حازم صاغية كتب في “الحياة”: “الطلب على بوتين.. وعلى روسيا أيضاً
منذ أن شاع خبر «القروض» التي حصلت عليها «الجبهة الوطنية» الفرنسية، وقيمتها تفوق الـ11 مليون دولار، راحت الصحف الغربية تُفرد مساحات أوسع للتمويل الروسي الذي تحظى به تنظيمات قومية متطرفة، في أوروبا والولايات المتحدة، وتتشارك في توفيره الحكومة والكنيسة ومعاهد بحثية وإعلامية في موسكو.
بيد أن المسألة تنتهي بالتمويل ولا تبدأ به. فوفقاً لتحقيق نشرته «نيويورك تايمز» في 3 كانون الأول (ديسمبر) الجاري، يتبين أن الإعجاب ببوتين يتعداه إلى حب روسيا نفسها، كما يتجاوز زعامات شعبوية كترامب، أو يمينية تقليدية كفيون، إلى تنظيمات صغرى ومتوسطة على جانبي الأطلسي، من «بريطانيا أولاً» و «الحزب القومي البريطاني» إلى «الحزب التقليدي العمالي» الأميركي، ومن «الفجر الذهبي» اليوناني إلى «اليمين الجديد» الروماني…
هكذا، مثلاً، يرى ماثيو هايمبان، زعيم «الحزب التقليدي العمالي»، المتشدد في القومية البيضاء والدفاع عن الحضارة المسيحية، في بوتين «قائداً للعالم الحر»، فيما يجزم سام ويكسون، وهو قائد سابق لـ «كوكلوكس كلان»، بأن «روسيا الموقع الحدودي في أقصى الشرق لشعبنا»، وأن الروس «العازل بيننا وبين الغزو الشرقي لوطننا والحامي الكبير للعالم المسيحي. إنهم الشعب الأبيض الأقوى على الأرض». ويضيف أودو فويت، زعيم «الحزب القومي الديموقراطي» في ألمانيا، الذي يخون المستشارة مركل لفتحها الباب أمام النازحين السوريين: «نحتاج إلى مستشار كبوتين، إلى شخص يعمل لألمانيا وأوروبا كما يعمل بوتين لروسيا».
والحال أن الرئيس الروسي لم يعبر عن آراء ومواقف كالتي تطلقها التنظيمات المتشددة هذه. وهو لم يتورع عن اعتقال بعض تابعيها الروس القائلين بالتفوق الأبيض. إلا أن الإعجاب الذي يلقاه في صفوف تنظيمات كهذه يكمل الحب الذي يُمحَض لبلده روسيا («الروسيا») بوصفها القبلة والنموذج.
وإذا كانت الأزمة الراهنة للديموقراطية الليبرالية والصعود الكوني للسياسات الشعبوية يفسران الإعجاب بسيد الكرملين، والذي بات يسهله على الجماعات اليمينية في الغرب انهيار الشيوعية السوفياتية، فإن محبة روسيا أعقد قليلاً.
فهي بلد كبير وقوي، خصوصاً متى كُتبت قيادته لزعامة عدوانية كزعامة بوتين. لكنه، إلى ذلك، يتمتع بدرجة بعيدة نسبياً من الصفاء العرقي الأبيض، الذي يزيده صفاءً أن روسيا نفسها ليست بلداً يقصده المهاجرون، أو يفتح ذراعيه لهم، مما يهدد ذاك الصفاء ويعرضه لتأثيرات أعراق وأجناس «منحطة». بهذا يلوح البلد المذكور خزاناً بشرياً لبيض المجتمعات الغربية، الديموقراطية والتعددية، ممن تساورهم هواجس الانقراض فيعادون الديموقراطية والتعدد. لكن روسيا عندهم خزان أفكار تقليدية كذلك، إذ هي حصن القيم المسيحية الشرقية أيضاً، لا سيما في مواجهة الإسلام، حيث أبلت البلاء الحسن على رقعة تمتد من الشيشان إلى سورية. هكذا التقت رجعيتا الأمة وزعيمها عند سياسة جنسية متطرفة في عدائها للممارسات «غير المقبولة»، كالمثلية والتحول، مما تناوئه بشدة تلك التنظيمات الغربية الداعية إلى نقاء الجنس والعرق. ومن هنا يفد العداء المشترك للعولمة والأمركة والكوزموبوليتية والروابط العابرة للحدود القومية، كالاتحاد الأوروبي أو حلف الأطلسي الذي يخافه الروس خوف الطاعون. وفي محفل من الأفكار كهذا، تقيم دائماً جرعة، قوية أو معتدلة، من اللاسامية، إذ اليهود، تبعاً للتقليد الخرافي الرائج، هم الرموز الدائمون لتلويث الأوطان والأديان والقوميات.
وقصارى القول إن الطلب على روسيا، بنقائها النسبي الأبيض، ومسيحيتها الشرقية الأقل تقدماً، وقيادتها العدوانية، يرقى إلى حاجة تسعى إليها البؤر المتخلفة في البلدان الديموقراطية الغربية. وهذه عواطف كان قد برز بعضها في حرب البوسنة في التسعينات، حيث أطلت المسيحية الأرثوذكسية مصحوبة بالسلافية والتفاخر القومي لتدافع معاً عن نقص غربيتها وانهجاسها بـ «الخصوصية» تلك.
ومذاك نمت لهذه العواطف أنياب تقضم راهناً مدينة حلب «المسلمة» و «الكوزموبوليتية» في آن، وتحاول أن تستعيد الأنياب السوفياتية. فـ «الروسيا» سبق أن قاتلت الديموقراطية الليبرالية من «يسارها»، وكان اسمها يومذاك الاتحاد السوفياتي، وها هي تقاتلها اليوم من «يمينها»، واسمها روسيا البوتينية، أما الهدف فواحد يجمع بين الشُلل اليمينية والفاشية، القليلة «الغربية»، في الغرب، والشُلل العسكرية والأمنية، المتسترة على «شرقيتها» الحادة بادعاء «غربية» بالغة الشكلية، وبزعم علمانية تكافح الإسلام بوثنية ترفع الأسد وبوتين (ونصرالله وأنطون سعادة…) إلى مصاف الآلهة. وعندهم جميعاً، كلما كثر الكلام في «الحضارية»، انكشف نقص التحضر وزاد تهديد الحضارة، وصولاً إلى الهندسة السكانية التي وعد بها مؤخراً حاكم سورية.