نهاد المشنوق في استواء تجارب العمر

قالـوا عنه 27 أبريل 2019 0

قاسم يوسف

ثمة أشخاص كالماء. يدخلون السياسة ويخرجون. بلا لون ولا طعم ولا رائحة. وثمة آخرون كالنبيذ. يسكرون معها ويُسكرون. يُراقصونها برشاقة على رؤوس أصابعهم. ثم يستحيلون جزءًا لا يتجزأ من ضلعها. تكبُر بهم ويكبرون. وحين يترجلون يتركون في مُحياها فجوة لا تندمل وأثرًا لا يغيب.

نهاد المشنوق هو واحدٌ من هؤلاء. ولد من صلبها وفي رحمها. ثم استحق أن يصير عرّابها وحارسها: كلما طلع عليها الصبح استراح واستكان. وكلما ليّل ليلها استحال النديم الذي يملأ كأسها حتى الجمام.

لكل عشرية في مسيرته نكهة خاصة. بدأها صحافيًا يكتب مقالته بالسكين. قبل أن تُورّثه بيروت وحكيمها عُصارة هدوئه وصبره وأناقته، وتلك الإبرة التي اعتاد أن يحفر فيها جبلاً. صار بعدها نهاد المشنوق أشبه بعازف كمان في حلبة مصارعة. يلتزم القواعد والأصول، ويُراكم ما استطاع إلى التراكم سبيلاً. تمامًا كما لو أن الضربة القاضية حاضرة دومًا في جيبه.

حين حطت به الرحال في رحاب رفيق الحريري، بدا أنه عصيّ عن الذوبان في امبراطورية تضج بالمستشارين والمحترفين وكبار القوم. سطع نجمه أمام سطوة كل هذا البريق. وبات وحده دون سواه مسؤولاً عن أدبيات سياسية جديدة راح يُرددها رفيق الحريري على المنابر وفي الصالونات. عاجلاً اتخذت دمشق قرارًا بسحقه ونفيه وتدميره. وقد فعلت. ضمن واحدة من أفظع وأبشع مشهديات الحقد والظلم على الإطلاق.

من النيابة إلى الوزارة. تدرّج نهاد المشنوق على درب جلجلة مريرة. عانى ظُلم الأقربين والحاقدين وشذّاذ الآفاق. وقد صبر حتى ملّ منه الصبر. فيما لسان حاله يُردد ذاك الصدر والعجز من رائعة أبي الطيب: فصِرتُ إذا أصابتني سهامٌ، تكسّرت النصالُ على النصالِ.

ختم نهاد المشنوق عشريته الأخيرة بغصة. أصل الغصة يعود إلى رصيد العمر الذي وضعه برمته على طاولة الوفاء لسعد الحريري وقضيته ورسالته. حمل كرة النار منفردًا في أحلك الظروف وأدق المراحل، غير آبه باحتراقه على مذابح الضغينة. ثم وقف كالرمح في وجه العاصفة التي هبّت من الرياض، بينما ابتلع عتاة القوم ألسنتهم وهم يبحثون خلسة عن موطئ قدم في معادلة العار: مات الملك عاش الملك.

لست انقساميًا ولا انفصاليًا. قالها الرجل بينما كان الخنجر في خاصرته شاهدًا على جرح لا يطيب. ثم ودّعنا بهدوء وهو يتلو فعل الخشية من سقوط الحريرية الوطنية، على سجية صديقه الذي استودع الله هذا البلد الحبيب.

ترجّل نهاد المشنوق لحظة استواء تجارب العمر. ابتعد واعتكف وغاب. لكنه يعلم، ونحن قطعًا في العالمين، أن أمثاله لا يبتعدون ولا يعتكفون ولا يغيبون. هي مسألة وقت لا أكثر. ستبحث السياسة خلف نديمها. وستملأ الكأس له حتى الجمام.