة لم تكن مرة ذاتية بل دائما مستوردة.
كانت الأحجام تقرّر مسبقا والمواقف تُرسم قبل إعلانها، سواء ناسب ذلك المكلّف بالقول والموقف أم لم يناسبه. أضفت محاولا الاجابة دون أن أتحمّس أن سيرة رفيق الحريري ليست سيرة شخص مهما كان حجمه، ولا سياسي أياً كان تأثيره، ولا ثري مهما بلغت ثروته. بل رواية مرحلة من الزمن فيها الكثير من الادوار والابطال في حياته العامة وحياته الخاصة وفي رئاسته لمجلس الوزراء وفي سدّة داره. فيها نهار وليل واستقبال وموائد طعام ومواقع للراحة. فيها الأب والزوج والخصم والصديق. فيها صور لمن أساء وتسبّب بأذى لا حدود له ولا مبرّر له بل تبرّعا، وهو من يحق له الدخول والخروج الى قريطم القديم باعتباره من الملتحقين به.
فيها من احتمى بصلة “الالتحاق” فغنم ما استطاع وألقى باللوم على الشهيد كيفما دار ومهما فعل. فيها الصديق الذي لم يعد صديقا حين تسلّم خصوم الحريري السلطة. فيها حكاية الدار التي فرغت من زوارها وهم أنفسهم سارقو خيرها أيام السلطة، والغائبون في غيابها الى حد أن الهاتف في قريطم لم يعد يرنّ.
فيها العربي واللبناني والدولي. لكل منهم رواية ولكل منهم سيرة وحكاية. فيها فترة العزّ العام حين كان الناس يقفون بالصف طالبين “دقيقة من وقتك” لتحمّلك كلمة اليه ـ أي دولة الرئيس ـ وهم أنفسهم من غاب عن وجه أصغر أولادك، بتهمة أنك والدهم، حين غضب عليك سيّد الأمن الدمشقي. فيها من السيدات اللواتي يسئن لسمعة سلالتك وليس لسمعتك فقط.
عمّن تكتب؟ من أنت حتى تنصّب نفسك وحيدا مسؤولا عن رواية الحق والحقيقة؟ هذه مسؤولية الآلهة وليس البشر. ليس هناك من سيرة دون بشر. وليس هناك من رواية دون أبطال. لا أريد لنفسي دور البطل، ولن أمنح أحدا ما لا يستحقه من وصف حيادي سواء أكان شريرا أم خلوقا لو كتبت، ولن أفعل.
لست وحدي معنيا بهذه السنوات الطويلة من الحياة مع رفيق الحريري. هناك قلة غيري. فليفعلوا كتابة السيرة. أنا لن أفعل. سأكتفي بدور الشاهد الذي يتذكّر حادثة أو طرفة أو شخصا بالذكر الطيب. وكفى الله المؤمنين القتال.
عوّدت نفسي أن لا أقرأ من الكتب ما يصدر عن الرئيس الشهيد لأنني لا أريد لنفسي دور القاضي الذي يؤكّد أو يرفض ما ورد في الكتب، خاصة أنني ابتعدت 5 سنوات عن يوميات الرئيس الشهيد. مع اعترافي بالجهد الذي بذله من ألّف كتابا.
لم يقنع هذا الكلام الشاب الاقرب الى قلبي والذي أرى في توقّد عقله ما لم يتح لي أن أراه في نفسي. ولا أقنع صورة رفيق الحريري التي لا أراها إلا حيث ولد وتربّى وعرف الخير وحمله معه في طريق عودته الى صيدا. هي صورته. السيدة التي لم ينكسر أحد كما فعلت بعد اغتياله مسلّمة أمرها الى الله كما تفعل كل يوم في صلاتها. في مجدليون منزل العائلة تستطيع أن ترى رفيق الحريري كل يوم ومتى أردت، لا تحتاج الى جهد لتجد انه لا يزال يسكن في عيني شقيقته بهية. يسكن الإنسان فيهما، المواطن البسيط الصادق الذي بدأ حياته من هناك ولم تترك عيناه صورة شجر الليمون ولا أهل البساتين حتى وافاه الغدر.
