آخر ”البيزنطيين“ اللبنانيين

مقالات 15 يونيو 2012 0

لا تنصف غسان تويني دون أن تضيف جديداً الى ما قيل وكتب عنه وهو الكثير في 60 سنة من العمل العام. ولو لم تفعل ستكون لا سمعت منه ولا قرأته ولا تعلّمت عليه، وهذا نادر على كل من عمل في السياسة أو الصحافة أكثر من عشر سنوات.
عاد الشاب غسان تويني على عجل الى بلاده من الولايات المتحدة الأميركية ليتابع إصدار صحيفة بعد وفاة والده المفاجئة. أتى وفي ذهنه الكثير من أفكار الحداثة والعصر، فجعل من “النهار” نموذجاً في العمل الصحافي العربي فضلا عن اللبناني. ليس بالشكل فقط و”النهار” كانت رائدة في هذا المجال، ولا بالمضمون وقد صنعت من الكثير من كتّابها، نجوماً قبل أن يصبح التلفزيون الوسيلة الوحيدة لانتشار الشخصية العامة لأي كان، ليس هذا فقط، بل لاعتماد نظام الشركات المساهمة قاعدة اقتصادية لاستمرار الصحيفة. تمتلك فيها العائلة والكنيسة الأرثوذكسية حصة كبيرة من الأسهم، فاتحاً الباب أمام قادرين على تمويل استمرار صدورها في الفترات الصعبة، إنما دون دور مؤثر وفاعل للممولين على سياسة الجريدة. “فالنهار”، من وجهة نظر غسان تويني، صحيفة “عامة” تعنى بشؤون اللبنانيين والعرب دون تفريق في الخدمة الاخبارية. ولا تخوض المعارك الا في المسائل الوطنية الكبرى. ولو أن هذه الوطنية لم تكن محل إجماع في لبنان، على عادة اللبنانيين ومنهم الاستاذ غسان…، ان الوطنية سلاح يشهرونه في وجه الآخر في الوطن نفسه.
حاول غسان تويني دمج حزبيته، بنجاح تجربته “العامة” في الصحافة فلم يستطع.
تخلّى تويني عن حزبيّته علناً، ناقداً تجربته، لكنه أبقى على أمرين: الأول انتماؤه العقائدي، إذ أن القومي السوري لا يخرج من عقيدته إلا بالوفاة، بعد ان وجد نفسه ناشطاً في حزب يميني حديدي النظام، بينما طبيعته ومهنته هي الدفاع عن الحريات السياسية وتعدّد الآراء في لبنان أولاً وما تيسّر من العالم العربي.
الثاني هو الحدة في المواجهة والقول التي ادخلته السجن ثلاث مرات … الأولى دفاعاً عن زعيم حزبه أنطون سعادة، والثانية بسبب مقال ثوري، والثالثة لمواجهته سياسة الرئيس سليمان فرنجية، حين أظهر غسان تويني التزامه النهائي في الدفاع عن الحريات وأولها حرية الصحيفة “العامة” في التعبير عن مشاعر الجمهور الأوسع من الناس.
ظهر هذا تحديداً في مواجهته السياسية للرئيس فرنجية الذي ترشّح من مكتب تويني. وخاضت “النهار” معركته ليفوز بصوت واحد على منافسه الياس سركيس مرشّح الشهابية العسكرية. فإذا ب”النهار” لا تهادنه رئيساً حين يخطئ.
أخذ غسان تويني معه الى الدبلوماسية حضوره الطاغي في الإعلام، فتحوّلت المهمة التي كلّف بها في الامم المتحدة الى قضية وطنية. استطاع تويني ان يثبت ان سفيراً لبلد صغير مثل لبنان يمكن ان يلعب دور الشريك الأساسي واللامع في صياغة قرارات دولية، أهمها ما فاخر دائماً بتحقيقه أي القرار425 الذي انتزعه من مجلس الأمن الدولي إثر الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام .1982 ولم ينفّذ ـ ولو منقوصاً ومن جانب واحد ـ إلا عام 2000 حين انسحب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان، تحت ضغط المقاومة.
