“يوميات بيروتية”: إنطباعات روائي جزائري في بيروت
***
استغربت تلك النادلة الشابة وهي تراني جالساً إلى طاولة المقهى أكتب لاكثر من نصف ساعة غارقاً في عوالم تخييلية جميلة، وسألتني هي أيضاً من أين أنا؟ وسألتها من أين هي؟ والحق أن اسمها بدا لي غريباً: “آشا”، وظننت أنها ليست لبنانية بل سورية أو فلسطينية، ولكنها كانت فتاة فضولية وقالت لي: “أحببت هذا المنظر”.. سألتها أي منظر؟ ردت أن أشاهد شخصاً يجلس في هذا المقهى الذي أعمل فيه، ويكتب.. هل تكتب مذكرات؟ قلت لها: “نعم”.. ارجو أن تذكرني في مذكراتك.. أجبتها: “حاضر”.
في بيروت تبدو الحياة قاسية على البعض ومنشرحة للبعض الآخر، وفي هذه المدينة الجميلة التي لها ألف وجه ووجه تبدو “المصاري”، أي النقود، هي الحقيقة الوحيدة المتفق عليها من الجميع، ويا ويل من ليس عنده مصاري ستطحنه بيروت بلا رحمة.
***
دخلت مكتبة صغيرة في آخر شارع الحمرا يبدو أنها فتحت أخيراً، لأنني لا أذكر أنني شاهدتها منذ زيارتي الماضية التي مرّ عليها سنة تقريباً.. تأسفت عندما وجدت “المكتبة الشرقية” مغلقة وبعض المكتبات خاوية على عروشها ومكتبة “أنطوان” الجميلة تعج بكتب بالفرنسية والإنكليزية وكتب الأطفال.. المهم إسم المكتبة “الرافدين” وهي دار نشر أيضاً وقلت لها عندنا رجل أعمال عراقي في غاية الأدب واللطف يملك مجمعاً كبيراً بهذا الاسم وهو من العراق قالت إن صاحب المكتبة عراقي، اقتنيت رواية “مصائر” الفائزة بـ”البوكر” وبضع ترجمات بوكوفسكي بالعربية. الأسعار فاحشة طبعاً، ولكن ما العمل؟ هذا شأن عاشق الكتب.. لكن ما لفت انتباهي أن اقترحت علي كتاباً حديث الصدور مترجم بعنوان “جوهر المسيحية“، قالت لي جيد جداً شكرتها على نصحها… وابتسمت بيني وبين نفسي إنها فتاة ملتزمة بالحجاب ومع ذلك تبدو منفتحة على مختلف القراءات ولا تضع حدوداً في ذلك.
***
لحسن الحظ كنت أمشي قرب “الجامعة الأميركية” عندما وجدت محل يبيع أقراص “دي في دي”، وعثرت على معظم أفلام تاركوفسكي هذا الذي شاب شعري وأنا أبحث عن افلامه في بلادي.. ولكن خاب ظني عندما وجدت أغلب أفلام عباس كياروستامي الإيراني ولكن بدبلجة إنكليزية وليس فيها لا فرنسية أو عربية.
***
على هامش “ملتقى الرواية العربية” كانت لنا سهرات كثيرة نحن المشاركين كنا نتجمع في هول الفندق ونستأجر سيارتين أو ثلاث ثم نتوكل على الله.. فليل بيروت مفتوح على السهر والحياة، وأجمل ما في بيروت هو هذا الاحساس أنك تستطيع أن تفعل ما تشاء.. خذ نصيبك من الحياة الدنيا ولا تكترث لأن لا أحد سيتكترث بك.. حتى أنت لن تكترث بنفسك.. يمكنك أن ترقص وتغني حتى الصبح.. يمكنك أن تبقى هكذا في عوالم سعيدة ومبهجة كأن بيروت تقع في سويسرا وليس في مكان متاخم للمآسي والحروب.. نعم، فهمت لماذا صمد البيروتيون حتى في قلب النار المشتعلة إنهم يحبون الحياة ويوفرون لأنفسهم ولمن يزورهم كل الطرق لكي يحبوها هم أيضاً.
صدق الكاتب اليمني جمال جبران الذي ينادونه في بيروت بـ”جيمي”: الشعوب التي لا ترقص شعوب ميتة.
***
كان يخيل إليّ أنني في باريس أو لندن من كثرة ما شاهدت الفتيات والنساء يرتدين الميني جيب دون مضايقة أو إزعاج من أحد ربما لأن الكل مشغول بالجري خلف لقمة العيش أو تجارة رابحة، وليس عندهم وقت فارغ يضيعونه في معاكسة ومضايقة الفتيات والنساء على ملابسهن. في بيروت عرض الأزياء في الشارع وليس في قاعات مغلقة.
***
عندما تغادر بيروت وتعود إلى الجزائر ينتابك شعور غريب أنك ستودع بهاء الحياة إلى الحياة الروتينية التي تركتها خلفك.. كنت متألماً من فكرة أن الجزائري رغم عنفوانه ورغبته المشتعلة في أن يعيش كبقية الشعوب الأخرى حَرم نفسه أولاً من ذلك وحُرمت عليه الحياة من جهات احتكرتها لنفسها على ما يبدو.. جهات نافذة لا تنظر إلى حق الجزائري في الحياة كحق مشروع فهو يليق به أن يعيش دائماً في نوع من الشقاء أو الازدواجية بين التحريم والواقع..
صباحاً فقط وأنا ألج مقهى شعبي سمعت النادل يقول له كل الطرق مغلقة بسبب الفتيات اللواتي يركضن في الشارع.. علق عليه الآخر: هذا فقط ليتزوجوا… وما دام المستوى هو هذا وتفكير الجزائريين في النساء مشتبه فيه غالب الوقت فلا أحد سيعيش أو سيعرف معنى العيش.
(*) كتب الروائي الجزائري بشير المفتي هذه الانطباعات بعد زيارته بيروت للمشاركة في “ملتقى الرواية العربية الأول” في “أشكال ألوان”.