ماذا لو قلت ان في سعد ما يتقدّم على والده في ناحية محددة، وان ظروف الوريث لا تسمح موضوعيا بالمقارنة مع تجربة والده. هل سأتّهم بأنني أعرّض الأسطورة في الشهيد وأتقرّب للواقع في الزعيم الشاب؟
هل أكتب عن سيرته السعودية وهي مملكة أسرار وأنا لا أعرف عنها إلاّ منه. أم سيرته الفرنسية التي لم أكن أرى بطلها الرئيس جاك شيراك بالعين التي رآها هو فيها. في حين لا يستطيع أحد التدقيق في حقيقتها إلا رفيقه الباريسي باسيل يارد.
ما الذي سيأخذني الى سيرته السورية حيث أبطالها لم يعودوا هناك. توفى الله الرئيس حافظ الأسد وانتحر غازي كنعان وتقاعد العماد حكمت الشهابي مستبقا الخراب بين النظامين اللبناني والسوري ما جعله يرتاح بين فرنسا والولايات المتحدة الاميركية. وانتقل عبد الحليم خدّام الى المعارضة الباريسية بعد أن استنزف أصدقاءه الواحد تلو الآخر وبعد أن جعل من صداقته للرئيس الحريري منجما للصراعات في البلدين، وكانت النتيجة اغتيال الحريري. بينما سيرة الرئيس بشار الاسد مع الشهيد رفيق الحريري ما زالت قيد التحقيق.
تبقى سيرته اللبنانية. ما إن أرى أمامي ما يذكّرني ببعضها حتى أصاب بالمرض أو بالقهر، فمن يريد لنفسه هذا الشعور؟ هل أكتب عن الذي طلب مني الرئيس الحريري طرده من منزله في باريس فرجوته وقبّلت رأسه أن يستقبله لدقيقة واقفا وأنا أتعهّد بتوديعه. فإذا به يصبح بعد سنوات واحدا من أسياد القول والفعل؟ أم أكتب عن الثلاثة الذين قال عنهم الحريري، إنهم سبب سوء سمعته وسمعة منزله، فإذا بالأول ثري كبير والثاني أكثر منه ثراء والثالث ذهب الى مصادر أخرى.
ثانيهم على الأقل لا يزال يغرف من بئر الثروة نفسها. لم يمنعه أحد فلمَ لا يفعل؟
هل أروي سيرة من حقق ثروة نفطية بسبب الرئيس الحريري واستمر على طلب التمويل لتقصير في حساباته النقدية. فحصل على ما يريد. والآخر الذي حقّق للرئيس الشهيد الحصة الاكبر من سوء سمعته، بسبب رواية افتعلها وسوّقها بالدموع المستعارة ؟ أم من وصفه الشهيد بالغبي فإذا به مرشّح للوزارة. ومن سمّاه بالحرامي مرشّح للنيابة؟
هل أكتب عن القابع ساعات في صالة قريطم القديم ليحظى بنظرة رضى، فإذا به الآن علم من أعلام السياسة وصورته دائمة على كل الشاشات. أم أتحدّث عن من بلغ في نفاقه حد إحضار نماذج من الثياب الداخلية له ليختار منها. ينافسه آخر كبير في الشأن العام، يخلع جاكيتته ويطوي قميصه متطوّعا لتدليك قدمي رفيق الحريري المتعبتين من عبء النهار. أم عن المنخفض الى الأرض ليصلح شريط الحذاء فيمنعه الحريري من ذلك، ليكمل انخفاضه بعد ذلك لغير الرئيس الشهيد.
هذه ليست السيرة. لكن السيرة أشخاص فهل أكتبها دون أبطالها، أم أقول نصف الحقيقة فأحمّل نفسي ما لا طاقة لي به. فأصبح ممثّلا في مسلسل “حبيب العمر”، الذي فيه من الشهادات ما يدين إنسانية رفيق الحريري بقدر ما فيه من شهادات أخرى صادقة، أولّها وليس آخرها “جدّو محمود”.
