… أمّا وقد أصبحنا وطنيّين
كتب حازم صاغية في الحياة: أخيراً أصبحنا وطنيّين. قبل شهرين فقط لم نكن كذلك. كنّا نكره بعضنا قليلاً. الآن؟ حبّ خالص. كلّنا وطنيّون. كلّنا من دون استثناء.
في شهرين فقط، وطنيّتنا نمت وشبّت. ما شاء الله! سرعتها غير مسبوقة في تاريخ الوطنيّات. نقف منتصبين حين يُعزف النشيد. نمشي وطنيّاً. نأكل وطنيّاً. إعلامنا وطنيّ. فنّنا وطنيّ. أغانينا وقصائدنا وطنيّة. كلّ ما فينا وطنيّ. أجهزة التلفزيون تكاد تنفجر حبّاً للوطن. الإذاعات طناجر ضغط وطنيّة. حناجر المطربين والمطربات فوهات تخرج منها نيران تحرق أعداء الوطن.
من لا يزال صوته منخفضاً بيننا فليسلّم نفسه إلى أقرب مخفر.
أطفالنا وطنيّون. منذ شهرين باتوا يولدون وطنيّين. الكلمات الأولى التي يتلفّظون بها لحظة انفصالهم عن أمّهاتهم: «رئيسنا المفدّى». يصفنون قليلاً متأمّلين أحوال العالم الذي أتوا إليه ثمّ يؤدّون التحيّة ويروحون ينشدون «بحبّك يا لبنان».
نصطفّ جميعاً أمام الوطن كلّ صباح، مثلما يصطفّ تلامذة المدرسة حين يرنّ الجرس. الوطن، في آخر المطاف، مدرسة كبرى. نتأكّد من أنّ أظافرنا مقصوصة ولُحانا حليقة وآذاننا نظّفناها بعيدانٍ قطنيّة. نتأكّد من أنّ ملابسنا زاهية وضحكاتنا عريضة قبل أن يدعونا أستاذ حصّة التفاؤل الوطنيّ كي ندخل في الوطن. ندخله كلّ صباح واثقين من أنّ غدنا سيكون أفضل من يومنا، وأنّ ما بعد غدنا سيكون أفضل من غدنا، وهكذا دواليك في حركة صاعدة من العزّة والكرامة… ولا ننسى العنفوان والسؤدد أيضاً.
هل قلتَ: طائفيّة وطوائف؟ هذا لا يوجد عندنا. يوجد عند سوانا. أنت جاسوس.
هل قلتَ: حروب أهليّة؟ معاذ الله. كلام استشراقيٌّ. إيهان لنفسيّة الأمّة. بلى، حروبنا جاءتنا من الخارج. حطّت بالغلط في بلدنا. إنّها حروب الآخرين على أرضنا. نحن أخوة في الله، ومنذ شهرين في «حزب الله» كذلك…
اللبنانيّون فعلاً صاروا وطنيّين، بل وطنيّين متطرّفين. كثيراً ما عُيّروا بأنّهم ليسوا كذلك. بأنّهم نالوا استقلالهم من دون دم وشهداء. كان يقال لهم، في معرض التعيير، أنّ الجزائر دفعت مليون قتيل، فينظرون بخجل إلى أنفسهم: من أين نأتي بالمليون؟ قبل شهرين، كانت الرغبة بالمليون تعني للّبنانيّ المتوسّط شيئاً آخر هو «من يربح المليون؟».
هذا تغيّر كلّيّاً. هذا هو الزمن السابق. زمن الضلال والفرقة والجاهليّة. نحن الآن، بعد القشعريرة البنّاءة التي سرت في أوصالنا، مستعدّون أن نبذل مليوناً من البشر، بدل أن نفكّر بكسب مليون من الدولارات. حتّى صاحب برنامج «من يربح المليون؟» صار متحمّساً أن يضحّي بمليون شهيد!
في السابق، تراءت لبعضنا فكرة معقولة لمعالجة عقدة نقصنا المزمنة: نعلن الحرب على فرنسا فتحتلّنا من جديد، وتتيح لنا الفرصة كي نقاومها. بهذا نقدّم المليون شهيد ونمسح عارنا مرّةً وإلى الأبد. لقد زاد عددنا وأصبح أمر كهذا ممكناً. نعم، نقدّم مليوناً على مذبح التاريخ. بهم تتفولذ النفوس. بهم تنصهر الإرادات. بهم نصير رجالاً رجالاً، كلّ واحد منّا، بمن فينا النساء، رجل رجل.
صرنا وطنيّين. قلوبنا تخفق بمجرّد أن تخفق رايتنا. عقولنا لا تشكّ في ما هو حقّ ولا تتساءل. نسير إلى طلب الحقّ بعقل واحد. بالأحرى: نقف في الحقّ هذا بعقل واحد.
لكنْ فيما نحن نحتفل بوطنيّتنا، شاهدنا سيّداً يتلصّص علينا من وراء شاشته العملاقة ويقهقه. لقد سمعناه يقول: في وسعي أن آخذهم جميعاً إلى بحر الوطنيّة وأردّهم عطاشاً. في وسعي أن أكبّر الوطن وأصغّره، وأن أوسّع المعادلة التي تنهض سياسته عليها وأضيّقها. في وسعي أن أقنعهم أنّ الوطنيّة تعني كذا، ثمّ أقنعهم في اليوم التالي أنّها تعني كذا، وكلّ كذا تختلف عن الكذا الأخرى خلافاً ضخماً. لكنّهم، لحسن الحظّ، لا يرون ذاك الخلاف. إنّهم مسحورون. إنّهم مقتنعون. إنّهم لا يرون. إنّهم وطنيّون!