جعل تويني من تمثيل لبنان في المحافل الدولية، مهمة وطنية تساوي في حجمها وقدرتها، حجم هيئة سياسية كبرى أكان اسمها مجلس الوزراء في بلاده أم حزباً سياسياً كبيراً ومنتشراً على كل الاراضي اللبنانية.
لم تشفع له هذه النجاحات في مهنته ودوره، في الخلاص من الضعف تجاه الأدوار التنفيذية السياسية. وهو ضعف ورثه عن والده الذي توفيّ وزيراً وأورثه نجله جبران الذي استشهد نائباً. تأخر كثيراً حتى اعترف بأن “اختيار الصحافي للوزارة اختيار فاشل” حسب تعبيره. أخذ معه حالة التمرّد التي تسكنه الى وزارة التربية حين تولاّها، فعانى الفرق بين نصرة قضية الطلاب وبين الحوار معهم من موقع الوزارة. استقال دون ان يحقّق غايته، وهي قدرة الصحافي على إدارة الدولة، التي يباهي حين يكتب مقالاً انه قادر على التأثير في سياستها.
فشل غسان تويني في التخلّص من الصحافي الناجح في شخصه، والأرجح انه لم يرد ان يفعل في المواقع الرسمية التي شغلها. احتفظ دائماً بعينه الناقدة، وحدّة تعابيره، والقدرة على الخلاف حول كل المواضيع، فوجد نفسه في السياسة التنفيذية طائراً يغرّد خارج سربه.
حداثة في الصحافة حتى ولو كانت الكنيسة الأرثوذكسية شريكاً في المؤسسة. وطنية في الدبلوماسية حتى لو جعل الوطن ينقسم حول دوره. العقل الصحافي المستقل في الادارة التنفيذية للدولة. هل تختصر غسان تويني هذه العناوين؟
بالطبع لا. اذ ليس فيها جديد. ما لا يعرفه عنه الكثيرون انه آخر ورثة عقل الامبراطورية البيزنطية الارثوذكسية في لبنان من المدنيين. باعتبار ان المطران جورج خضر لا يقبل منافساً له من اللبنانيين في تمثيل عقل الامبراطورية القديمة، وخاصة ان ممثلها في سوريا بطريرك انطاكية وسائر المشرق للروم الارثوذكس اغناطيوس الرابع هزيم، هو زميل تويني في الدراسة والصديق الدائم له.
ليس في انتماء تويني البيزنطي تخلياً عن عروبته ولا لبنانيته، بل بالعكس هو أخذ من الامبراطورية تقاليدها وعنفوانها ليعلن مع زملائه في الإرث الامبراطوري، ان الوجود الاسلامي في المنطقة العربية متأخر ولاحق لوجود الروم الغساسنة فيها. هذه النزعة الامبراطورية سهّلت لغسان تويني ان يكون في عداد بناة الصيغة اللبنانية حيثما حلّ، ولو بقي وحده. اذ ان اللبنانيين لا يتحمّسون في معظم الأحيان للمعارك في سبيل الديموقراطية والحداثة والدولة الجامعة. لم يتعلمّوا من التجارب ان الحروب التي عرفوها وتعودوا عليها لا تربح بل تحقق لهم خسائر متكررة. لذلك لم يتحزّب له اللبنانيون الا في مأساته الشخصية المتوالية في خسارة ابنته الوحيدة ونجله الاوسط ثم نجله الأكبر اغتيالاً.
حين تدخل الى منطقة رأس بيروت تجد فيها علامات المدينة، جامعة، مستشفى، اسلوب حديث في الحياة، أضاف اليها غسان تويني “النهار” صحيفة حديثة صباح كل يوم، فأصبحت العلامة الأبرز لتقدّم الحياة في مدينته. هذا قبل ان تنتقل الصحيفة الى وسط المدينة فتصبح الجغرافيا هناك قبل “النهار” أو بعدها.
هذا هو غسان تويني؟ ربما أكثر… إنما بالتأكيد ليس أقل من ذلك على الاطلاق