جالدت على نفسي كثيرا لكي أتجاهل كل هذه الصور. فهناك صور أخرى جميلة وصادقة وحقيقية حاولت أن أعطيها بعضا من حقّها في ما كتبت منذ ثلاث سنوات. الى أن كانت الذكرى الثالثة لاغتيال الرئيس الحريري منذ أسبوعين. اكتشفت أنني لا أعرف الرئيس الشهيد وأن السنوات التي عشتها معه ليست موجودة إلا في ذاكرتي. وان نفي السنوات الخمس التي أمضيتها حيث سمح لي الأمن السوري بالاقامة ليست إلا أوهاما أراجعها في أوقات فراغي.
وجدت أبطالا على كل الشاشات يتحدثّون عن رجل لا أعرفه. لأنهم وحدهم قادرون على وصفه بما ليس فيه ولا في طبعه ولا في شخصه ولا في حضوره.
أراد هؤلاء الأبطال أن يصنعوا من الشهيد قدّيسا وهم ملائكته! فجعلوا منه كل شيء إلا ما كان عليه من بشر.
هذا قدر الاسطورة فلمَ التدخّل فيه؟
لم أنجح بالاستسلام لهذا القدر، ولا أردت لأسطورة رفيق الحريري ما سمعته من أوصاف. ولن أكتب مذّكرات فما العمل؟
هناك ثلاثة من رفاق الشهيد الحريري يستطيعون كتابة سيرة عن مرحلة محددة أو عن كل المراحل. أولّهم “ابو الهول” عبد اللطيف الشمّاع الذي لا يكتب ويدّعي أنه لا يقرأ ولا يسمع وهو الأمين على معرفة الخاص والعام لسنوات طويلة من حياة رفيق الحريري والسامع لكل همسة والمتابع لكل الوقائع من غرفة النوم الى رئاسة الوزراء الى محافل العالم.
الثاني هو باسم السبع الكاتب الهارب من الكتابة والسياسي الشاهد على خطى رفيق الحريري السياسية منذ خطابه السياسي الأول في الجامعة الاميركية في بيروت وحتى اغتياله. والمتابع لما يعتبره واجبا عليه من الحرص على التقدّم السياسي لسعد الحريري.
والثالث هو وسام الحسن الضابط الذي أدار مكتب الشهيد في السنوات الثماني الأخيرة من حياته وشارك أو تابع أو استمع الى كل ما قيل ودار وتقرّر في هذه السنوات.
رابعهم هو “دولة” فريد مكاري الذي راقب على تقطّع انخراط الشهيد الحريري في العمل السياسي. قبل أن يهب حريته الشخصية والعامة لسعد الحريري ملازما له للثأر لاغتيال الرئيس الشهيد.
هذا لا ينتقص من الاعتراف لهاني حمّود بأنه خاض المعركة الاشرس اعلاميا وسياسيا للمعارض رفيق الحريري بين العامين 1998ـ2000 في زمن عزّت فيه الشجاعة للقيام بمثل هذه الحملات على نظام أمني مستبّد. ولا يقلّل من صفاء نديمي الرئيس الشهيد الزميلين فيصل سلمان ومحمد شقير حين كان وجودهما في يوميات الحريري مخالفة للسائد من العادات. ولا يتجاوز رداء الصداقة الذي غطّى دائما علاقة الدكتور بهيج طبّارة بالرئيس الشهيد أو بالمسؤوليات الوطنية التي جمعت دائما بينه وبين الوزير السابق للمالية والرئيس الحالي لمجلس الوزراء فؤاد السنيورة.
للآخرين أياً كانوا، وهم كثر، القدرة على شهادة لواقعة أو لأيام من حياة رفيق الحريري.
السيرة مسألة أخرى ….
سيقول قائل إنني سمحت لنفسي بما ليس لي من حق ولا عليّ من واجب. ربما. سيقول هذا بسبب أسطر. فكيف بالمذكّرات