الاتحاد التونسي للشغل في قصر الأسد
كتب حازم الأمين في الحياة: أحدثت زيارة وفد من الاتحاد التونسي للشغل سورية ولقاؤه بشار الأسد مرارة في أوساط مدنية سورية معارضة، ذاك أن الاتحاد المذكور يملك شرعية تمثيلية واسعة، وكان له دور حاسم في مجرى الثورة التونسية. وبغض النظر عن البعد اللاأخلاقي للزيارة، إلا أنها تطرح تساؤلات حول موقع النظام السوري في أوساط غير دينية، عربية وغير عربية.
في تونس يتقدم النظام السوري في معظم الأوساط اليسارية والعلمانية، وفي تركيا تنجذب المعارضة القومية والليبرالية لـ «قيم النظام السوري» غير الدينية. بقايا اليسار اللبناني وعلى رأسهم الحزب الشيوعي حلفاء النظام في سورية، وقوميو الأردن ويساريوه على ندرتهم يقيمون علاقات متينة مع السفارة السورية في عمان.
لكن الظاهرة امتدت لتشمل أوساطاً يسارية أوروبية أيضاً، وبعضها له صفات تمثيلية واسعة. فمرشح اليسار الفرنسي الخاسر في الانتخابات جان لوك ميلانشون أعلن في برنامجه الانتخابي نيته تصحيح العلاقة الفرنسية مع نظام بشار الأسد، ويصح ذلك بنسب متفاوتة مع الكثير من الأحزاب اليسارية في دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي.
سقطة اليسار الأخلاقية بانحيازه إلى نظام إبادي استعمل السلاح الكيماوي أكثر من مرة، متفاوتة المصادر والأسباب. فاليسار العربي، والقوميون إلى جانبه، كان وقف إلى جانب صدام حسين في كل المحن والمحطات التي واجهها نظامه، وموقعه الآن هو امتداد لذلك الموقع الارتزاقي.
موقع اليسار الأوروبي أكثر تعقيداً، إلا أنه لا يخلو من بعد استشراقي وعنصري لا يرى أن الشرق في حاجة إلى قيم العدالة الغربية، وأن الحساسية حيال نظام قاتل ليست جزءاً من قيم مشارقة العرب ومغاربهم. تفسيرات كثيرة وصحيحة يمكن أن تستدرجها زيارة الاتحاد التونسي للشغل دمشق ولقاؤه مسؤولين فيها غارقين بدم السوريين، لكن، ثمة لحظة يجب أن نصدم أنفسنا بها نحن المذهولين من سقطة الاتحاد التونسي الأخلاقية، تتمثل في مسؤولية «الإخوان المسلمين» عن هذا النزوع غير الأخلاقي لنخب واسعة التمثيل. في تونس مثل انحياز حركة النهضة الإسلامية للثورة في سورية منذ بدايتها وبالاً على هذه الثورة، وفي تركيا كان لاحتضان حزب العدالة والتنمية النخب السورية المعارضة ومصادرته قرارها ارتداداته التركية الداخلية، وفي مصر يصح ذلك إلى حد بعيد.
والحال أن «الإخوان المسلمين» بمختلف فروعهم تصرفوا على نحو يوحي بأن الثورة السورية ابنتهم، وأنها امتداد للربيع «الإخواني». فتحوا الأبواب والحدود لسلفييهم ليتسللوا إلى المدن السورية الثائرة، فالتقوا مع رغبة النظام في تحويل الثورة إلى حرب أهلية. النهضة التونسية فعلت ذلك، وحزب العدالة والتنمية التركي فعل ذلك أيضاً، وتحفز «الإخوان» الأردنيون للانقضاض على صلاحيات الملك بفعل شعورهم بوصول الربيع «الإخواني» إلى جارتهم سورية. وهذا ما خلق حالة ذعر هائلة في معظم هذه البلدان، عبرت عنه تونس بهزيمة النهضة في الانتخابات، ومصر بالثورة على ثورة «الإخوان» والأردن بسجن قيادات «إخوانية» كانت أبدت طموحاً بملكية دستورية تُهمش فيها صلاحيات الملك.
وما أن بدأ الربيع «الإخواني» بالأفول حتى بدأت الصفعات العربية توجه للثورة المهيضة في سورية، والأخيرة كانت في طور تحولها حرباً. وهنا كان النظام يتقدم في وعي النخب العربية وغير الدينية، وفي موازاة ذلك كان يتقدم أيضاً في مستويات عنفه وبطشه. قصف الغوطة بالكيماوي معتقداً أن خوف العالم من «داعش» وأخواته في سورية يتيح له ذلك، ويبدو أن حساباته كانت صحيحة. وكشف الإيرانيون عن دور حاسم ومباشر في الوقائع الدموية السورية، وهذه حقيقة شدت من العصب الإسلامي الموازي لفصائل المعارضة، وجعلت من «داعش» طرفاً أهلياً موازياً.
هذه الوقائع لم تكن بعيدة من المعطيات الداخلية لدول مثل تونس وتركيا ومصر والأردن. تجربة حكومة النهضة في تونس أوجدت قابليات تونسية للانحياز إلى بشار الأسد، وتجربة العدالة والتنمية في تركيا أيضاً، وحكم «الإخوان» القصير لمصر كشف عن شراهة «إخوانية» سهلت على الجيش مهمة الانقضاض على الانتخابات.
المرارة السورية المتولدة عن زيارة الاتحاد التونسي للشغل يجب أن تذهب خطوة إلى الأمام في انذهالها. «الإخوان المسلمون» مسؤولون أيضاً عن هذه السقطة الأخلاقية.